تؤَّنبني نظرة شيخي الذي يتجلى من بعد غياب في وضح نهار يرسل أشعة شمسه اللاهبة، قبالة عينيي المؤرقتين بسهاد ليل غير مفارق، ودوران في فلك حيرة ملغزة لا يستقر فيها الشعور على مرفأ للطمأنينة والأمان حتى بحلم يقظة لطيف محلق، حتى تعاود المتاهة حبك خيوطها.. تلف بي العالم كله، وتسحبني في مداراتها المتداخلة.. أنحشر فيها، وينحشر العالم كله في ذهني المتداعي حتى يغلبني الوسن.. على همسه المخترق في روحي:
- الليل ابن الدهشة والغموض.. ابن المتاهة التي لن ينجو منها إلا واثق من نور قلبه، وماض بعزم نحو تذويب خطاياه في ملح الطهر.. ضع قلبك بين ضلوعك واضمم عليك جناحيك.. والتمس النور المنسرب من روحك فهي لا تخطئ وإن جانبها التوفيق مرة وتعثرت في مدارات ارتحالها؛ فإنها تعود أكثر عافية وخفة
تخزني تلك النظرة الموغلة فيَّ، تكشف سوءة نفسي، وهي تهرع كي تتلصص على فتنة ساكنة في ثنايا أجساد ملتهبة تعبر بدن الطريق.. تأوي إليها بلا وعي لحظيا.. تتمادى نظرة شيخي حتى تلهب روحي، وتنضغط في كلمة واحدة
- استغن!
الكلمة التي يلقيها شيخي دائمًا.. تأتيني الآن في نهار كاشف، ليمضي كما يمضي عني كل مرة، غير ملتفت لملامح وجهي التي أيقنتها تبدلت وهرمت بغتة.. أعرف أنه لم يتبخر، ولن يزول أثره عني - وإن كان عناده لي ضربا من التأديب والتهذيب - فحين أمشي وحيدًا أشعر أحيانا بظله يتطابق مع ظلي، ولا أرى ظلالًا لمن تسعى أقدامهم أمام ناظريّ.. لكن الكلمة التي شكلت غيمة مظلة في فضاء ما حولي لم يفارقني صداها، فاستفاقت عيناي دهشة وإيغالا وتورطًا في تعقب انشداهة تجذبني في مدارات بعيدة.. أستعيد فيها فتنة آسرة أعلى إيقاعا وتفردًا واستدعاءً لرائحة لا تكاد تفارقني حتى تعود مخترقة كياني كعبق أثير للوجود يعطيه معناه ورونقه.. أكادها الآن تستعيد مشهد تجسيدها مرة أخرى، لتتبع غيمة شيخي.. تصاحبها.. تجاورها.. تكاد لا تنفصل عنها.. تتماهيان فيَّ حتى تكادا تكونان شيئا واحدا يظللني.. تتوحدان.. تتباعدان.. تسبق إحداهما الأخرى، ثم تعودان للالتصاق والتماهي..
يتغير إيقاع نظرات شيخي لي .. تتحول إليَّ بعين عطف، فتأتي الانفراجة.. يهمس فيَّ:
- النهار ابن الصراحة والوضوح والأمل؛ والصرخة المدوية التي يفعلها فعل النور ليجلي لك الحقائق، ويفتح لك دروب الدهشة ويضعك على ملمح مغاير من ملامح اليقين، فلا تذهب بعيدًا عن الشمس وإن اكتويت بها، فهي خير لك من لسعات البرد المحتملة في الظل الغائبة عنه، ولا يفصل بينهما إلا خيط برزخي رفيع.. ربما لا تشعر به، ولكنه طيَّار.
أسعى بين الظل وبين الشمس مراوغًا تراودني فتنة التجربة، أتقلب بينهما، فأصطلي أحيانا بالبرد المنسرب كلسعة مناوئة، وأكتوي أحيانا أخرى بحرارة ولزوجة العرق الدبقة التي تغطي جبهتي، وتضعف مدى إبصاري وتركيزي في الطريق.. تخز مسامي وتضجرني؛ فينقلب مزاجي وتضطرب خطواتي، وتتلاعب بي الرغبة الجامحة في البقاء فيما بين بين، فيما تلومني نظراته المتباعدة عني متمتمًا بكلمات لا أكاد أسمعها..
تتبدل ملامح وجهه.. يبسط على وجهه غلالة من ضوء متعكر بالضجر وهو يومئ لي رافضا صحبة غيمتها التي لا تزال تلح في قربه من بعد ما ابتعدت عنه وعني في مراوغة جديدة من مراوغات الفتنة المتوهجة، والتي قامت من محارتها البعيدة المختبئة في عمق محيطي، ويقف بعيدا عني ولا يتحرك، فيما يتركها تهيم حولي محاولة الانفراد بي مرة أخرى!! ولسان حاله يعيد لي قولته: استغن!
تقودني خطواتي كي أرتقي الطوار الممتد بواجهاته الزجاجية التي تستقبل روعة النهار بتلك الأجساد المحنطة داخلها.. تتشابه الأبدان، فيما يختلف ما عليها من أردية، منها ما يستتر، ومنها ما يقف كامل التجرد كاشفًا عورته التي صارت بلا معنى ولا شغف، في انتظار ما يحوِّل تلك الوحشة التي يثيرها العري الخالص إلى الفتنة التي تحدثها قطع الملابس المنسقة والموضوعة بحذق كي تضفي وتبرز مكامن الإغراء والإثارة.. أتذكر كلماته: "لا شيء يحجب الحقيقة ولو اتشحت بأثوابها المتعددة والمتغيرة، ولا صوت يعلو فوق صوت القلب إذا علا وجيبه مؤمنا على فتواه بالقبول أو بالعصيان"..
تستغرقني اللحظة في لجة لعبة التشابهات واستنساخات الوجوه والملامح التي تتناثر لتعيد ترتيب أبهتها في وجوه التماثيل التي أقامت كرنفالا للدهشة والعجب، فكل الصور تتماهى مع ملامح تلك الفتنة التي تحولت إلى عبق أثير وتطوف الآن في مدارات لا أدري عنها وربما لا تدري عني.. تنعقد حبال الدهشة على وعيي وتتكاثر الصور، ويجيش الصدر بهمهمات، فلا أشعر تماما بوجود شيخي، حتى إذا استغرقني الأمر أكثر.. تصارع صوته متباعدا مع صوت ناعم جاء من عمق سحيق:
- "استغن.. وإن أردت أن تجدني؛ فابحث عني بداخلك، ولكن بعمق"
[email protected]