الإثنين 3 يونيو 2024

د محمد مصطفى حسانين يكتب: "جنازة جديدة لعماد حمدي" لوحيد الطويلة أو مجازات الهوس بالقوة

فن8-10-2020 | 19:28

أحسب أن القارئ لرواية وحيد الطويلة "جنازة جديدة لعماد حمدي" لن يجد صعوبة كبيرة في الانغماس في عالمها الخيالي، وخطابها السردي؛ فطبيعة الوقائع والأحداث بل الشخصيات التي تصوغها، تلامسُ رصيدا مرجعيا وحياتيا ممكنا وأليفا رغم ترديه وبشاعته، فهناك نوع من المشاكلة بين النماذج التشخصية المصورة وحياتنا الواقعية، بعبارة أوضح: الفضاء الذهني لتاريخنا القريب، فالرواية تمثل بشكل أو آخر، لونا من الرواغ المستمر، والحركة المتدفقة بين واقعية وحشية خشنة، في شخصياتها وأفعالهم وتاريخهم، ووجه آخر، شاعري للغة، متدفق الإيحاء، يميل إلى لغة رشيقة ساخرة، لغة القاهرة المفعمة بإيحاءاتها وحكايات مثقفيها وضحكاتهم الساخرة المريرة. 

وأظن أيضا أن القارئ لن يستطيع الفكاك من مطاردة مفهوم "الهوس بالسلطة"، من عنوان الرواية إلى الاهداء وحتى الاقتباسات الافتتاحية، فالعنوان محرض على السُّخرية المرة والمفارقة التكرارية للسقوط والموت، والاهداء نابضٌ بالتهكم من القتلة (إلى المسجلين خطرا: تصحبكم السلامة!)، كما أن التصدير المقتبس من رواية (صلاة تشرنوبل) كاشفٌ عن عبثية الموت والشر المستفحل حين تصبح ممارسته طقسا مقدسا لدى المتسلطين (..لا يوجد شرفاء هنا، إنما قديسون)، وهنا يحمل الاقتباس الآخر من فرجينا وولف وعي الكتابة بمسؤولية التنديد الجمالي بالشر والقمع باستبدال الزناد بالقلم والفرشاة،(كم مرة استعمل الناس القلم والفرشاة لأنهم  لا يستطيعوا ضغط الزناد؟).  



-1-

         تبدو الرواية لحد بعيد وكأنها جراب كبير تخرج منه -عوضا عن الأفاعي والحيات-مجموعة كبيرة من الشخصيات الخارجة عن القانون، عبر توظيف جمالي لتقنيات التصوير ورسم البورتريهات المشوهة التي تتلاعب بها فرشاة الراوي المهووس بالفن والسلطة في آن. فشخصياته "وجوه خليط من ذئاب وبشر"، أو بشر "غادروا إنسانيتهم قشروها ونفدوا". وتتعاقب مشاهد خروجها أو السرد عنها من خلال الحامل السردي المركزي أو الشخصية الأساس التي يمثلها صوت الضابط (فجنون) الذي ترك العمل بالبوليس منذ أشهر قليلة، وتستدعي ذاكرته تفاصيل حياته كلها وقت شروعه في أداء واجب عزاء في نجل (ناجح) أحد أهم المسجلين خطرا، ليقصّ على (المخاطب-المروي له) من القراء التفاصيل الدقيقة لوجوه المجرمين وأصواتهم وملابسهم ومراوغاتهم، التي يقع في مركزها ناجح رئيس دولة المسجلين خطرا، فلم يكن مسجلا خطرا فحسب بل كبير المرشدين الذي طالما أعتمد عليه، بل يعد السرد عنه النص المركزي في كل صفحات حياته، وكأنه العائلة والأسرة والصديق.

     لكن استعادة الضابط لماضيه تلقي ضوءا تفسيريا للحمولة الدلالية المرادة من صياغة شخصيته، وأبعاد ترهينها ليس سرديا فحسب بل تاريخيا وثقافيا، فلقد دخل البوليس بروح مغتصبة، لم تأخذ عملها على محمل الجد، مثلما لم يأخذه رفقاء الوظيفة أيضا على محمل الجد، هكذا أطلقوا عليه وصف (فنان) ينادونه به كناية على عدم مناسبته لأجواء الوظيفة. ثم تطور الأمر إلى مسمى "فجنون باشا" لقب لم يختره ووظيفة لم يخترها. فن وجنون. الاسم والوظيفية، أبطاله الحقيقيون من المسجلين خطرا، القادرون تحدي القانون رغم كل العواقب، وتنفيذ ما يحلمون به دونما اكتراث لأحد، وهو موقف يقع على الطرف النقيض من شخصيته المنقادة لسحل أبيه له. "دخل الشرطة رغم أنفه، بسطوة الأب الضابط الكبير، وهو خريج المدارس الفرنسية يكتب المقطوعات الموسيقية وموهوب في الرسم ويتمنى أن يكون مذيعا بالفرنسية ورساما لكن ووالده كان يقطع عليه هذه الطريق بأن أبناء الضباط لو تركوا المهنة للرعاع "سيتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم إنّ الزمن القادم زمن الضباط، وأنا أعرف أكثر منك"(ص14). 

         تتناسل صور التسلط في الرواية في تجليات متنوعة، لكنها تتلاقى جميعها في إلحاح الرواية على تجسيد والد الضابط للبنية الأبوية، فهو أب لا يعرف الحوار، أو المفاوضة، مع أولاده، ويميل إلى الإيمان المطلق برأيه، ويسعى إلى فرضه بالجبر والإكراه، فهو رب العائلة والرائي المعتمد لمستقبلها، ولاريب أن هذا الدور يحيل بطريقة أو أخرى إلى بنية السطلة الأبوية وأشكالها التي تعاني منه الذهنية العربية، متدثرة في شكلها العائلي في صورة الأب الذي يغدو على ما يقول هشام شرابي "أداة القمع الأساسية، قوته ونفوذه يقومان على العقاب"(ص 12). ولا ريب في تكريس تلك الأبوية عبر تنميط الرواية للأب بإشارته إلى كونه أحد أبطال النكسة الذي آمنوا بخطابات الإذاعة حينئذ، وأننا على أعتاب تل أبيب، ورغم صحو جيله على الهزيمة، فإنه يراهن على أن الزمن القادم هو زمن الضباط، فحوّل بيته إلى ثكنة عسكرية مكرسة للأوامر والإملاءات. 

هذا الإكراه ظاهر في إجبار ابنيه على الدخول للشرطة، مما دفع أحدهما للهجرة خارج الوطن، ويذعن الآخر الذي يملك روح الفنان فيشعر بالرضوخ والقهر، "أبوك ضابط كبير، خلع ملابسه ودلى لسانه حين رأى امتناعك، حطَّ الجزمة فعليّا فوق رقبتك، أخوك الأكبر استطاع الفرار من الجزمة"(ص 14). وكأنه قٌذف به في قبر معتم، لتغدو خربشاته على اللوحات مدببة ومشوهة ورموزا لأرواح تحجرت تحت شدة القهر، الذي يصبح دالا على بنية واسعة من التسلط سبقه الأب إليها، ووقع في ولعها." ترسم، ترسم بسرعة، سِنّ القلم بقوة، كأنك تطعن إحساسك بالقهر. في النهاية رسمَ حذاءً "بيادة" برقبة طويلة، وفي قلب الرقبة كان وجه أبيه مخنوقا، بعينين من حجارة، وكل فردة من شاربه مُعَلَّقَة بطرف خيطي الحذاء. لم يتنازل عن قراره، وأنت بالكاد وضعْتَ حلمك في رَسْمة. يقول عنك: "يا ابني، أنا طلبت من ربنا ولداً بعيني صقر لا عيني حمامة"( ص 14).   

-3-

فكرة التسلط في الرواية ليست فكرة عارضة، ولا مختزلة في عبارات طنانة معتادة مُصمة للأذن، صنو الحجاج الإيديولوجي المباشر الفج، بل فكرة التسلط في الرواية تركيب سردي مجسد في منتخب دقيق ومتنوع من الشخصيات، لتشكل في فعل القراءة تصورا ذهنيا عن تراتبية أو بنية هرمية بصورة مباشرة أو ضمنية، ظاهرة أو خفية، وكأن هناك نزعة سلطوية شاملة عالقة مع هذا الهوس بالسلطة، ومن الطريف أن هذه الهرمية مقصوصة الأطراف العليا والدنيا في الرواية، فقمة الهرم خفية، يأمر ولا يظهر، وفي القاع هناك البنيات الدنيا التي تئن وترى في مجرد صورٍ عابرة لها وكأنها غائبة. 

    إن لعبة الإبراز هذه لمتنفذي السلطة دالة على دورها المفصلي في أنها حلقة وسطى، قامعة ومقموعة، إنها أداة للمعاقبة لما دونها، وعين المراقبة للدولة، ولأنها مجرد أداة أو جلاد فهي في النهاية واقعة تحت عبء البنية الشاملة للتسلط، وتظهر فيها أمراضه المزمنة في صور الهوس بالسلطة ولعب أدوار القوة والنفوذ. حينئذ يتحول المشهد كله إلى لوحة مشوهة ممتلئة بالجريمة والحرب ويحكمها إيقاع الجرينيكا: "فكر الآن في لوحة الجرنيكا لبيكاسو، لوحة الحرب الأهلية في إسبانيا، تتخيل أنك ترسم أفضل منها، تضع أمناء شرطة يتواطؤون على إبلاغ المجرمين بوعد الهجوم عليهم، وضباطا يطاردونهم بمسدساتهم ..مجرمون يقهقهون في جنبات اللوحة، غبار يتطاير من الأقدام، دخان يُظلّل فضاء اللوحة من كل الجهات، ويصد لأعلى، يكاد يخرج من الإطار، يكاد كل مَنْ يشاهدها أن يشم رائحة المخدرات، ورائحة الخيانة، ويسمع قهقهات المجرمين. رسمت ساعتها هاتفا قديما يخرج من سماعته كل شيء، الصوت والحشيش والأمناء، والدخان يحوم حول الجميع"(ص 39).

    لقد مضى على نحو ساخر نموذج الأب ورؤيته لزمن قادم، ليصبح المسجلين هم أسياد المرحلة وعنوانها. فدون مواربة تكشف الرواية عن نوع الجهاز الأيديولوجي الجديد ممثلا في تحالف الثلاثي الضابط وناجح وعبقرينو أو " الضابط والمرشد والغاوي، اتحاد جمهوريات مثل الذي كان يتم في ليلة ويتفكك بعد أسبوع، اجتمعنا بقلب واحد بلون واحد من الداخل والخارج، المصلحة واحدة وإن اختلفت الأهداف، أنا أريد أن أربح القضية وعبقرينو يريد أن يربح قضيته الشخصية وناجح قضيته الزعامة على طريقته"(ص 134). فبتوبة ناجح الظاهرية يتحول من كبير المسجلين خطرا إلى كبير المرشدين، ليبني مملكة تستطيع أن تفعل كل شيء دون أن تُرى، "فهم مساعدون للحكومة وذراع لها"، "مجرمون يرشدون عن مجرمين"، وما ناجح إلا "فيلسوف الجريمة الذي طالما انتحل هوية الضابط"،  في زمن "تراجع فيه الأمن العادي على حساب الأمن السياسي". لقد كان ناجح مرشدا للحكومة أو السلطة التنفيذية، بينما أصبح هوجان ابنه يلعب في ملعب السياسة، ومجال الانتخابات، فإذا كان بوسع ناجح أن يجلس بسهولة مع رئيس المباحث، فإن هوجان يستطيع أن يجلس مع "رئيس البرلمان نفسه"(ص182) بعد أن كوّن فرقا من العاطلات اللواتي يتصدرن المشهد أمام اللجان رقصا وفرحا وزغاريد. بل أصبح الضابط نفسه مؤمنا بمبدأ أن "موهبة المسجل تسبق أحيانا موهبة الضابط، أو تسبقه في الفعل بخطوة".

  كانت العلاقة بين هذا عناصر الجهاز قائمة على نوع من الخدمات المتبادلة والمقايضة بين ناجح والضابط، فلم تعد علاقة المسجل خطر بالشرطي علاقة عداوة وملاحقة على ما يقتضيه القانون، فهذا عرف مضى زمنه، وتعبير عن فترات سبقة! كانت فيه العلاقة بينهما علاقة عداوة ومطاردة، فناجح الآن يطارد مع الضابط المجرمين، ويدله على مخبأ الطرائد والصيد الثمين، وفي الوقت نفسه، فإنه يدله على غرماء ومنافسين له لإزاحتهم من طريقه، وإن ظل يحمى عشرات الأوباش والمجرمين واللصوص. كانت تلك العلاقة تجسيدا لهذا الاعتراف الضمني من الدولة بهؤلاء المارقين عن سلطتها سلفا وخدام نفوذها ومنطقها الآن، ولذلك فإن ناجح "ليس عدوا للدولة، بل لعب اللعبة الكبيرة التي ساعدته أنت فيها، وهو أن يكون مخبرا ومرشدا للحكومة بمكافأة رسمية من وزارة الداخلية رأسا"(ص 40)  فقط ينبغي "ألا يسمح له أن يتغول". 

-3-

    تشد الرواية بنية مزدوجة الأطراف في إطار وحدة متناقضة، فالثنائيات التي تبدو متنافرة، تعبر عن بنية شاملة من النقائض التي يحيا بها المجموع، ويحرص على حضورها، وتكريسها، بل يخلق ردائف موازية لها، لتقدم صورا عن هذا النزوع الجمعي أو الخفي لخلق الصراعات الوهمية، مجسدا في أفعال الهروب والإزاحة الضمنية اللاوعية نحو ما هو أقل كلفة من المخاطرة بالصدام مع قمة الهرم نفسه، لذا  كانت الثنائيات هي اللعبة السائدة التي يلهو بها الجميع بعيدا عن الدولة. " كل شيء في البلد ثنائيات عدا مقعد واحد، الأهلي والزمالك، عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، عمرو كباب وتامر حسني مبارك، الضابط والمسجلون خطرا، يخلق الناس الصراع ليعيشوا فيه، ويعيشون به"(ص166).

     تصور الرواية التمازج الذي قرّب أطرافا يفترض تنافرها، بل غدا مرضى السلطة والخارجين عليها في حماية السلطة وحماة لها في آن! فأصبحت صيغة التعايش والاعتماد المتبادل حجر الزاوية في تهشم مفهوم "القانون" و"الفن" و"الجمال" وإقامة صروح العزاء الكبير، لذا فإننا لن نجافي منطق السرد في القراءة حين نرى في هذا التلازم مجازا دالا على المقايضة المحسوبة التي أدت إلى مسخ اجتماعي وثقافي، فلم يكن من قبيل المصادفة أنه في وقت تصاعد المسجلين خطرا على الواجهة أن يتصاعد أيضا وعي مهشم، كسير، هرم، فيصبح المجتمع كله وكأنه في حرب داخلية، أصبح المجتمع كله هوامش مبتذلة تتصارع في سلم الخدم، وتتزاحم في طوابير انتظار التسلق. " الغرام  بالسطلة ليس عند البوليس أو المسجلين أو اللاعبين فقط، لعنة تسري بشراهة حتى بين المشجعين"(ص211). ويظهر هذا الهوس بالسلطة في لعاب الطلاب وأسرهم التي تسيل أمام الالتحاق بكليات الشرطة كل عام(ص60)، أو  هوس البنات بالبدلة الميري.  وليس غريبا في ظل تلك البنية أن يتحول الهوس بالشرطة والسلطة إلى المجرمين أنفسهم الذي ينتحلون أدوار الضباط في القسم وخارجه، أمثال عبقرينو وناجح وباسل فضلا عن شخصيات متنوعة تحشدها الرواية لطلاب فاشلوا في الالتحاق بها فانتحلوا صفات الضابط في كمائن لتقودهم السخرية إلى سيارة ضباط متخفين! بل نرى المفتش المزيف الذي يترقى من ضابط بوليس إلى ضابط مباحث، ليقضي حوائج الناس، ويزور الشهادات، وكأنه "بابا نويل الغلابة". أو حتى سائق مكروباص حملات الأمن الذي يقلد الضباط، وغيره من النماذج الكثيرة التي تعج بها الرواية. وكأن شعار السائد هو الانتحال والتقليد والتمسح في اذيال السلطة، ليصبح عنوان هذا العالم: "الجميع ينتحل، ولم لا، السلطة مغوية، تعمي القلب، تلغيه، تسمح بالكذب بالتجريب وخرق كل شيء"(ص72). فهذا الهوس بالسلطة يظهر حتى بالادعاءات الملفقة حول النسب والأصل والعائلة " لا تعرف هذا الهوس الذي ضرب مخ الناس- أي مهبول أو واحد مسه شيطانه أو من معه قرشان- ليدعي أنه من الأشراف، حين يصادفك يخرج لك ورقة مثقوبة في مواضع كثيرة، مهترئة توحي بالقدم، تؤكد على نسله حتى النبي أو أبو طالب، ولا يمتد لأبو جهل أبدا رغم كل هذا السواد"(ص 108). 

-5-

لكن المفارقة أن هذا العالم تؤسسه بنية تغزل بين ثنائية السلطة والقمع وثنائية الفحولة والخصاء، لتغزل الرواية بوعي جمالي ورؤيوي بين مظاهر الهوس بالسلطة وبؤس مظاهر القمع، التي تصبح مرضا يصعب علاجه، "كل الأمراض تشفى، وتقل الهرمونات مع العمر إلا هرمون السلطة والعظمة وانتفاخ الذات"(ص 158). فتغدو تلك الثنائية الفرعية متولدة عن البنية المهيمنة لشكل السلطة ومجازاتها التي تلقي بكل قوتها على الشخصيات. وليس بغريب أن نلمح مجاز عقدة الخصاء Castration anxiety في تكوين شخصية فجنون الهجينة حتى على صعيد اللقب، بل نلمحها في التوتر الداخلي بين انقياد أبوي نحو السلطة، وموهبة مقموعة، لتصبح صورته تمثيلا "لروح مغتصبة" أو مشوهة من الداخل، فلا هو موضع تقدير من زملاء العمل أو رؤسائه ولا هو استطاع بموهبته الفرار. وتتجلى سلطته المنقوصة في عوزها المستمر لعون المرشد والغاوي دائما، بل كانت عبارة: "أنت متهم بإقامة علاقة مع مسجل خطر" تتردد على مسامعه طيلة الرواية، وكأنها تشير لمعنى لمبتذل لتدل على أن سلطته مبتورة مخصية، على صعيد الوظيفة، والموهبة في آن، على ما يقول السارد " ضابط طري"، وهو الخصاء نفسه الذي يتجسد في فقدان الأسرة، وعدم الزواج والإنجاب، أو "عاريا بلا عائلة قديمة أو جديدة".

  وليس ببعيد عن مجاز الخصاء في تلك المداعبة الإيروسية التي تجاسرت عليها الخادمة معه مرات. ولم يكن ميله لعقد علاقة مع الراقصة إلا محاولة لرفض داخلي لحالة الاستلاب والفقد الداخلي التي يعانيها. بمعنى آخر، ظل هذا التوتر تعبيرا عن عدم قدرة فجنون عن الخروج من البنية الأبوية أو التي تشي على نحو أو آخر  برمزية العقدة الأوديبية Oedipus complex، إذ يرتبط الخصاء في الرواية بتجسيد مشهدي دال على الهرب، والإقرار بقهر السلطة للمجرم، ومحاولته الفرار من العقوبة في مشهد دام (لسيد كبايه) يبقر فيه خصيتيه أمام الضابط وعبقرينو، ويرتبط الخصاء أيضا بفعل التنازل الطوعي عن الرجولة مقابل المال في موقف (شحته الصعيدي) الذي يٌعرض عليه بيع خصيته مقابل مليون جنيها. 

    وعلى صعيد آخر، فإن حضور فعل الذكورة ولحظة الأورجازم Orgasm (الرعشة الجنسية أو هزة الجماع أو النشوة)، لا يأتي لعبقرينو إلا داخل القسم، وتنفجر بصورة بارزة على ثيابه لحظة حله لغز القضايا الغامضة. فهذه الفحولة مجرد عرض من أعراض خصاء السلطة لا يأتي تعويضه إلا في كنفها. إنه على صعيد آخر، نوع من الحرب والكر والفر المحسوب بين الطرفين، "من لا تكسره عين الحكومة يكسر عينها، ومن لا تتبول عليه الحكومة يتغوط عليها"(ص94). هذا الحرص على الذكورة في مجتمع يقوم على خصاء كامل للسلطة، يظهر حتى في إشارة عابرة غير ذات أهمية تبدو في حرص شخصية الأصفراوي على ارتداء "خواتم  ذهبية ذكورية ضخمة تلمع في أصابعه"  (33).

       إن الرواية تبدو في صراع محموم لتمثيل هوس المقهور بالسلطة، وطرائق رواغه منها، وتحايله عليها، وعبثه بها، ومداراته لها، واللعب على حبالها، والتسلق على اكتافها. في الوقت الذي يعاني بشكل أو آخر، من قهرها. لذلك تسيطر على الرواية شخصيات تخوض في أوحال الجريمة، وتظهر عليها التشوهات الأخلاقية، والهوس المرضي بالسلطة، والنرجسية، وانحرافات السلوك العدواني، والعنف.

-6-

ولا يقف هذا العالم السفلي، أو العالم الخفي والموازي للعالم، عند شخصيات مغروزة في بئر الخطيئة والظلام والجريمة، بل يتصادى هذا العالم مع العالم المعاش ويتشكل بمرأى منه، إنه مكون أيضا من موسيقى وغناء بوهيمي، من أغنيات نابعة من مجموعة واسعة من تلوثات سمعية، فهناك أغاني المهرجانات و المكروباصات والأفراح وحفلات الشوارع المكتظة بكل صنوف الخروقات للأخلاق والقيم، وليس غريبا أن يكون الصوت السردي نفسه مستلبا ليكون صدى صوت :"واحد ابن حرام، قاعد جوَّه نافوخي. واحد كله إجرام، آه منه يا خوفي..". هذا الحس الساخر يجد صداه في لوحات الضابط التي تثير ضحك صديقه في الوظيفة ليقول له ضاحكا: "لماذا رسمتَ كل الوجوه حادة؟ حاذر أن يراك أحدهم". تضحك، يتوقف عند صورة جماعية بوجوه ومؤخرات منتفخة، تعلو صيحته:" العسكرية الوارمة". قلت: "كنتُ أحاول اصطياد الروح"(ص198).

 وليس غريبا أن تتوازى تلك السخرية مع عدم اكتراث الضابط بالوقائع بل يبدو في عدة مواضع مترددا في حكاياته، فينهي حكاية الروسي بأنه ألقيي القبض عليه، وقضى عقوبته في السجن، ثم يخبرنا بأن هذا لم يحدث وإنما أطلق على نفسه النار ومات. " يبدو أنني مَن فقدتُ طاقتي وذاكرتي، لم يسقط في يد البوليس كما أخبرتك، بل صعد على المسرح وبعد أن فتح الحقيبة وضع البندقية بدل الكمان أسفل ذقنه، وبدأ في العزف عليها"(ص29). ويحكي قصة قمر التي كان على علاقة معها واصفا إياها بأنها راقصة، ثم يعدل من رؤيته ليقول " لا، لا، قمر كانت مغنية، كذبت عليك، أنا أهذي معظم الوقت، ذاكرتي خربت، السلوك دخلت في بعضها، حين واجهتها قالت: إنها كانت تحتاج حبيبا، يحبها بصدق حتى لو كانت راقصة، كأنها لا تعرف أن الناس لا يهربون من الراقصات إلا ساعة الزواج فقط"( ص 82).

-7-

من الصعب أيضا على قارئ الرواية ألا ينتبه لمركزية سراق العزاء في علاقته الدلالية مع حركة السرد الكلية، فعلى أعتابه هناك صوت سردي يدعو القارئ إلى الاحتراس من تجربة المخاطرة بدخول سرادق العزاء إذ نسمع إلحاح الراوي على مخاطبة القارئ وتنبيه لخطورة دخول هذا السرادق الذي أقيم ل(هوجان) نجل(ناجح) كبير البصاصين والمرشدين على مستوى القطر كله.  هذا العالم السفلي الغريب ينصحنا الراوي بأن ندخله مجردين من القلب والمشاعر والأحاسيس، كما أننا ينبغي أن نتخلى عن عقولنا وإدراكاتنا الواعية، "تنهد الآن وخذ نفسا عميقا كما علمتك، تراجع خطوتين واسمعني جيدا، علينا أن نعترف أن كل إنسان في هذا البلد يعيش بقلبين، قلب عاشق وقلب ذئب، إذا أردت أن تدخل معي- أنا قررت أن أدخل- اترك قلبك العاشق جانبا، لا ، لا، اخلعه من صدرك، اسحقه بقدمك اليمنى، واستحضر قلب الذئب"(ص23).

إن سرادق العزاء يصبح علامة دالة على استعراض القوة والسطوة والسلطة، ودليل على التمتع بالحضور مقابل الملاحقة، والقدرة على اظهار ترسانة المسجلين أو شخصيات عالم الجريمة، إنه أشبه بكرنفال لوجوه الجريمة والعالم السفلي، وكأن الرواية  تحكي عن تآكل العاصمة الحضارية التي تعج بالفن والثقافة وتحولها إلى مدينة يمرح فيها المطاريد والأشباح ويسيل فيها لعاب ملك الموت. 

إن سرادق العزاء الذي يقف على اعتابه الضابط مؤديا واجب العزاء في ابن أحد كبار المجرمين يبدو على نحو ضدي مع سرادق عزاء عماد حمدي الذي مشى فيه الضابط نفسه في بداية عمله مجرد ضابط تشريفات يسير في جنازة فنان بائسة مثل حياته البائسة! بل لا تكف مفارقة التعادل الدلالي بينهما على صعيدى الفن والمآل حين يجلس في مقهى وفوقه صورة عماد حمدي في فيلم ثرثرة فوق النيل. وهو يرص أحجار المعسل ويقوم بالتخديم على أصحاب الكيف الهاربين من جحيم السلطة. 

   لنقل إن هذا الهوس بالسلطة هو الملاذ الأخير لمجتمع يحتضر فيه القانون، والطبقة الوسطى، والفن، لتغدو جميعها تعبيرا عن الأمة المخذولة، التي ترتفع فيها فئات المجرمين الخارجين عن سلطة القانون، ليصبحوا ندا بند لمنفذي القانون. حينئذ يحل بشكل فوري القبح محل الجمال، والهبوط محل القيمة، والسوقية محل الفن، والعزاء محل الحياة، والاستلاب محل التحقق والجسارة، والوظيفة محل الابتكار.