الثلاثاء 14 مايو 2024

البابا شنودة الثالث

أخبار11-10-2020 | 18:56

ولد نظير جيد روفائيل بمحافظة أسيوط عام 1923م، وهذا هو الاسم الرسمي لقداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية رقم 118، تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة لاحقا) بتقدير عام امتياز عام 1947م، كما تخرج بعدها من الكلية الإكليركية، ومن الواضح أن دراسة التاريخ الفرعونيوالإسلامي بالإضافة إلى التاريخ المسيحي قد أضفى على شخصية الرجل نوعًا من الفضاءات الرحبة التي تستطيع استيعاب التنويعات الدينية والحضارية المختلفة، ولعل ولعه الأدبي وخصوصًا بمجال الشعر قد جعله وكأنه حلقة وسيطة بين السماء والأرض كما يعرف عن الشعراء.


آمن البطريرك الأكبر بأهمية الرهبنة والخلوة، كفيلسوف قديم مكث بدير الأنبا بيشوى سنوات طوال دارسًا وعاكفًا ومنتظرًا الوصول إلى اليقين، والشواهد تخبرنا بأن الرجل قد خرج من تجربته تلك بإيمان مطلق بالدين المسيحي، وبقدرات يسوع ومعجزاته وتضحياته وخلاصه للبشرية، إلا أن الأهم هو وصوله لقناعات راسخة بتسامح الأديان، وأن وطننا يستطيع استيعاب المختلفين عقائديا بكل حب وترحاب، مما رسخ في أعماقه هويتنا الوطنية المصرية، فعمل على إشعالها بقلوب رعاياه.


ولا ينكر إلا جاحد الدور الوطني الكبير الذى لعبته الكنيسة المصرية في حياتنا القديمة والمعاصرة، فمنذ انشقاق الكنائس الشرقية بزعامة مصر عن الكنائس الغربية بعد انعقاد مجمع خلقدونية الشهير عام 451م إثر خلافات تفسيرية ولغوية حول الطبيعة اللاهوتية والناسوتية ليسوع، أصبحت الكنيسة المصرية من حينها قائدة وزعيمة للمسيحيين الأرثوذكس على مستوى العالم أجمع، كما كانت تنظر لمصلحة مصر العليا كأولوية تعلو كل الأولويات الأخرى.


ولقد سار البابا شنودة على نفس النسق التاريخيوالوطني للكنيسة المصرية، ولعل اصطدام البابا شنودة مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات خير دليل على أن الكنيسة المصرية لم ترضخ إلا لصوت الضمير الجمعيالمصري، لا لصوت يفرض عليها فرضًا من هنا أو هناك.


تبدأ القصة عندما رفض البابا شنودة اصطحاب الرئيس السادات برحلته إلى القدس إبان اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة التي أبرمها بطل الحرب والسلام مع الجانب الإسرائيلي برعاية أمريكية معلنًا أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بين مصر وإسرائيل، ولقد رفض البابا أيضًا إرسال وفد يمثل الكنيسة برفقة الرئيس في تلك الرحلة المختلف عليها حتى الآن، ولعل ما حدا بقداسة البطريرك لذاك الفعل هو إنصاته لصوت الجموع المصرية الرافضة للاتفاقية في ذلك التوقيت، وكذا قناعاته الشخصية بأن السلام لا يجب أن يتم قبل استعادة كامل التراب الفلسطيني بما فيه القدس بكل ما ترمز له تلك المدينة المقدسة للأديان جميعها.


وعندما أراد الرئيس السادات أن ينكل بأعدائه ومعارضيه، كان اسم البابا شنودة على رأس لائحة اعتقالات سبتمبر 1981م الشهيرة، فتم عزله وتحديد إقامته بدير الأنبا بيشوى، وتكليف خمسة بإدارة شئون الكنيسة يتزعمهم الأنبا صموئيل، الذى تم قتله بحادث المنصة الشهير رفقة الرئيس السادات.


عاد الأنبا شنودة لقيادة الكنيسة المصرية مرة أخرى لا لينتقم من أعدائه، بل متسامحًا معهم فاتحًا صفحة جديدة من التلاحم الوطنى.


جعلتك يا مصر في مهجتي

وأهواك يا مصر عمق الهوى

إذا غبت عنك ولو فترة

أذوب حنينا أقاسى النوى

إذا ما عطشت إلى الحب يومًا

بحبك يا مصر قلبى ارتوى

تلك الأبيات السابقة ليست إلا من نظم الشاعر البطريرك البابا شنودة، فمصر مستقرة بقلب وعقل الرجل، وأفعاله جميعها تفسر ذلك العشق المحموم.


وموقف الشاعر نظير جيد لا يختلف كثيرا عن موقف رجل الدين البابا شنودة، فمن منا لا يتذكر موقفه الوطنى الخالد بمنع الأقباط من زيارة القدس طالما هي تحت الاحتلال الإسرائيلي، صادحًا بمقولته الخالدة "لن ندخل القدس إلا يدًا بيد إخوتنا المسلمين"، وهو موقف تماهى فيه قداسة البابا مع الحس الشعبيالمصري برفضه للتطبيع، فلا يمكننا إقامة علاقات طبيعية مع من يغتصب أراضينا ويقتل شعبنا.


لم يؤمن أحد بالوحدة الوطنية مثلما آمن بها البابا شنودة، فزيارته التاريخية للجيش المصرى على الجبهة إبان حرب أكتوبر المجيدة 1973م وقائع يخطها التاريخ في صفحاته الأنصع، ورفضه التام للتدخل الدولى في أحداث الفتنة الطائفية لهو موقف وطنى اتخذه البطريرك لإيمانه بالثوابت الوطنية الراسخة، وأن أبناء الوطن مهما حدث بينهم من خلافات لا يجب أن يستقووا بالخارج أبدًا، وحفظه للعديد من الآيات القرآنية ومائدة الرحمن التي كان يقيمها كل عام بشهر رمضان المعظم لهو دليل - ومثله لا يحتاج إلى أدلة - لتسامح ومحبة الرجل وقبوله للآخر قبول الفلاسفة والأصفياء.


لم توجد الأديان إلا لتهذيب النفوس، وتعليم الخلق القويم، والمعاملة الحسنة، فالمشتركات الدينية أكبر بكثير جدًا من الاختلافات العقائدية التي يقف عندها ضيقى الأفق وهواة النزاعات، فانطلق البابا شنودة بما هو مشترك بيننا وبنى عليه وأضاف له من تجلياته، فخلده التاريخ كواحد من الوطنيين المتسامحين الذين أعلوا مصلحة مصر فوق كل المصالح.


لم أتقابل مع قداسته ولو لمرة واحدة، ولم تتح لى الفرصة بعد لزيارة الكاتدرائية الأرثوذكسية بالعباسية، لكنى قرأت العهد القديم والجديد، وبالطبع كمسلم قرأت القرآن الكريم كتاب الله المحفوظ، فلم أجد في الكتب المقدسة جميعها سوى الدعوة للتسامح والمحبة، ولعل البابا شنودة قد وصلته الرسالة الربانية في أعلى مستوياتها، فحولها لأفعال على أرض الواقع، فصارت تاريخا يحتفى به.



    Dr.Radwa
    Egypt Air