لابد أن مؤرخى الأجيال القادمة سيحتارون طويلاً إذا ما عن لأحدهم أن يقيم الأدوار التى لعبها “محمد حسنين هيكل” على مسرح الصحافة والسياسة المصرية والعربية إذ المؤكد أنهم سيضلون الطريق إلى “هيكل” بين جبال من التفاصيل، وتلال من الأكاذيب، ومتاهات من أدوات المكياج..
ومشكلة البحث عن “هيكل” أن فصل الذروة فى عمره، كان مضيئاً بشكل يعمى عن الرؤية..
ففى تلك السنوات الثمانى عشرة - التى انتهت فى 28 سبتمبر
1970 - كان “هيكل” ملء السمع والبصر، لا يغادر الخشبة، ولا تخطئه أعين المتفرجين..
لا تكف تليفونات مكتبه عن الرنين، ولا تخلو غرفة سكرتيرته الشهيرة “نوال المحلاوي” من الزائرين ملوك ورؤساء جمهوريات وساسة ووزراء ومناضلين وسفراء وكتاب ومفكرين وطالبى حاجات - ينتظر بعضهم بالساعات، بلا ملل، ولا شكوى، بل ويمتنعون باختيارهم عن التدخين لأنه يضايق “نوال المحلاوي”.
كان باختصار يقف تحت كل أضواء الدنيا، كما يليق برجل كان يوصف -
آنذاك - بأنه أقوى رجل فى مصر بل فى الشرق الأوسط، ولعل الوهج الزائد عن الحد، الذى كان يشع منه وحوله فى تلك السنوات العجيبة -
هو الذى جعل أكثر الفصول إضاءة فى عمره، أكثرها غموضاً وأحقلها بالظلال ومناطق العتمة.
وليست أصول صنعة التاريخ، هى وحدها التى ستفرض على هؤلاء المؤرخين المساكين العودة إلى الفصل التمهيدى الذى سبق دخول “هيكل” إلى خشبة المسرح فى
23 يوليو 1952، وهو فصل استغرق عشر سنوات بدأت فى عام 1942، كان “هيكل” خلالها مجرد صحفى بين صحفيين، استهل حياته الصحفية - وهو فى التاسعة عشرة - محررا عسكرياً فى “الاجيبشيان جازيت”، ثم انتقل منها بعد عامين، ليعمل فى “آخر ساعة”..
وبعد عامين آخرين -
وفى عام 1946 - يشترى أولاد أمين - التوأمان “علي” و “مصطفي” - المجلة من أستاذهما “محمد التابعي”، فينتقل الثلاثة - التابعى وآخر تلامذته “هيكل” والمجلة - إلى “دار أخبار اليوم”، وهناك يستقر “هيكل” صحفياً بين صحفيين، لا هو أشهرهم، ولا هو أخملهم..
لكنه كان بالقطع أذكاهم.
تلك عودة - لا مفر منها - للماضى، سيقود المؤرخين إليها -
فضلاً عن أصول الصنعة - الأمل فى العثور على قبس من نور يضىء عتامة أحداث سنوات الذروة، وهو أمل لابد وأن يقود هؤلاء المؤرخين التعساء إلى فصل الختام، الذى انطفأت بعده أضواء المسرح، وأنوار الصالة، ولم يبق سوى تصفيق بعض المتفرجين، وصفير الآخرين، وصمت الأغلبية التى عودتها المحن، أن تداوى بالنسيان كل الجراح!
ومن سوء حظ هؤلاء المؤرخين أن حظ “هيكل” قد دفعه إلى المسرح ليلعب البطولتين الأولى والثانية، فى مسرحية واحدة، تنتمى لزمن واحد، فكان “المجان بريمييه” فى الصحافة، و “صديق الشجيع” فى السياسة.. وما أن اسدل الستار على المسرحية، حتى اختلف الناس على الزمن ذاته، فقال الكارهون وطالبو الدم شائنين: هذا زمن الرعب النقى، والقهر الصفى.. وقال الوالهون غراماً: بل زمن العظمة التى لم تلد ولم تولد..
وفى ضجيج المناظرة، ضاعت أصوات خافتة، اغتصب أصحابها نصف ابتسامة، وذرفوا الدمع من عين واحدة، وقالوا:
- إنه زمن عبدالناصر، آخر الفراعنة الأفذاذ، ذلك الذى كان عظيم المجد والأخطاء، وليس “هيكل” سوى كاهن تعيس الحظ، مات فرعونه قبل الأوان، وتركه وحيداً بين جدران المعبد، وقد انفض المرنمون، وهرب المصلون، وتغير اتجاه طوابير الذين جاءوا يوفون بالنذور، ولم يبق سوى الكاهن الأعظم، يطلق البخور، ويتلو التعاويذ، وينشر الوثائق، ويعد أسانيد الدفاع.. فسبحان الذى بيده الملك، يؤتى الملك من يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شىء قدير!
وهكذا يتعقد الطريق إلى “هيكل” وتكثر فخاخه، وتتداخل الحدود بين معالمه وعوالمه..
مع أن “هيكل”
- كظاهرة تاريخية - ليس أكثر من تنويع على ثنائية مصرية شهيرة وكثيرة التكرر هى ثنائية “الفرعون” و “الكاهن”.. فهكذا كان حظنا، أو هكذا كانت عبقرية المكان الذى نحتله على خريطة الدنيا: أن يحكمنا دائماً فرعون قد يأتى فيملؤها عدلاً ونوراً، أو يأتى فيملؤها ظلماً وجوراً، لكنه فى كل الأحوال معبود بقوة القهر أو قوة الحب أو قوة النهر الذى فرض علينا دائماً أن نخضع لقوة مركزية جبارة، تحفظ الاستقرار، وتنظم تدفق المياه فى ملايين من قنوات الرى التى تخرج منه، حتى لا يجتاحنا الفيضان أو يقتلنا الجفاف، لذلك كان منطقياً ألا يستغنى “الفرعون” عن “كاهن” يعطى الروح لقوة القهر، وقوة الحب، ويبشر وينصر ويزين ويدافع ويهاجم ويحشد المصلين فى بهو المعبد.
وهكذا كان “عبدالله النديم” كاهن “أحمد عرابي” وترجماته إلى قلوب الناس، وكان بسيطاً كزعيمه، ومخلصاً وسيئ الحظ مثله،
وكان “عباس العقاد” هو الكاتب الجبار للزعيم الجبار “سعد زغلول”، يدافع عنه ويشن الغارات على أعدائه، ويطلق نيران قلعة الجبار عليهم فتتناثر جثثهم على صفحات الصحف!
وكان “محمد التابعي” هو صحفى “مصطفى النحاس”، حارب إلى جواره بالمانشيت والخبر والمقال القصير والتعليق الساحر.
وكان “هيكل” - كما قال هو نفسه -
آخر تلامذة “محمد التابعي”.. وخلال السنوات التى قضاها “هيكل” مع “التابعي”، ثم مع “أولاد أمين”، كان يراقب بذكائه المشع، قوانين لعبة “الفرعون” و “الكاهن”، يدرسها عن قرب، ويحللها بعمق، ويحفظها ظهراً عن قلب، وكان “محمد التابعي” قد لقن تلامذته أن الصحفى يمكن أن يكون “صاحب جلالة” حقيقية، وملكا يملك ويحكم، دون أن يغادر مقعد رئيس التحرير، لأن الصحافة صاحبة جلالة فعلية، فطالما أن الفرعون لا يستغنى عن الكاهن، ولا يعيش دونه، فمن واجب الصحفى أن يرتقى بمهمته - ومهنته -
من مجرد نشر الأخبار إلى المشاركة فى صنعها.. ومن حقه أن يكون طرفاً فى تخليق الحدث، الذى ستقع على عاتقه مهمة تزيينه أمام الناس، أو تفسيره لهم..
وذلك ما كان يفعله “التابعي”، المعجبانى
، الذى يعرف قيمة وتأثير وسحر كهانته..
فكان يشارك فى تشكيل الوزارات وفى حل الأزمات، وفى تدبير الانقلابات.
وحين انتقل “هيكل” إلى “أخبار اليوم” وعرف صاحبيها - “علي” و “مصطفى أمين”
- وجد نفسه قريباً إلى الجيل السابق عليه من تلامذة “التابعي” وعاين عن قرب عالم الكهانة..
وعرف صورة منها فى فتوتها.. فقد كان “أولاد أمين” هم نجوم ذلك الزمن: يمرحان فى إبهاء القصر الملكى، ويصادقان الحاشية، ويتصلان بالوزراء، ويستقبلان السفراء والزعماء، ويعرفان أسرار المفاوضات، ويحملان الرسائل بين أبطال المسرحية، ويطلعان على ما يجرى فى غرف النوم وما يدور بين الفراعين من صراع على اللحم والدم والعواطف، ويطلقان البخور بين أعمدة الهيكل، وربما يدهش كثيرون، لأن هذا الفصل التمهيدى من عمره قد انتهى، وهو مجرد عضو منتسب فى نادى الكهانة..
فانتصرت ثورة يوليو وهو لا يعرف من فراعين “العهد البائد” سوى اثنين أو ثلاثة من فراعين الدرجة الثانية، كان بينهم “على الشمسى باشا” و “نجيب الهلالى باشا”، لعله تعفف العاجز المغلوب على أمره.. ففى تلك السنوات، كان المعبد مزدحماً بديناصورات الكهان: أولاد أمين وأولاد أبوالفتح وتادرس نمر وفكرى أباظة وكريم ثابت.. وكان الصراع محتدماً بين ديناصورات الفراعين: الملك فاروق والسفير البريطانى ومصطفى النحاس وأحزاب الأقلية.
ولأن “هيكل” لم يكن يوماً أحمق فإنه لم يقتحم الحلبة ليصارع على مرتبة الكاهن الأعظم، ربما لأنه أدرك بواقعية أنه يكاد يخلو من كل الأسلحة التى تؤهله لخوض الحرب، فهو لم يولد - كأولاد أمين - فى بيت “سعد زغلول”، ولم يتعلم فى جامعة “جورج تاون” و “جامعة شيفلد” كما تعلما.. ولم تحمله الملكة الوالدة، وتهشكه، وهو شرف ناله التوأمان وهما رضيعان، ولم ينله “هيكل”، فكل مؤهلاته أنه ابن أسرة مستورة، تنتمى للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وكل شهاداته، هو دبلوم التجارة المتوسطة، ودبلوم فى القانون والإعلان، حصل عليه، بالمراسلة، من أحد المعاهد الأجنبية، ودرس سنتين بقسم الدراسات الاقتصادية بمدارس الليسيه الفرنسية.. ولعله لم يقتحم الحلبة أيامها ليحصل على مكانة الكاهن الأعظم، لأنه أدرك أن عرش الفرعون الأعظم خاليا، وكان معنى ذلك أن الصراع الذى يدور على موقع الكاهن الأعظم، هو مجرد حماقة، أما معناه الأعمق - طبقاً لقوانين التاريخ المصرى -
فهو أن قمر الزمن قد شك أن يدخل فى المحاق.
وقد كان: هو قمر الزمن الماضى ليطمره المحاق، وزحف الفراعين الشائخون يتوكأون على عكاكيزهم، وفى معينهم زحف شيوخ وشباب الكهان، وقبلة الكل هو معبد الفرعون الجديد، فى ذلك المبنى الذى لا يزال - إلى الآن -
يحمل اسم مجلس قيادة الثورة، وشعار للجميع: مات الملك..
عاش الضباط الأحرار..
وبينهم كان “هيكل” أصغرهم سناً، وأكثرهم ذكاء وطموحاً وأبعدهم عن شبهات هؤلاء الضباط الشبان الخشني الوجوه والملابس والكلمات..
ولأنه كان مجرد عضو منتسب فى نادى كهان الزمن المنهار، فإن الشبهات التى أحاطت بدار “أخبار اليوم” - مركز الكهانة الرئيسى للفرعون المخلوع لم تلحقه مع أنه كان أحد كواكبها اللامعين، وفى اليوم التالى للثورة، كان كبيرا الكهنة -
مصطفى وعلى أمين -
يعتقلان بسبب وشاية لم يتثبت منها أحد، وكان “هيكل” يذهب فى صحبة الأستاذ “التابعي” ليتوسط للإفراج عنهما، ومع أن المياه قد عادت إلى مجاريها، وساد الوئام بين الفراعنة الجدد وبين “أخبار اليوم” وكهانها، فإن الشبهات التى أحاطت بالكاهنين الكبيرين، كانت مؤشراً على أن فراعنة الزمن القادم، ينظرون بريبة إلى كهنة الزمن النهار.
سبحانك اللهم، تولج الليل فى النهار..
وتولج النهار فى الليل، وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى..
وترزق من تشاء بغير حساب!
سقطت معظم الحواجز التى كانت تقف بين “هيكل” وبين عرش الكهانة، الذى أصبح الآن - 1952 - خالياً!
كان الفراعين الجدد أولاد عائلات مستورة مثله، ولم يكن أحدهم قد نال شرف تهشيك الملكة الوالدة، وكان الكهنة القدامى قد خرجوا من السباق بعد أن قعد بهم الروماتيزم وقيدتهم الشبهات، فلم يتحركوا من مكانهم على الخشبة،
وكان الزمن القادم يبحث عن كاهنه وشاعره ومغنيه، أما المنافسون الحقيقيون، فقد كانوا الفرسان الذين شاغبوا على الزمن القديم، وشنوا الغارة ضده، وكان بينهم ثلاثة على الأقل، يعرفون كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة معرفة وثيقة، إبان سنوات الإعداد لها، ويصادقون عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم والآخرين، لمع من بينهم -
فى العامين السابقين على الثورة - “إحسان عبدالقدوس”، صاحب معركة الأسلحة الفاسدة، و “أحمد أبوالفتح”، بطل معركة قوانين تقييد حرية الصحافة، و “حلمى سلام” صاحب الحملة على فساد إدارة الجيش!
ذلك سباق لم يكن لهيكل مكان فيه.. فقد قامت الثورة وتقارير القلم المخصوص، تقول عنه إنه “بلا لون سياسي”.. ومع أنه قد عمل فى “الإجيبشيان جازيت” - ذات الصلة التاريخية بدار المندوب السامى البريطانى -
وفى “آخر ساعة”
- المجلة الوفدية المتشددة -
ثم فى “أخبار اليوم” جريدة القصر، فإن دخل هذه الصحف كلها وخرج منها وقد حافظ على “نقائه السياسي”، فظل بلا “لون”.، والغريب أن هذا السباق قد انتهى فجأة بعد عامين فقط من قيام الثورة، فإذا بهيكل -
الذى لم يشغب على العهد القديم، ولم يصنف بين الثائرين عليه، يفوز بمنصب الكاهن الأعظم، أما “أحمد أبوالفتح” فقد أغلقت جريدته “المصري” وهاجر ليعيش فى المنفى عشرين عاماً، وتحطمت ذراع وضلوع “إحسان عبدالقدوس” إبان تلقيه لدروس فى الكهانة فى إحدى زنازين السجن الحربى.. وكان “حلمى سلام” يلهث هناك فى آخر الطابور، حتى جاء اليوم الذى قادته فيه الرغبة فى الانتصار على “هيكل” إلى حماقة سارت بذكرها الركبان.
فى تلك السنة -
1954 - أثبت للفراعين الجدد، أنهم “أولاد آمون” حقاً، وأنهم يفضلون هؤلاء “الذين بلا لون” لأنهم سيخلقون لونهم الخاص من ناحية، ولأنهم - وهذا هو الأهم لا يريدون شغباً يفسد عليهم الاستقرار الذى يريدونه، ليصنعوا مصر التى يريدون.
وهكذا بدأت سنوات المجد التى كان وهج “هيكل” خلالها يكاد يعمى الأبصار، واحتل الفتى الريفى القادم عن “باسوس” أقرب مكان إلى القمة.. وتخلق لأول مرة، وبشكل يكاد يكون مثالياً، حلم محمد التابعى فى أن يصبح الصحفى صاحب جلالة حقيقية..
فجلس “هيكل” - آخر تلامذته - على مقعد بجوار عرش الفرعون الذى جاء من قرية “بنى مر” ليملأها عدلاً ونوراً بعدما “ملئت ظلماً وجوراً”.
لم يحصل “هيكل على كرسى الكهانة بالصدفة، بل تطبيقاً لقوانين التاريخ.. ولأن عبدالناصر لم يكن فرعوناً تافهاً فإن كاهنه كان مقتدراً وذكياً وموهوباً بالفطرة، ورث كل علوم الكهانة من عصر “مينا”، فلم يبدد ما ورثه، بل أضاف إليه وطوره، وعصرنه..
ولابد أن الذى ساعده على الإتقان، إحساسه الصادق بأن كهانته كانت - فى الأغلب الأعم - تدافع عن قضايا معظمها حق وعدل.. وسوف يمضى زمن أطول مما يقدر أكثرنا تفاؤلاً، قبل أن تتكرر ثنائية “الفرعون” و “الكاهن” بهذا المستوى الرفيع، ذلك أن “هيكل” لم يمارس دوره بمنطق الكهنة المأجورين، بل بروح العشاق المفتونين، فسخر كل مواهبه فى خدمة الفرعون الذى جاء من هناك حيث الكل فى واحد: يصوغ له الخطب والرسائل، ويؤلف له كتاباً فى الفلسفة وميثاقاً فى العمل الوطنى وبياناً فى 30 مارس، ويقرأ عليه الكتب وبرقيات وكالات الأنباء، ويلخص له الصحف والإذاعات، ويسفر بيته وبين ساسة العالم ودبلوماسييه وصحفييه ومناضليه وأفاقيه، ويخرج له قراراته الكبرى، بشكل يعجز عنه أكثر المخرجين المسرحيين اقتدارا، ويكتب عنه وله، كل أسبوع “ تراميم يوم الجمعة”، فيزود المريدين بنشيد يترنمون به، وينحت له تلك الكلمات الإسفنجية التى تمتص دموع الكوارث، وترفع من لعلعة زغاريد الانتصار، فهو الذى سمى كارثة الانفصال “نكسة”، وهو الذى أطلق الاسم ذاته على هزيمة يونيو 1967، وهو صاحب التعبير الشهير الذى نشر على لسان المشير “عبدالحكيم عامر” قبل الكارثة بأيام: نحن نملك أكبر قوة ضاربة ورادعة فى الشرق الأوسط.
ويقبل الليل فلا ينام “هيكل” بل يظل قابعاً بجوار التليفون الأبيض الذى يصل بينهما، فإذا رن جرسه الموسيقى..
بدأت مساورة الليل بين الاثنين.. وتواصلت لساعات، كما يفعل الرومانسيون من العشاق.
ولعل “هيكل” هو الوحيد ممن كانوا حول عبدالناصر، الذى ظل نجمه يعلو فى اطّراد، ولعله الوحيد الذى نجا من آثار المعارك الدموية التى كانت تدور فى كواليس القصور وبين مراكز القوى ومديرى المكاتب، مع أن كل الذين كانوا حول عبدالناصر كانوا يحسدون “هيكل” على مكانته لديه، ويكرهونه لذلك، ويرفضون - بدرجة من التعالى - فكرة أن يكون هذا الصحفى المدنى، أكثر قرباً لعبدالناصر منه، وكان ما يرفضونه، هو أحد أسباب تمسك عبدالناصر بهيكل، إذ كان أقرب ما يكون لوجه مدنى لثورة
23 يوليو، أمام الذين لا يستريحون - أو لا يثقون فى الانقلابات العسكرية.. ثم إنه كان نافذة أرحب على العقلية المدنية التى تفتقدها الأجهزة الحساسة المعاونة لعبدالناصر، وبهذه العقلية المدنية.. وبقربه من عبدالناصر استطاع “هيكل” أن يوقف كثيراً من المهازل والمظالم والكوارث، واستطاع - وهذا هو الأهم - أن يثبت أن المجتمع المدنى المصرى، لا يزال قادراً على أن يقوم بحكمة، ويدبر برشد، لذلك خاض ببسالة، معركة تجديد شباب “الأهرام”، فلم ينجح -
خلال فترة رئاسته لتحريرها “1957 - 1974” - فى وقف خسارتها فحسب، بل نقلها إلى الربح ثم الازدهار، ورفع توزيعها من مائة ألف نسخة عام
1958 إلى 420 ألف نسخة عام 1974.
فى تلك السنوات جعل “هيكل” من “الأهرام” أشبه بسفينة نوح، وحشد فيها ألمع ما فى الوطن من عقول ومواهب وكفاءات وآراء، وأضفى على العاملين بها بعض حصانته، ومنحهم - على مسئوليته -
جانباً من الترخيص الممنوح له، فعبروا بشىء من الحرية، وفى أحوال ليست كثيرة عن آرائهم، حتى تحولت إلى مركز عصرى للكهانة يزدحم بالعلماء والأدباء والمفكرين والفنانين وأصحاب المذاهب ومن كل صنف زوجين اثنين.
لكنها رغم كل ذلك، ظلت كسفينة نوح - جزيرة صغيرة تائهة بين أمواج عالية كالجبال تحاصرها من كل الجهات لأن “هيكل” لم يكن يستطيع - فى ظل موازين القوى التى كانت تحيط به، أن يفعل أكثر مما فعل، ولعله أيضاً لم يكن يريد، والواقع أن “هيكل” لم يكن يوماً من هؤلاء الشبان الطائشين الذين يتوهمون أن الواقع يمكن أن تغيره مظاهرة، أو تعيد تشكيله خلية ثورية، وكان هذا أحد أسباب بقائه بلا لون سياسى حتى قامت الثورة، مع أن اللعب بالبالونات السياسية الملونة، كان الموضة السائدة فى مصر الأربعينيات.. وبين جيله من الصحفيين والكتاب..
إذ كان من ذلك النوع الذى يؤمن أن التأثير فى القمة أضمن وأسهل وأكثر إدراكاً للهدف، من الاعتماد على تلك الكتل من الجماهير غير الراعية، التى لا تعرف ما تريد، والتى يصعب الاطمئنان إليها، أما وقد جلس على مقعد الكاهن الأعظم، وأصبح أقرب ما يكون إلى التأثير فى هذه القمة.. فقد اكتفى بذلك.
وبعد أن مات عبدالناصر، قال “هيكل” إن العلاقة بينهما كانت علاقة حوار مستمر، لكنه لم يقل إن دائرة الحوار الكهربائية كانت مغلقة عليهما.. ولعلهما كانا الوحيدين اللذين يتحاوران فى ذلك الزمن البعيد المجيد.
وقد خرج فيما بعد بنظرية تقول إن عبدالناصر لم يكن فى حاجة إلى حزب يعتمد عليه، وينظم جيوش المريدين الذين تدفقوا بعشرات الملايين إلى حضرته، إذ كان لديه هذا الحزب، ممثلاً فى أجهزة إعلامه القوية التى كانت تقوم بما يقوم به الحزب، وتلك قمة كهانة هيكل، فالشعوب فى رأيه، خلقت لتسمع وتقرأ، لا لتتكلم أو تكتب، والكاهن هو “حزب” الزعيم أو هو “شعب” الفرعون.. أما عبارات ومصطلحات.. مثل “الشعب العلم” و “الشعب القائد” و “إرادة شعبنا التى هى بالنسبة لى أمر لا يرد”..
التى صاغها “هيكل” وألقاها عبدالناصر، فلم تكن سوى دليل على تفوق “هيكل” فى كتابة الإنشاء!
وهكذا تحولت العلاقة بين الفرعون والكاهن إلى صداقة عميقة -
واندماج فعلى.. وكانت الكهانة المقتدرة قد صنعت من الانتصارات التى توالت فى سنوات المد، أساطير أحاطت رأس الفرعون بأكاليل الغار وفى نهاية ذلك الزمن، بدا وكأن الفرعون قد دمج نفسه فى الكاهن، وأن الاثنين قد دمجا الوطن فيهما، وأن الذى جاء من هناك، حيث الكل فى واحد، قد انتهى إلى هناك، حيث الكل - أيضاً - فى واحد!
وكانت النكسة تزحف -
كالقدر - بخطى حثيثة لتهدم المعبد على رءوس الجميع.
وجاء اليوم الذى مات فيه عبدالناصر قبل الأوان: خلا المعبد من الفرعون القوى القادر المعبود انفض سامر المريدين وصمتت أصوات المغوين، وبقى الكاهن وحيداً تحيط به عواصف من كراهية كل الذين حفظتهم مكانته من الفرعون الراحل، وفى ذكرى الأربعين لوفاة الفرعون - وهى تقليد فرعونى - كتب هيكل الشهير “عبدالناصر ليس أسطورة”، الذى حكم فيه بأن الزعيم الخالد -
هكذا كان عبدالناصر يسمى رسمياً أيامها -
كان واحداً من البشر، وليس أسطورة من غيرهم، وأنه لم يترك معبداً، ولم يعين للمعبد كهنة..
وكان المقال واحداً من ذوى كهانة “هيكل” المقتدرة، أراد أن يضرب به ثلاثة عصافير بحجر واحد، فينزع من مجموعة “على صبري” فضلاً كانت قد نسبته لنفسها بزعمها أنها تضم تلاميذ عبدالناصر ومريديه والأمناء على رسالته، ويرضى السادات الذى كان هذا الزعم فى جانب منه، يستهدف التقليل من مكانته، وأخيراً فإن المقال ينكر حق الكهانة على غيره، ليحتفظ به لنفسه، والواقع أن “هيكل” كان قد أدمن الكهانة، لذلك راهن على “أنور السادات” رغم أنه كان أكثر الناس علماً بأن المسافة شاسعة بين الفرعون والمتفرعن ولم يكن أمامه مفر من أن يفعل ذلك، فقد كانت عواصف الكراهية التى يحركها على صبرى وجماعته، توشك أن تقتحمه، أما السادات، الذى كان طوال عهد عبدالناصر كامناً بين أعواد الذرة كأولاد الليل يتفرج على صراع السلطة، فلم يكن بينهما ما يدعوه للخوف منه، وكانت كهانة “هيكل” المدربة، هى التى اقترحت على السادات، أن يختار الحريات العامة والشخصية والاعتقالات الكيفية وغير القانونية، موضوعاً للصراع مع على صبرى ومجموعته، الذى تفجر فى مايو 1971، بينما كان السادات يريد أن يعلن السبب الحقيقى للصراع، وهو سعى المجموعة لمشاركته فى السلطة، ورفضها وشكلها فى محاولات للتقارب مع أمريكا!
لكن “هيكل” لم يهنأ طويلاً بالقرب من السادات، فقد كان الرجل الذى ظل منزوياً ومجهولاً وبلا مكانة طوال عهد عبدالناصر، يريد أن يثأر لسنوات الإهمال المتعمد، التى كان فيها “هيكل” أقوى نفوذاً، وأعلى مكانة منه.. وكان يطمح أن يكون آخر الفراعنة، ولذلك أراد كهنة لم يرتبطوا فى وجدان الناس بأحد سواه، وخاصة بعبدالناصر.
ورفض “هيكل” بعناد كل محاولات السادات لتطويعه، أو مساواته بغيره من الكتاب والصحفيين، أو نقله إلى حيث يصبح وزيراً من الوزراء، أو نائباً لرئيسهم، أو مستشاراً للرئيس، وأصر على ألا يلعب غير الدور الوحيد الذى عشقه وأتقنه وبرع فيه، وحفز بسببه - اسمه -
على أحجار التاريخ دور الكاهن،
وجرت فى النهر مياه كثيرة:
فى 3 سبتمبر 1981 وجد هيكل نفسه سجيناً فى إحدى زنازين سجن الاستقبال - حدث الذى لم يكن أحد يتخيله أو ينتظره أو يتوقعه.. وكان إلى جواره مباشرة، بعض الذين نازعهم ونازعوه سدانة المعبد، ممن كانوا يسمون بمراكز القوى، وفى 28 سبتمبر 1981، اعتذر “هيكل” عن الحديث فى احتفال كما - على سبيل التحدى - قد قررنا إقامته فى ذكرى وفاة عبدالناصر، وأخفى وجهه تحت الغطاء، واندفع فى بكاء.
وفى 6 أكتوبر 1981، سمعنا خبر مقتل “السادات”، ورغم الأوجه المتعددة للخبر، فقد اختفى هيكل مرة ثانية ليبكى وحيداً فى ظلام الليل.
وكان صوت جميل يأتى من بعيد يتلو قول الله عز وجل، “سبحان الذى بيده الملك، يؤتى الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شىء قدير”