الإثنين 20 مايو 2024

«القلق المديني» في شعر عبد الرحمن الأبنودي

فن11-10-2020 | 20:39


د/ رضا عطية

من كتاب قيد الإنجاز عن الهوية في شعر الأبنودي


كشأن أي ريفي مرت علاقة عبد الرحمن الأبنودي بالمدينة بعدد من الأطوار والمشاعر، فالمدينة هي الحلم والغاية والمرتحل، وهي كذلك مجتمع قاس ومعقّد، لا يتكيف الوافد إليه مع طبائعه بسهولة أو بسرعة، فتشهد علاقة الذات بالمدينة في شعر الأبنودي عديدًا من المنعطفات من التواترات إلى التوافق الذي لا يخلو من شعور بالاغتراب من وقت لآخر، فضلاً عن معاودة الحنين للريف والقرية أحيانًا.


رصد المدينة واستكشافها


في بداية علاقة الذات بالمدينة تدخل في طور استكشافي ومرحلة تعرُّف على الفضاء المديني، استجلاء للمكان المديني وتعرُّفًا على ملامحه الهوياتية، ومن أماكن وفضاءات رصد المدينة، "المقهى"، الذي يُمثِّل فضاء مفتوحًا يتيح للذات مراقبة حركة المدينة وناسها، كما في قصيدة "كباية شاي" من ديوان الزحمة:


على كرسى فـ قهوة فـ شارع شبرا


قعدت


وجاب لى كباية الشاى الجرسون


كباية شاى القهوة


غير كباية شاى البيت خالص.


بصيت له كتير


مش عارف ليه؟


من مدة طويلة ما شفتش حي


كان الشارع نابض فيه الدم المطفي وحي.


يبدو أنَّ اختيار مقهى/ "قهوة" في شارع شبرا لكسر العزلة التي تشعر الذات بتطاولها الزمني: (من مدة طويلة ما شفتش حي) وتتبدى دهشة الشاعر إزاء جرسون المقهى حال مرآه: (بصيت له كتير/ مش عارف ليه؟) بما يشي بالأثر التغريبي لعناصر المدينة، شخوصها وأشيائها، المهيمن على وعي الذات، فثمة ما يشي بانغلاق الذات وانعزالها لفترات طويلة في المدينة، وكذلك وحدتها في حركتها في المدينة على عكس الريف الذي يتحرك في فضاء الفرد عبر جماعته في أغلب الوقت وبرفقة أصدقائه وأقرانه وأنداده، فيبدو أنَّ المقهى هو فضاء الذات لتلمس نبض الشارع المديني. كما تتبدى دهشة الذات إزاء معطيات عالم المقهى: (كباية شاى القهوة/ غير كباية شاى البيت خالص)، كما يتبدىالبعد العاداتي لشخصية "الصعيدي" في كثرة احتسائه "الشاي" سواء في البيت أو المقهى الذي يشعر باختلافية مذاق "الشاي" فيه عن البيت بما سيترتب عليه لاحقًا الإحساس باختلاف عالم المقهى حيث الانفتاح على العالم المديني ورصده عبر مشاهدات عين الشاعر التي تلتقط حركة العالم في الشارع المديني.


وقعت سنجة ترماي (خمسة)


طلع الولد المتشعبط ركبها


وركب من باب الترماي قدام الكمسارى


شافه ما كلمهوش خالص


عدى الراجل اللي منزلشى من ع العجلة بقى له ست سنين


كان تعبان جدا


وموطي


ومش بيبدل خالص.


يلتقط الأبنودي الحركات المكرورة والأحداث المبتذلة ليعيد تشعيرها، فالولد "المتشعبط" هو نموذج للركاب الذين يتهربون من دفع أجرة ركوب المواصلات لكنه يقدِّم خدمة للكمساري بتركيب سنجة الترماي فيتغاضى الكمساري عن مساءلته ومطالبته بدفع الأجرة، شكل من أشكال الممارسات التواطؤية في المجتمع، وبالتوازي فإن من يستخدم وسيلة انتقال ذاتية بسيطة كالدراجة، "العجلة" يبدو منهكًا ومتعبًا، حتى أنّ الشاعر يظن أن قد مكث على الدراجة، "العجلة"، ست سنين، دون نزول، في مبالغة تعبيرية تبدو من سمات بلاغة العوام وبلاغة الشعبيين في التعبير عن أمر ما، كما يعكس إحساس الشاعر بعدم بلوغ راكب الدراجة غايته وعدم وصوله إلى هدفه المنشود. كما يبدو راكب الدراجة منحنيًا، في مظهر من مظاهر التعب أو الشعور بالانكسار، كما يتبدى فقدانه القدرة على تحريك الدراجة، في مظهر من مظاهر الإنهاك والضعف والشعور بالعجز.


صدمة اكتشاف المدينة 


يعلن الخطاب الشعري للأبنودي عن فجوة فادحة بين تطلعات الريفي النازح إلى المدينة وما يجده على أرض الواقع، كما في قصيدة بعنوان "الربابة الحزينة" من ديوان الأرض والعيال:


أنا الشاعر اللي فـ حكاية الأميرة السجينة


وقالولي: "عايز الدوا"..؟


عليك بالمدينة


وجيت المدينة


معلق في كتفي الربابة الحزينة


لقيت النجوم وشها في التراب


وفوق الميدان كاكَى نفس الغراب


ونفس الجوامع بلا أي مادنه


ونفس الإيدين اللي تضرب في بعض بأسف


ونفس البيبان اللي من غير ضرف.


حبيبتي.. جميع الحاجات زي بعض


ما كانتشي أبدًا.. صُدَف.


إذا كان نزوح الشاعر/ الريفي إلى المدينة- والشاعر، هنا، هو مغني الجماعة الشعبية أو الريفية الذي يحكي تاريخها- بناء على نصيحة الجماعة- فإنَّ ما حمله معه من قريته من حزن باحثًا عن استشفاء له، قد تضاعف بما وجده ورآه في المدينة التي تبدت على معالمها الحزن، فرأى معالم المدينة مسلوبة من علاماتها المائزة ما يعني انطماسها الهوياتي: (نفس الجوامع بلا أي مادنه) وفقدانها ملامحها المائزة، كذلك ثمة شعور بارتباك العلاقات الإنسانية واضطرابها في المدينة (نفس الإيدين اللي تضرب في بعض بأسف) ما يفاقم الإحساس برتابة إيقاع المدينة وتماثل أشيائها (حبيبتي.. جميع الحاجات زي بعض)، ونسخ هويتها.


ومما يُمثِّل للريفي صدمة في اكتشافه للمدينة ذلك التنوع الهوياتي كما في قصيدة "مطر على المدينة" من ديوان الزحمة:


ورا كل شباك في المدينة دين 


ورا كل شباك في المدينة لون.


تبدو المدينة بتعددها الهوياتي بالنسبة للريفي الذي قدم إليها من القرية التي تبدو متماسكة هوياتيًّا- نسقًا مربكًا للريفي الذي يحس باهتراء هوياتي للمدينة، غير النمط الذي ألفه في الريف الذي يرتكز على وحدة الجماعة الريفية، فيحس الريفي في المدينة بأنَّ وراء مظاهرها وتكويناتها المادية في تشكلاتها العميقة كثرة من الأنسجة الهوياتية بما يداني التفسُّخ الهوياتي.


الاستلاب في المدينة

يعمل الخطاب الأبنودي على تشريح حالة الاستلاب المديني كما في قصيدة "شعار سلام" من ديوان الزحمة:

سيان طعم الضحكة والدمعة.


سيان طعم الكلمة والكلمة.


وتعدي لحظتنا مانعرفش اسمها..؟


وتتْلِوى رقاب الرايات.


وتدبل الناس في المدن

يتّاوا جوّه السينمات


ويشربوا الليل والحشيش.


يتعلموا يحنوا الكتاف.


وتندهن لفنديات.


وينكسف واحد قصاد دكان بيشتريله سيجاره فرْط عمل وأجره ويدفنوا الليل في السرير.


مما يربك الذوات الريفية التي تصطدم بنمط العيش المديني ما تجد من نسخ هوياتي للمدينة التي تتضارب فيها المشاعر حتى تفقد قيمتها، لتمسي الذوات الإنسانية مجردة المشاعر في حياتها المدينية، أو بالأحرى تكون المشاعر في المدينة بلا جدوى للذوات التي تفقد إحساسها بالزمن وبلحظتها الآنية وحضورها الراهن.


يجابه الريفي في المدينة تداعيًّا قيميًّا: (تتْلِوى رقاب الرايات) ما يفقده مؤشرات القيمة، وما يفضي إلى ذبول الأفراد في المدن، حيث يفقد الأفراد ذاتيتهم وهويتهم الخاصة التي تُمحى بفعل قيم المدينة وأنساقها المهيمنة التي تجبر أفرادها على الخضوع لأنظمتها. 


ونتيجة لاستلاب الذوات في المدينة فإنَّهم يلوذون بأماكن للتسلية في المدينة كالسينمات والحانات ويحتسون الخمور ويتعاطون المخدرات للتشاغل عن مأساتهم المتفاقمة ومأزومية اغترابهم في المدينة، وبحسب نقاد فرانكفورت فإنّ "جميع أسقام وأمراض المجتمع الحديث، التي كانت تنسب للانحلال الفيزيقي (التفسخ الاجتماعي- الجريمة- الجنون- الانتحار- الأمراض العصبية- إدمان المسكرات- انحطاط الفنون- السياسة الديمقراطية الجماهيرية التي تحاكي نمط الأسلاف- حتى معاداة السامية)، أصبحت الآن هي أخطاء الرأسمالية": (وينكسف واحد قصاد دكان بيشتريله سيجاره فرْط) ليشعر الفرد بالتضاؤل في سياقات المدينة التي تغلِّب المظاهر المادية أساسًا لمنح قيمة اجتماعية لأفرادها.