لعل أهم ما يميز محمد حسنين هيكل - إلى جانب
قدراته المتنوعة - حسه التاريخى، وحرصه على أن يقدم رؤيته لتاريخ الفترة التى
عاصرها فى الصحافة والسياسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى حرب أكتوبر
1973، وما ترتب عليها من نزوع نحو تصفية القضية الفلسطينية لصالح المشروع
الصهيونى.
وجاءت رؤيته للتاريخ (كما عاصره) فى سلسلة من الكتب التى نشر معظمها
بالإنجليزية، وحرص على أن يصوغ بقلمه طبعتها العربية، مضيفاً الكثير من المعلومات
والملاحق الوثائقية التى لا تحتملها الطبعة الإنجليزية، والتى تتخذ أساساً لطبعات
أخرى تصدر باللغات الأوروبية الأخرى، وبعض اللغات الآسيوية.
فهو عند صياغته للطبعة
العربية لكتاب نشر أصلاً للقارئ الأجنبى، قدم للقارئ العربى خطاباً يتناسب مع
الرسالة التى يريدها أن تصل إلى أصحاب العلاقة الذين يخصهم ما يكتبه، ويسعى من
وراء ذلك إلى تنمية الوعى بالتاريخ عندهم.
والرجل حريص تمام الحرص على أن يؤكد فى
مقدمات كتبه أنه ليس مؤرخاً، ولم يقصد بما كتب أن يقدم بحوثا تاريخية تلتزم الأصول
المنهجية التى تقيد عمل المؤرخ، ولكنه يقدم رؤيته الذاتية لأحداث عاصرها، وشهادته
لحوادث أتاح له قربه من صانع القرار (جمال عبدالناصر ثم السادات) أن يراها تتشكل
أمام ناظريه، وأن يسارك - أحياناً - بنصيب ما فى صنعها.
وهذا التحفظ الذى يؤكده هيكل لقرائه فى
مقدمات كتبه، يعبر عن فهم عميق لصناعة المؤرخ الذى عليه أن يستقى مادته من مختلف
المصادر ويقوم بتحليلها واستقرائها، واستخلاص النتائج منها، فهيكل يريد بذلك ألا
يلزم نفسه أمام القارئ بما يلتزم به المؤرخ. كما يتم هذا التحفظ عن إدراك عميق -
من جانبه - الفارق الكبير بين التأريخ، وتسجيل الشهادة التاريخية التى تعبر عن
الرؤية الذاتية لصاحبها، والتى تعطى له الحق فى تناول وقائع لا مصدر لها سواه، ولا
تلزمه بإقامة الأدلة المادية على دقتها، أو حتى صحتها.
ولا يعنى ذلك أن تلك الشهادات التى تطغى على
الكثير من كتابات هيكل تجعل مما يكتبه نوعاً من المذكرات الشخصية، فالمذكرات
لاتلتزم موضوعاً محددا إلا فى حالات نادرة مثل مذكرات ونستون تشرشل عن الحرب
العالمية الثانية مثلا، أو مذكرات الجنرال ديجول عن الحرب ذاتها، أو مذكرات هنرى
كيسنجر عن فترة خدمته فى البيت الأبيض.
أما كتابات هيكل فتغطى موضوعات شتى تبدو
قائمة بذاتها ولكنها ترتبط ارتباطا وثيقا ببعضها البعض، وتتصل حلقاتها اتصالا
وثيقا، من حرب فلسطين 1948 إلى حرب أكتوبر 1973، ومن سياسات الهيمنة على الشرق
الأوسط كما مارستها القوى الاستعمارية التقليدية إلى مخططات الهيمنة كما وضعتها
الولايات المتحدة فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتتقاطع مع هذا كله
سياسات القوى الكبرى فى عصر الحرب الباردة، وحركة التحرر الوطنى فى العالم العربى
وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية .
وتتعدد تبعا لذلك الميادين والمسارح التى
شهدت تلك الوقائع والأحداث: مصر، والوطن العربى، وإفريقيا ، والساحة العالمية .
رؤية الكاتب الذاتية
وكل كتاب من كتب هيكل يدور حول حدث معين محوره
تاريخنا القومى المعاصر، وإطاره صراع القوى الإقليمية والدولية، يتضمن رؤية الكاتب
الذاتية لذلك الحدث، ويسجل شهادته لما يراه من بعض مكوناته ويتضمن عرضا مستفيضاً
لوجهات نظر ومواقف مختلف الأطراف التى شاركت فى صنعه، ولايقتصر على تسجيل المواقف
التى شهدها الكاتب أو اطلع على أخبارها.. وهنا يكمن الفرق الكبير بين كتابات هيكل
التاريخية والمذكرات الشخصية التى لايكاد يخرج صاحبها عن إطار الأحداث التى شارك
فى صنعها، وتغلب عليها الذاتية، والطابع الدفاعى التبريرى على نحو لانجده فى
كتابات هيكل .
ولايعنى هذا أن هيكل قد أفرغ كل ما فى جعبته
فى تلك الكتب، ثم «استأذن فى الانصراف» فرغم القيمة لهذه الكتب تظل هناك مساحة
عريضة لمذكرات شخصية (لعلها عنده فعلا ويحجم عن نشرها) يقدم فيها - للتاريخ -
خلاصة تجربته الشخصية فى عالمى الصحافة والسياسة، فمثل هذه المذكرات (لو رأت
النور) تعين المؤرخ فى وصل ما انقطع، وتجسير الفجوات فى رواية تاريخنا المعاصر.
ألوان من الكتابة التاريخية
ورغم أن هيكل تبرأ فى مقدمات كتبه - كما
أشرنا - من أن يحسب على زمرة المؤرخين، ونفيه أن يكون قصده من وراء ما كتب «كتابة
التاريخ» ، فما فعله - فى حقيقة الأمر - لايبعد كثيرا عن عمل «المؤرخ» وما كتبه
يمثل لوناً على درجة كبيرة من القيمة من ألوان الكتابة التاريخية. قد تكون هناك
بعض الهيئات هنا وهناك، قد تتفاوت نظرة المشتغلين بالبحث التاريخى إزاءها، فيرقى
بها البعض إلى درجة الأخطاء، وقد يغلو البعض الآخر فينزل بها منزلة الخطايا، ولكن
تظل لها قيمتها، وتظل مصدرا لا غنى عنه لكل من يهتم بدراسة تاريخنا المعاصر.
ولاريب فى أن نفى هيكل لتقمص دور المؤرخ يعكس
إدراكه الدقيق والعميق لخصائص الكتابة التاريخية التى يجب أن تستمد مادتها من
المصادر الأساسية، وهنا نجد هيكل لايكتفى بما بين يديه من مادة محلية تمثلت فى
وثائق رئاسة الجمهورية وأجهزة الأمن القومى التى لاتزال «محرمة» على المشتغلين
بالبحث التاريخى ، لايكتفى بذلك، بل يعمل على استخدام وثائق الأطراف الأخرى التى
كانت لها علاقة بالحدث، فجمع عدداً هائلا من الوثائق البريطانية والأمريكية، سواء
ما كان منها رسميا أو خاصا، مستفيدا - بذلك - من نظم الأرشيف الوطنى ، وإتاحة الاطلاع
على الوثائق بعد مرور 25 عاما على الأحداث التى تتناولها والقوانين الخاصة بحق
الحصول على المعلومات ، وهى كلها أمور يفتقر إليها أرشيفنا القومى الذى يعانى
فقراً شديدا فى وثائق العصر الملكى ، ويخلو تماما من وثائق الثورة .
وهكذا، نجد هيكل يمارس مهمة «المؤرخ» من هذه
الناحية، فيقارن المادة «الثمينة» المصرية التى بين يديه، بما جاء بالوثائق
البريطانية والأمريكية، ليصوغ رواية «تاريخية» يضفى عليها قدرا كبيرا من الحيوية
بما يستخدمه من مصادر - أخرى - لم تتح لأحد سواه - مثل اللقاءات الشخصية،
والأحاديث الشفهية مع صناع القرار ، وكذلك الرجوع إلى المذكرات الشخصية والتصريحات
الصحفية، فهو يقدم فى نهاية المطاف صياغة للواقعة لاتختلف عما يفعله المؤإخ
المحترف الذى يملك ناصية منهج البحث التاريخى من حيث المصادر والأدوات، وأسلوب
إعادة بناء الحدث .
فما يفعله «المؤرخ» المحترف لايختلف عن ذلك
كثيرا ، إذ يجمع مادته من مصادرها الأساسية، ويقوم بترتيبها وفق نسق منهجى معين
يعكس - إلى حد كبير - ثقافته ورؤيته الذاتية، ثم يقدم صورة قلمية للحدث الذى يتصدى
لكتابته ، تعبر عن تصوره له، استنادا إلى فهمه الخاص لما بين يديه من مادة،
فالكتابة التاريخية هنا ليست عملا ماديا آليا، ولكنها تتضمن الكثير من الإدراك
والتمثل، والتعبير عن فكر صاحبها، ولا أظن أن هيكل كان بريئاً من ذلك كله، بل أراه
لايختلف عن «المؤرخ» من حيث طريقة العمل والأدوات اللازمة له، وإن كان هيكل قد
تخلص من الكثير من القيود التى تحكم حركة المؤرخ.
من هذه القيود إبراز الدور
الشخصى لهيكل، وطغيانه - أحيانا - على رواية الوقائع، فالمؤرخ يتعامل مع حدث لم
يكن طرفا فيه، أما هيكل فوضعه مختلف، ولانستطيع أن نطالبه بالتخلص من ذاتيته، بل -
على العكس - نجد فى هذا اللون من الكتابة ما يضىء الكثير من بقع الظل الكثيفة التى
تغطى الحدث، فهو لايروى الأحداث كما يرويها من شهدها على الورق ورآها من الخارج
ولكنه يرويها رواية «الشاهد» الذى كان فى قلب الحدث .
ومن هذه القيود التى تخلص منها هيكل الاعتماد
على مصدر واحد - أحيانا - فى واقعة بعينها، وخاصة إذا كان المصدر شفهياً، فلا يملك
«المؤرخ» أن يفعل ذلك دون أن يعرض نفسه لسيل جارف من النقد، وغالباً ما يستخدم
المؤرخ عبارات تنم عن الحذر الشديد، وتتضمن الكثير من التساؤلات إذا اضطر أن
يستخدم رواية لاسند لها إلا مصدر واحد، أما بالنسبة لهيكل فتسجيل الرواية أحادية
المصدر يعد «شهادة» لاتخلو من قيمة، عندما تتاح الفرصة لمقارنتها بما قد يتم
التوصل إليه من مصادر أخرى .
أستار من الظلال
وأخيرا تخلص هيكل من قيد التخلص من أسلوب
الانتقاء عند بناء روايته للحدث، فيغفل أشياء أو يسدل عليها أستاراً من الظلال،
بينما يلقى أضواء ساطعة على غيرها من الأشياء، فمثل هذا الأسلوب الانتقائى للوقائع
أو مكوناتها لايقبل من المؤرخ، ولكنه من السمات المتواترة فى كتابات أصحاب
الشهادات التاريخية وكذلك أصحاب المذكرات .
على ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الدوافع التى
جعلت هيكل يحرص على أن ينأى بنفسه عن الانتماء إلى «المؤرخين» وينفى عن كتاباته
صفة «التأريخ» ولكن ما قدمه من أعمال تعد - فى رأيى - مصدرا مهما لايستطيع أى مؤرخ
جاد يعنى بتاريخ مصر المعاصرأن يتجاهله أو يهون من شأنه فلا مناص للمؤرخ من أن
يستخدم هذه الأعمال، ويتعامل معها بهذه الصفة، ويخضعها - كما يشاء - للنقد
والتحليل المنهجى ، تماما كما لايمكنه إهمال أعمال عبدالرحمن الرافعى التى تتناول
تاريخنا القومى فى النصف الأول من القرن العشرين، مع اختلاف المستوى والقيمة بين
عمل الرجلين، فلم يتح لعبدالرحمن الرافعى الفرص التى أتيحت لهيكل، واقتصر عمله على
رصد الوقائع اعتمادا على المادة المحلية وحدها فى أغلب الأحوال، ولم تكن له معرفة
هيكل بالسياسة الإقليمية والدولية، وكان - فى أغلب الأحوال - «مراقبا» خارجيا،
وليس مشاركا فى صنع الحدث.
ورغم أن عبدالرحمن الرافعى لم يسلم من النقد
المر الذى وجهه إليه «المؤرخون» إلا أنهم ، بلا استنثاء - لم يسقطوا أعماله من
اعتبارهم، بل لايستطيع المنصف منهم أن ينقص من قيمتها رغم ما قد يكون له عليها من
مآخذ.
جهد يفوق طاقة المؤرخ
وكتابات هيكل التاريخية ملأت دون شك فراغا
كبيرا فى المكتبة العربية، وتمثل جهدا يفوق طاقة وجهد المؤرخ الفرد، ولابد أن يكون
الرجل قد استعان بعدد من المعاونين فى جمع الوثائق الأجنبية وترتيبها، وتجهيزها
للعمل عليها، وكذلك ترتيب المادة الوثائقية المصرية، أما الكتابات بهذا الأسلوب
المميز فهى من عمله وحده، ويدخل فى ذلك اختيار المادة وتنظيم الاستفادة منها.
وتكمن قيمة هيكل فى الوثائق المحلية التى
أتيح له الحصول على نسخ مصورة منها. وكذلك فى الشهادات التى أوردها للأحداث التى
شارك فى صنعها أو كان شاهدا عليها أو مراقبا عن قرب، هذا فضلا عن اللقاءات
والأحاديث الشفوية التى كان طرفا أساسيا فيها وخاصة ما يرويه عن عبدالناصر
والسادات وبعض الشخصيات الأمريكية والأوروبية، فهذه كلها مادة مهمة يستطيع
«المؤرخ» أن يستخرج منها الكثير والكثير من الدلالات والاستنتاجات التى قد تختلف
عما توصل إليه صاحبها من نتائج .
وإذا كان المقام يضيق هنا عن تحليل مضمون
كتابات هيكل التاريخية، فلا مناص من أن نثير - بهذه المناسبة قضية مهمة سبق أن
تناولناها فى مناسبات أخرى فى مقالات وأحاديث صحفية، كما تناولناها فى لقاء مع هيكل
جاء بدعوة كريمة منه فى صيف 2001 ، بعدما تم افتتاح مقر الجمعية المصرية للدراسات
التاريخية الذى شيده الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى من ماله الخاص، ووهبه
للجمعية، عندئذ طلب الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يلتقى ببعض أعضاء مجلس الإدارة،
ورتب اللقاء الصديق الكاتب الصحفى أحمد الجمال عضو الجمعية .
وفى ذلك اللقاء أثرنا مع هيكل موضوع الوثائق
التاريخية التى يحتفظ بنسخ منها لديه، وهى - دون شك - تفوق من حيث الكم ما استخدمه
فى كتبه، وطلبنا منه أن يودع هذه النسخ المصورة دار الوثائق التاريخية القومية،
وقلنا له: إن ذلك العمل يوفر خدمة جليلة لتاريخ هذا الوطن تتوج ما بذله من جهد فى
تسجيل هذا التاريخ فى كتبه .
حديث حول الوثائق
ودار
بيننا وبينه حديث شيق حول أهمية تاريخ مصر المعاصر وخاصة فترة الأربعينيات
والخمسينيات وكذلك تاريخ المنطقة وفهمنا أنه لايريد التحدث «بصراحة» حول موضوع الوثائق،
فحاولنا توجيه الحديث إليه، وكانت حجته أن ما لديه ليس وثائق رسمية بل صور منها،
وأنه يخشى أن يكون مصيرها التلف والإهمال والضياع إذا سلمها لهيئة حكومية، ولمح
إلى إمكانية إيداعها هيئة خاصة إذا ضمن أن تكون موضع الرعاية .
فأبدينا استعدادنا أن نخصص لها المكان اللائق
بها فى مكتبة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية.. وانتهى اللقاء دون أن نحصل منه
على موقف محدد من الاقتراح، وحاولنا التواصل معه، وقدمنا له دعوة؛ لزيارة الجمعية
وإلقاء محاضرة بها، وتركنا له تحديد الموعد الذى يلائمه، ولازلنا عند موقفنا بعد
ثلاث سنوات من هذا اللقاء .
إن
الجهد الجليل المهم الى بذله هيكل فى تسجيل رؤيته وشهادته لتاريخنا المعاصر،
لايكتمل إلا بإتاحة ما لديه من وثائق للباحثين عن طريق إيداعها إحدى الهيئات
العلمية التى يطمئن إليها، فقد حصلت دار الوثائق التاريخية القومية على مجموعة
كبيرة من الوثائق الأمريكية والبريطانية، ومازالت الوثائق المصرية لتلك الفترة
قابعة عند الأستاذ هيكل يتطلع الباحثون إلى اليوم الذى يتاح لهم استخدامها. وستظل
يد الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ممدودة إذا شاء الأستاذ اختيارها مقرا
لمجموعته الوثائقية .