كل من بحث في جذور الهوية المصرية ورجع إلىتاريخ أجدادنا المصريين القدماء اكتشف أن أول قراءة لملامح تلك الهوية كانت في قصة-أو مسرحية-الفلاح الفصيح،وأن الفصاحة والبلاغة كانتا أولى السمات التي عرف بها الفلاح المصري الفصيح في قصته وأن إعجاب الحاكم بتلك الفصاحة دفعه للبحث في مظلمته والحكم على من ظلمه من موظفي البلاط حكما رادعا انتصارا لقيم العدل والمساواة ومحاربة الفساد لنجد القصة وقد وثقت لكل هذه الصفات وتلك السمات في الهوية المصرية حاكما ومحكوما توثيقا جليا من خلال عمل إبداعي سجله التاريخ كأول عمل مسرحي عرفه العالم،ومن يومها كان الإبداع هو الملمح الأول للهوية المصرية وكان المبدعون هم أنبياء الهوية وحراسها.
ودائما كانت الهوية الثقافية قبل الهوية الجغرافية عند أهل الإبداع وكانت الثقافة والفنون هي الجغرافيا الحقيقية للوطن ولملامح هويته،ولما كان الإبداع هو ابن الفصاحة وكانت الفصاحة هي ابنة الوعي فقد كان(الوعي) هو العنوان الأكبر للهوية المصرية والهم الأكبر للإبداع وللمبدعين المصريين في كل الفنون منذ فجر التاريخ.
وإذا ذهبنا إلى أسرع الفنون وأقواها تأثرا وتأثيرا في الهوية المصرية وهو الغناء والموسيقى سنري أن المصري القديم سماها(علم ضبط مشاعر الفرح والألم عند الإنسان)وأعطاها منزلة وقداسة باعتبارها لغة التعبير عن خلجات الإنسان حزنا وفرحا وتحث على الجد والنشاط في الحقل وفي الحرب،ورغم أنها بدأت في محاريب العبادة وتوج الإله(أوزوريس)إلها لها وجعلوا له فرقة موسيقية تضم العديد من العازفين والعازفات والمغنيات،إلا أنها خرجت بعد ذلك للعامة لتقترب من الشعب وهويته وتنهل من ثقافته وقيمه وعاداته وتقالىده مع وجود رقابة كانت تهتم-أول ماتهتم-بإبعاد المؤثرات الأجنبية الدخيلة حفاظا على روح وطابع الهوية وكانت تحظر الزيادة المبالغ فيها في الإيقاعات وفي النغم ولا تراها تنتج موسيقى تصور حالة الإنسان العاقل المعتدل،وحفاظا على تسامي الروح المصرية ونبل فضائلها كان القائمون على الموسيقى يرفضون دخول الموسقى الآسيوية وكانوا يرونها كثيرة الأنات باعثة للشهوات رخوة تحض على الرزيلة،إلا أنها رغم ذلك نجحت في دخول مصر عن طريق الفرس.
ولما خاف أهل الإبداع على الهوية المصرية من هذه الموسيقى الدخيلة لجأوا إلى إضافة آلات موسيقية متعددة فإلى جانب آلات الهارب والناي والدفوف المصاحبة للمغنيات أدخلت الطبول والأبواق والصنوج والمزامير والطنابير أوالعيدان ذوات الرقبة الطويلة المعروفة حاليا بآلة(البزق)التي يتصور بعضنا أنها تركية والحقيقة أنها آلة فرعونية طورها الأتراك فيما بعد،وحرص المصري القديم على أن يوظف كل ذلك للتعبير عن نغم مصري حر نابع من ألحان مصرية خرجت من الشعب المصري بأطيافه وصدحت بها حناجر رعاة الغنم والمواشي وحلاجي القطن والنساجين وعمال الحصاد والفلاحين وأغاني مرضعات الأطفال والنساء اللائي يسحقن الثمار،وأصبحت هناك أغنيات خاصة بكل مهنة مثل أغاني بائعي الطيور والحمامين والشحاذين وحاملي عناقيد العنب كل هذا وجد منقوشا على جدران المعابد جنبا إلى جنب مع أناشيد الحروب والانتصارات والمديح والتراتيل الدينية في الأسر الفرعونية الوسطى والحديثة وتميزت الأغاني بالآداء الجماعي رغم وجود الأداء الفردي الذي اختص به الأصوات شديدة التميز وفيما بعد أصبح للغناء الفردي شأن آخر في الأسر الفرعونية الحديثة.
وهنا نقفز من الأسر الحديثة إلى العصر الحديث لنجد نفس هذا النهج مع فنان الشعب(سيد درويش)في تحريره الموسيقى المصرية والغناء المصري من سيطرة الموسيقى والغناء التركي الممجوج فاستقى ألحانه من التربة المصرية حيث انجذب لآداء فئات الشعب وطبقاته ونغماته في التعبير التلقائي عن نفسه وخرج سيد درويش من رحم الموالد الشعبية ليلحن لمختلف الطوائف في مسرحياته وأغنياته مع بديع خيري لكل من(السقايين والشيالين والموظفين والعمال والصنايعية ورجال المطافي والجزارين والعربجية والقهوجية)وغيرهم حتى أصبحت أغانيه هي الناطق الرسمي بلسان حال الشارع المصري إلى أن جاءت ثورة ١٩١٩، لتصبح أغنياته الوطنية هي وقود الثورة ومحركها وليتحول من مجرد فنان يسعى لتحرير موسيقانا من الاستعمار التركي إلى رمز استقلالى تمتزج صورته في وجدان الناس بصورة سعد زغلول قائد الثورة وكأن معركته لاستقلال الهويه المصرية واستردادها هي المعادل لمعركة سعد زغلول لاستقلال مصر.
ونجح سيد درويش في أن تكون له مدرسته في التعبير عن الهوية المصرية والشارع المصري وعرفت الموسيقى من خلاله مدرسة جديدة اسمها المدرسة التعبيرية في الغناء أصبحت تناطح المدرسة التطريبية القديمة، ولكي يرسخ قواعدها اتجه إلى العلم وقرر أن يأخذ من الغرب ما يمكن أن يوظف أوركسترالى لصالح النغم المصري الحر ويعمقه ويضمن لموسيقاه البقاء، ورغم العمر القصير استطاع أن يضع اللبنات الأولى ويرسم الطريق لكل من أراد التعبير عن مصريته وهويته بنغم مصري حر.
وتعلم كل من جاءوا بعد درويش الدرس وأصبحت المدرسة التعبيرية في التلحين وفي الغناء هي الغالبة وأصبح الكل يبحث في ذاته عن نغمه مصرية تعبر عنه هو ثم يبحث عن كل ما يمكن أن يوظفه لخدمتها وخدمة توصيلها دون المساس بمصريتها، وجاءت بعض الإسهامات لمحمد عبد الوهاب ومحمود الشريف ومحمد فوزي وعبد العظيم عبد الحق وفتحي حجازي ومنير مراد ثم دخلت أسماء مثل عطية شرارة بالعلم الأوركسترالى على ألحان شعبية مستلهمة من التراث الشعبي في الريف المصري ألفها موسيقيا أو أخذها كما هي وأضاف لها أبعادا أوركسترالية عمقت منها ومن قيمتها حيث يغني اللحن الأساسي كخط موسيقي محوري ثم توضع في خلفيته خطوط أخرى تبرز رحابة النغم المصري في التراث الشعبي وقدرته على التناغم مع الأشكال والقوالب الموسيقية العالمية دون أن تنال من أصالته، ثم جاء أبو بكر خيرت كمؤلف موسيقي ليقدم متتالية سيمفونية شعبية، وكونشيرتو من التراث الشعبي وعشرات المؤلفات الموسيقية المستوحاة من التراث الشعبي، وفي نفس الاتجاه جاء علي إسماعيل ملحنا ومؤلفا وموزعا موسيقيا بروح أخرى وأسلوب آخر حبب جيل الخمسينيات والستينيات في الذهاب إلى هذا الاستلهام الشعبي بعلم ودراسة.
ولأن علي إسماعيل كان زميلا لعبد الحليم حافظ وكمال الطويل في معهد الموسيقى فقد كان طبيعيا أن يستفيدا من هذا النهج وذاك البحث عن أغان تستلهم روح التراث الشعبي والهوية المصرية خاصة بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، والتي انتصرت للشعب وللهوية ورفعت العمال والفلاحين ودفعت بهم إلى الصدارة، وانضم الشاعر صلاح جاهين إلى هذا الثلاثي لتخرج أقوى الأغاني الوطنية مثل(صورة-المسؤلية-مطالب شعب) ومن بعدهم جاء تعاون علي إسماعيل مع بليغ حمدي الذي التقط الخيط ليبدأ مشروعه هو في البحث عن(التيمات)الشعبية في أغاني الفلاحين والصعايدة والبدو، وراح يجوب القرى والنجوع ليجمع هذه الأغاني ويستلهم منها ألحانه التي صاغها بروحه المصرية الحنونة لتصبح للهوية المصرية في أغانيه دفء خاص وبهجة خاصة وصدق هو الأقرب للقلوب والآذان والوجدان ما جعله ملحن مصر الأول من أواخر الخمسينيات وحتى الآن.
ومن بعد بليغ حمدي جاءت إسهامات حلمي بكر في إعلاء الهوية المصرية بألحان مميزة نابعة منه ومرتكزة على مخزون غني ودراسة علمية ووعي ضمن لأغانيه النجاح، ثم جاء عمار الشريعي بوعي آخر وفكر وجد بيئته في الدراما وأغاني المسلسلات والأفلام السينمائية وكون مع الشاعر سيد حجاب والمؤلف أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبد الحافظ رباعي الحفاظ على الهوية المصرية، وفي مجال الأغنية لا يجب أن نغفل إسهامات حسن أبو السعود ومنير الوسيمي في الاستلهام من التراث الشعبي، ولازال هناك من حراس الهوية من يصر على خوض المعركة وسط كثير من الظواهر الدخيلة وقليل من الدعم.