الأربعاء 29 مايو 2024

إشكاليّة الخُصوصية في "مُجتمع الاستعراض"

فن13-10-2020 | 21:32

في عام 1995، حينما نَشر الروائي التشيكي ميلان كونديرا روايته "البُطء"، كان المَنحى النوستالجي الآسف على زمن ولى خيطًا رئيسًا في العمل الروائي، طفِق الراوي يقول: "عصرنا مهووس برغبة النسيان، ولإرضاء تلك الرغبة يُؤخذ بشيطان السُرعة، فهو يُسرِع الخُطى لأنه يُريد أن يُفهِمنا أنه لا يتمنى أن يذْكره أحد، وأنه تعب من نفسه، مُحبَط من ذاته ويُريد إطفاء الشُعلة الصغيرة المُرتعشة في ذاكرته". كانت الرواية أشبه برثاء لمفردات حياة بسيطة متأنيّة شهدتها قرون غَابِرة لم تعد ممكنة في عصر حديث مُصاب بهوس السُرعة.


في القرن الواحد والعشرين، كانت ملامح العصر التي انتقدها كونديرا في عمله قد تغيّرت. تزامن مع شيطان السُرعة الذي لا يعرف التوقف شُعورٌ إنساني بثِقل الذاكرة المنفيّة ووطأة الإحساس بالوجود البائس الذي لا قيمة له، داست عجلات الحياة السريعة ملايين الحيوات التي تلاشت سريعًا دون أن يلحظها أحد أو يُلقي لها بالًا. كانت تلك الحياة القاسية المُرتكزة على أبجديات الاستهلاك حيث يفقد كل فرد قيمته وأهميته ولا يجد مناصًا من ذلك قد أثقلت كاهِل البشر، ولم يكن التمرد عليها مُمكنًا لأنها أرست قواعدها المتينة والصلدة عبر الزمان، لكن مُسكنّات طفيفة يُمكن من خلالها المرء أن يُعلِن عن وجوده وأهميّته دون جهد أو تمرُد مضنِ باتت مُمكنة ومُستساغة وقادرة على أن تُجابِه سيل انطفاء الذاكرة القاسي. 


انطلاقًا من مَقاصِد يوتوبيّة، كتعزيز الروابط الاجتماعية بين أفراد واقع افتراضي تأسيسًا على عُمق فهم وتواصل بدءًا من أبسط التفاصيل حتى أعقدها، انطلقت مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها سُرعان ما خلقت فزعًا ديستوبيًا من حياة هشّة، لم تعد السُرعة فقط بما تدهسه من ذوات إنسانيّة هي هاجسها الأوحد، وإنما صار الزيف بشتى أشكاله هو الشيطان الأكبر الذي يحيا في كنفه العالم الحالي دون أن يعي تمامًا أنه صار دافعًا إليه. وبعدما كانت كل الخشية من أن يبقى الإنسان نسيًّا منسيًّا في ظل كونه ترسًا صغيرًا غير مرئي في آلة بيروقراطية ضخمة، صارت نيران الاستغلال بأشكاله المُستحدَثة مُحاصِرة للإنسان بطرق شتى أشعل هو وقودها بنفسه لتُنير عتمته فإذا بها تُهدِّد وجودَه. 


مُجتمع الاستعراض


مع تعدُد وتنوُع منصات التَّواصل الاجتماعيّ، صار ارتباط الفرد مُستحكَمًا بعالمه الافتراضي أكثر مما هو مع عالمه الواقعي. تأسس الانْفِصال بين حقيقة الذَّات وتمثيلها الذي يُجْرى تقديمه على الشَّبكة العنكبوتية.  وباتت الأولويَّة لما يُراد تقديمه للأصدقاء في ذلك الواقع الافتراضي بديًلا عن التَّفكير في الأولويات الحقيقية لكلِّ فرد بما يتماس مع احتياجاته واهتماماته. احتلت الصوّرة والكلمات المُختارة مكانة بديلة عن الإنسان ذاته بواقعه المُكتظ بالمشاكل والنَّقائص، وجرى اختيار ذاكرة كُل فرد المُقدّمة بعناية بما يتناسب مع رغبات جمهوره/ أصدقائه في الفضاء العنكبوتي، ومن ثمَّ توارت الحقيقة خلْف تمثيلاتها التي ظلَّت في موْقِع الصدارة. 


في كتاب "مُجتمع الاستعراض" الذي صدر عام 1967، وجّه المُنظر الفرنسي جي ديبور نقده لمجتمع وسائل الإعلام الذي بات مُهتمًّا بالصورة أكثر من الحقيقة، ليصير  ما هو حقيقي لحظة من لحظات ما هو زائف. يقول ديبور: "يمكن التعبير عن استلاب المتفرج لصالح الشيء موضوع التأمل والذي هو نتيجة لنشاطه اللاواعي على النحو التالي: كلما تأمل أكثر، عاش أقل. وكلما زاد قبوله لأن يتعرف على نفسه في صور الاحتياج السائدة، قلّ فهمه لوجوده ورضائه هو، وتتجلى خارجية الاستعراض بالنسبة للشخص النشيط في كون إيماءاته ذاتها لم تعد تخُصه بل تخُص شخصا آخر يُمثِّلها لديه". ذلك الواقع الاستعراضي الذي انتقده ديبور في مجتمعات وسائل الإعلام قد توطّدت أركانه بصورة واضحة في عصر الشبكة العنكبوتيّة، فبينما جاء الانغماس في ذلك العالم الافتراضي بدافع من تأكيد الذات وإثبات الوجود وتعزيز الأواصر، كانت النتيجة المزيد من الاستلاب والقليل من التفكير في حقيقة ما يريده الإنسان  في مقابل الانسياق وراء ما يُرَاد له أن يفعل وما يُرَاد له أن يكون. 


بَيْد أن ذلك الواقع الافتراضي الذي صار يُتيح لكل فرد حُريّة أن يُقدِّم ذاته مثلما يختار قد ضاعف من الهوس بمشاركة تفاصيل يوميّة في حياة كل فرد بما يُمكن أن تعزز من صورته المُنتقاة، ومن ثم تبارى المستخدمون في مُشاركة الصور والمعلومات حول أسْفارهم وعائلتهم وعملهم وأنماط حياتهم المُفضّلة. تفاصيلٌ لم يكن مُمكنًا معرفتها سوى بعلاقات حميمة قديمة تأسست على اختيار واعِ ودقيق باتت الآن في مُتناول آلاف الأشخاص الذين يَقعون في دائرة المستخدم أو يقتربون منها حتَّى وإن لم يلتقِ بهم أبدًا. 


ثمة أسبابٌ نفسيّة واجتماعيّة تسببت في ذلك التبرُع المُستمِر والمتزايد بالخصوصية من قِبل رواد الفضاء الاجتماعي، قد تكون العُزلة والوحدة والشعور المُتزايد بالتهميش والتجاهل على المستويات الفردية والجمعية من الأسباب الأساسية، فلم تعُد صورة الشخص الانطوائي المُختبئ خلف الشاشة في الأفلام السينمائيّة مجازيّة قدر ما هي تعبير عن واقع فعلي، إذ وفّرت مواقع التواصل تلك ساحةً رحبة بديلة يستطيع كل فرد من خلالها أن يصير محط اهتمام وتقدير من قِبل دائرته المُختارة، ويتناسب شعوره بتلك الأهمية طرديًا مع  ما يحصده من "إعجابات" و"تعليقات"، ومنها يستمد الثقة برأيه وربما بوجوده ككل. 


في المقابل، لا تعِد تلك الراحة النفسيّة المتوهَمة بخير كامل، فكل فعل مثلما يحمِل مكاسب فهو في الآن ذاته يخلق مخاطره لاسيما بعد أن أعيد تصنيف الخصوصيات المنُنتهكة وما تبعها من مُراقبة من إنذار بالخطر والتهديد إلى بشارة بالإغراء والإغواء، حسبما يشير زيغمونت باومان في كتابه "المراقبة السائلة"، فالوعد بظهور مُكثّف وإغراء الظهور أمام الجميع يتوافقان تماما مع الرغبة الشديدة في الحصول على دليل بالاعتراف الاجتماعي، وعلى دليل بوجود له قيمة ومعنى، لكنه في الآن ذاته لا ينفي المخاطر والمشكلات الناجمة عن إخراج ما هو خاص إلى مجال عام. 


أهمية الخصوصية


تستمِد الخصوصية إذن أهميتها على المستويات كافة بما تؤسس له من الاختيار الحُر والواعي القائم على التفكير المتأني والذي ينتج عنه قرارات مسؤولة، بَيْد أن تفتُت مجال الخصوصية وتضعضعه يُهدد الوعي الأصيل في المقام الأول، ومن ثم تأتي التوجهات والقرارات كنتاج توجيه خفي غير مُتضِح أبعاده، وهذا ما يتجسد كوضعية قائمة في الشبكة العنكبوتية.


في كتاب "الثورة الرابِعة: كيف يُعيد الغُلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني"، يُبيّن الكاتب لوتشيانو فلوريدي وجود أربعة أنواع من الخصوصية: الخصوصية المادية أي التحرر من الاعتداء المحسوس بتقييد قدرة الآخرين في التعامل الجسدي، الخصوصية العقلية أي تحرر من التدخل أو الاعتداء النفسي بتقييد قدرة الآخر على الوصول إلى الحياة العقلية والتلاعب بها، وخصوصية اتخاذ القرار، وأخيرًا الخصوصية المعلوماتية التي تعني التحرر من الاختراق المعلوماتي بحجب حقائق لا يمكن معرفتها. 


وفي ظل الفضاء الافتراضي، باتت الخصوصيات بشتى أشكالها عُرضة للانتهاك بشكل مُتزايد، بدءا من الصور والفيديوهات والمعلومات عن كل ما يخص الفرد في إطار دائرته ومحيطه الخاص والتي يشاركها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصولًا إلى ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز)، ونوع جهاز الحاسب الآلي ونوع المعالج، ورقم IP وطريقة الاتصال بالإنترنت والمواقع التي يداوم المستخدم على زيارتها والموضوعات التي يُبحث عنها عبر مواقع البحث، كل ذلك أسهم مُجتمِعًا في تقديم معلومات جليّة عن كل فرد يُمكن استغلالها وقت الحاجة من قبل "الأخ الكبير" الذي لم يعد بحاجة إلى أبراج مُراقبة تقليدية أو إلى أشكال تتبع ورصد تقليدية كي يصل إلى معلومات حول الأفراد.


وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن العلاقات الهشّة باتت أكثرًا شيوعًا وانتشارًا في ظل الخصوصية المُستباحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ففي المجتمعات القديمة، كان انكشاف خصوصية المرء أمام صديقه قمينًا بتأسيس علاقة قوامها الثقة المُتبادلة والانفتاح المُشترك المُرتكِز على قرار واع واختيار مسؤول ومن هنا كانت العلاقات تستمد صلابتها وأهميتها،  ولكن النفوس المُنفتِحة كصفحات كتب مكشوفة بيُسر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثلما أتاحت علاقات سريعة وصداقات أكثر، فإنها جعلت الاستهلاكية قوام العلاقات وديدنها. 


جُملة من الحوادث التي تشهدها المجتمعات العربية خلّفتها الخصوصيات المُستعرَضة بثقة عبر مواقع التواصل؛ استدراج لعلاقات عاطفية بغية الاستغلال، والخداع المُستنِد إلى معلومات مزيفة يتم دفعها لتحقيق مصالح،  والتنسيق لإقامة علاقات غير شرعية، والتلويح المُتتالي بورقة الخصوصية المُنتهَكة بحثًا عن مزيد من المكاسب.


 هذا فضلًا عن ما ينجم عن الثقة المُطلقة بالمنصات والحسابات التي يتم إنشاؤها ويجرى تتبعها دون دراية بحقيقتها ما يتسبب في العديد من المشكلات الاجتماعية.  وقد تُقدِّم العديد من الحوادث التي كانت مواقع التواصل الاجتماعي ردًا كافيًا على الادعاء المُستشري بأن الخصوصية لا تُمثل مشكلة بالأساس في مُجتمعاتنا العربية. 

 

الخصوصية المعلوماتيّة


يُضاف إلى إشكالية التأثيرات الاجتماعية السلبية التي نجمت عن تبرع مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بخصوصيتهم، إشكالية أخرى تتعلق بالخصوصية المعلوماتية، وقد أثيرت بكثافة في السنوات الأخيرة  لاسيّما مع ما تردد من استخدام فيسبوك لبيانات المستخدمين والدفع بها إلى المُعلنين، ليصير المُستخدمون أمام سيل من الإعلانات تتناسب مع تفضيلاتهم واهتماماتهم، ويقذفون في مُحيط من الرغبات الاستهلاكية التي لا تتوقف، بالتالي تتحول حُريتهم في أن يختاروا ما يُملى عليهم ويُعرض أمامهم إلى دليل غير مرئي أو مُلاحظ عن استغلال مُتعمد لهم ولبياناتهم، ومن ثم يصيروا ترسًا في آلة النزعة الاستهلاكية الطاحنة أو جزءًا من إشكاليات ورغبات لا تخُصّهم.  يعتبر الكاتب لوتشيانو فلوريدي في حديثه عن تلك الإشكالية أن الحق في الخصوصية يعني بالأساس حق كل فرد في الحصانة من التغيرات غير المقصودة في هُويته، بحيث لا يُجبر على تلقي معلومات أو بيانات غير مرغوب بها، وألا يتعرض لما يُشبه عمليات "غسيل المُخ" فيصير مُنتهَكًا في أفكاره.    


ففي عام 2007 حينما قال مارك زوكربيرج: "المئة سنة الماضية حددتها وسائل الإعلام، وفي المئة سنة القادمة لن تُدفع المعلومات إلى الناس، بل ستكون تشاركيّة بين ملايين الاتصالات التي يحوزها الناس" كان يضع الناس أمام حلم يوتوبي قوامه نهاية التوجيه مع بدء التشاركية، لكن المُمارسة الواقعيّة أثبتت أن تلك التشاركيّة كان ظاهرها الحُريّة وباطنها التوجيه المُقنّع. فبعد أن كانت وسائل الإعلام تنفرد بممارسة دور حارس البوابة لتُحِّدد ما سيتم تقديمه والإقناع به في مقابل إخفاء ما لا يتوافق معها، أمسى فيسبوك هو "حارس البوابة الجديد" الذين يستغل مُستخدِميه ليؤدي دوره.


 برز هذا بشكل جلي مع أزمة كامبريدج أناليتيكا "Cambridge Analytica" البريطانية، ففي عام 2013 قدّم أستاذ علم نفس بجامعة كامبريدج تطبيقًا بعنوان "هذه حياتك الرقمية" يعتمد على استخدام بيانات المستخدمين وأصدقائهم والمعلومات التي يشاركونها للسماح بتحميله، بلغت أعداد الذين جُمِعت بياناتهم أكثر من 50 مليون حساب، وتم بيع هذه البيانات لشركة "كامبريدج أناليتيكا" التي استخدمتها بدورها في تقديم مواد لدعم الرئيس الأمريكي "ترامب" أثناء الانتخابات الأمريكية، وهو ما شكّل هزّة قويّة لمصداقية فيسبوك لدى العديد من المستخدمين الذين أدركوا أنهم باتوا عُرضة للاستغلال المُستمِر والمُمنهج دون درايتهم. 


فضلًا عن ذلك، كانت البحوث التي أجراها مايكل كوسينسكي، الأستاذ المساعد بجامعة ستانفورد الأمريكية، مسمارًا  جديدًا ينخر مصداقية وسائل التواصل. ففي أبريل 2013 أجرى كوسينسكي بالمشاركة مع ديفيد ستيلويل وثور جريبيل بحثًا حول السمات الخاصة التي يمكن  التنبؤ بها من الحسابات الرقمية للمستخدمين، لا يتعلق البحث بما يبوح به المستخدمون بالفعل في حساباتهم، وإنما بما يمكن استنباطه من نشاطهم، فمثلا يُمكن من خلال "الإعجابات" التنبؤ بجملة من السمات الشخصية مثل الميول الجنسية والإثنية والآراء الدينية والسياسية وسمات الشخصية ككل.  ومن ثم، لا يقتصر الأمر على البيانات التي يتم تسجيلها بالفعل، فقد لا يكشف المرء عن ميوله الجنسية لكن سجلات إحصائية دقيقة مُعتمِدة على نشاط المستخدم يُمكِنها أن تكشف ذلك رغما عنه ودون موافقته، وهو ما يمكن أن تستغله الشركات التجارية والمؤسسات الحكومية بما يهدد حُريته وربما حياته. 


الأخ الكبير 


عقب الحرب العالمية الثانية، نشر جورج أورويل روايته الديستوبية "1984" مُطلقًا نذيره من المآلات المُنتظَرة لنُظُم الحكم الشمولية، ومُصوّرا تمركز الإدارة الحكومية في يد حزب يحكمه "أخ كبير" يتوغل في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، ظلت تلك الصورة المجازية تُستدعى باستمرار مع كل حديث عن المُراقبة والديكتاتورية في النُظُم السُلطوية. وفي عام 1975 استدعى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو نموذج البانوبتيكون  Panopticon لدى المفكر الإنجليزي جيرمي بنثام،  للحديث عن أبراج مراقبة مرتفعة تتوسط السجون ويقبع فيها الحارس أعلى البرج دون أن يتمكن المسجون من معرفة ما إذا كان الحارس يراقبه في تلك اللحظة، لكن المسجونين نتيجة لتلك الوضعية تحولوا من مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم. 


لم تعد تلك الصور المادية التي قُدِّمت في القرن العشرين مُعبِرة بدقة عن الواقع الرقمي الراهن، فالكيانات المادية المُمثّلة في الأخ الكبير أو البانوبتيكون قد تغيّرت صورها، بعدما تغيرت أشكال المراقبة وآلياتها في عصر بات الحصول فيه على المعلومات وفرض الرقابة أكثر يسرًا مما مضى، بل وأكثر طواعية من قبِل المُراقَبين المنسجمين تمامًا مع إغواء التبرع بخصوصيتهم.  لم ينته الأخ الكبير ولكن أدواته قد تغيّرت، فلم تعد ثمة حاجة إلى "شاشة كبيرة" توضع في كل منزل لتُمكنه من المراقبة وضبط سيطرته، وإنما تبرع كل فرد بطرح أفكاره وبياناته عبر  شاشته الصغيرة دون إرغام، ليصير عُرضة لمُراقبة الأخ الكبير دون عناء، وفي الآن ذاته هو مُراقب من قبل المستخدمين الآخرين الذين يشارك بياناته معهم، والإشكالية تكمُن في أن ذلك بات مصدر رضا وإشباع بعد أن كان مَدعاة للقلق والارتباك. 


في كتاب "The Digital Person: Technology and Privacy in the Information Age"يوضح الكاتب دانيال سولوف، أستاذ القانون بجامعة جورج واشنطن، أن المراقبة في عصر الإنترنت باتت مغايرة لشاشة أورويل التلفزيونية، فاليوم يوجد عدد لا يحصى من "الإخوة الكبار والصغار" كبديل عن أخ كبير واحد، إذ تُمكِن قواعد البيانات الحديثة من الأهداف ذاتها؛ الرقابة الاجتماعية وقمع الفردية. يستدعي سولوف شخصية "جوزيف ك" في رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا ليشير إلى أننا نواجه اليوم تحديّات تكنولوجيّة جديدة ليس من السهل الإمساك بها أو التعرف إلى ملامحها بوضوح، فالأضرار الناجمة عنها مُعقّدة ومُركّبة، والملفات الرقمية الراهنة باتت أشبه  بالملفات التي تكتظ بها محكمة كافكا،  التي تشمل العديد من المعلومات والبيانات وعُرضة للاستغلال والتحريف، ونحن إزاءها أشبه بجوزيف ك العاجز عن أن يفعل شيئًا إزاء ما يُقرَر بشأنه.


تعزيز الوعي


أثارت مشكلة الخصوصيات المُنتهّكة المفكرين والباحثين في الدول الغربية في السنوات الأخيرة على نحو متزايد، وظهرت العديد من الكتابات التي تُعالِج المسألة وتبحث أوجهها المختلفة، بل إن الأعمال الفنية سواء الدرامية أو السينمائية شرعت في تبيان أوجه مختلفة من أزمات فقدان الخصوصية وتهاويها. جراء ذلك كانت هناك العديد من الوقفات إزاء ذلك الواقع المُستَجد من قِبل المُستخدمين.  في مطلع هذا العام، أعلن ستيفن كينغ، كاتب الرعب الأمريكى، انسحابه من موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مُعبِّرًا عن قلقه من الإعلانات السياسية بما تحمله من معلومات زائفة، فضلًا عن انتهاك الخصوصية الذي تتعاظم احتمالاته باستمرار.  


وفي مارس 2018، كتبت جنيفر كروكيبيرج، الباحثة في منظمة “big brother watch” البريطانية، مقالًا  تشرح فيه الأسباب التي دفعتها إلى حذف حسابها على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك بعد عشر سنوات من إنشاء الحساب والتفاعل عليه، كان القلق حول الخصوصية هو الدافع الرئيسي الذي تحدثت عنه الكاتبة ببساطة. 


تقول: "كان فيسبوك بالنسبة لي وسيلة للتواصل بسهولة مع الأصدقاء، مشاركة الموسيقى والصور والفيديوهات، اعتقدت أن ما أشاركه هو لي فقط ولأصدقائي، ولكن بعد سنوات تغيّرت نظرتي إلى فيسبوك جذريا بعد أن أدركت أن تحديثات الأصدقاء التي تصلني يتم تصفيتها وفلترتها وفق الإعلانات المُمولة والتوصيات المُعتمدة على ما أتابعه في المواقع الأخرى، لقد شعرت بأني تحت المراقبة، وعُرضة للتلاعب والاستغلال باستمرار، وعزّز لدي هذه القناعة ما تردد عن استغلال شركة Analytica  لبيانات 50 مليون مستخدم". 


وبقدر ما يُقدِّم ذلك التخلص النهائي من إغواء تتصاعد حدة نبرته عامًا بعد الآخر وعدًا براحة نهائية أو مثاليّة، إلا أنه قد تكون له مثالبه التي قد تختلف من شخص لآخر وفق احتياجاته الفعليّة لقدر ما من اتباع ذلك الإغواء. بيد أن ما ينبغي التأكيد عليه في كل الأحوال هو أن تعزيز الوعي بالإشكاليات التي قد تنجم عن انتهاك الخصوصية كرهًا أو التبرع بها طوعًا في مواقع التواصل الاجتماعي بات ضروريًا وجوهريًا، ومن خلاله يستطيع كل فرد أن يُعزِز من خصوصيته بما يُناسِبه وبأقصى قدر تسمح به تلك المنصات.