التحق محمد حسنين هيكل بعالم الصحافة في عام 1942 وهو في
التاسعة عشر من عمره محررا بجريدة الإجيبشيان جازيت لصاحبها هارولد ايرل، وكانت
أول تغطية إخبارية له حادثة 4 فبراير 1942 المشهورة التي فرض فيها مايلز لامبسون السفير
البريطاني على الملك فاروق تكليف مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد بتشكيل الحكومة على
غير رغبة الملك فاروق.
وسرعان ما صعد نجم هيكل في عام 1947 حين نشر تحقيقا مصورا
في مجلة "آخر ساعة" (التي أسسها محمد التابعي في عام 1934) عن "خط
الصعيد" وهو واحد من قطاع الطرق آنذاك، وذلك في 13 اغسطس 1947، وتحقيقا آخر
عن وباء الكوليرا في قرية القرين بالشرقية (مركز ابوحماد) التي لم يكن أحد يجرؤ
على الاقتراب منها خوفا من تفشي الوباء فيها. وقد نال جائزة الملك فاروق عن هذا
التحقيق، ومن هنا بدأ هيكل يقترب من شخص الحاكم في مصر. وربما وجد في شخصية محمد
التابعي مثالا في ذلك الاقتراب وخاصة عندما عمل سكرتيرا له لبعض الوقت، حيث وجد أن
التابعي يقترب من رموز السلطة في مصر ابتداء من الملك فاروق ورؤساء الحكومات
والوزراء ويحصل منهم على الأخبار ويختزنها لينشرها في الوقت المناسب، وهذا ما فعله
هيكل فيما بعد. لكنه لم يكتب شيئا عن الملك فاروق ورجاله وقت الحكم الملكي سلبا أو
إيجابا.
ولكن عندما كتب كتابه "سقوط نظام" في عام 2002 بمناسبة مرور
خمسون عاما على ثورة يوليو قال: إن حسن صبري وحسين سري رؤساء وزراء مصر (يونية
1940- 2 فبراير 1942) "لم يكونا عملاء للإنجليز وإنما ساسة يعتقدون بضرورة
التفاهم مع بريطانيا لبلوغ المطالب المصرية لأن ذلك أسلم من مواجهة غير متكافئة
معها" (ص 24-25). وقوله أيضا: إن الملك فاروق كان وطنيا مصريا لا شك في ذلك
وحتى عندما غرق لاحقا في مستنقع من الفساد زاد وفاض على ما حوله، فإن وطنيته على
عكس معظم حاشيته ظلت سليمة في تعبيرها عن نفسها حتى بتلقائية العاطفة (ص 43).
على أن أول اتصال لهيكل بالسلطة بشكل مباشر كان
مع جمال عبد الناصر ورجال ثورة يوليو 1952، وكان قد تعرف على عبد الناصر لأول مرة أثناء
تغطيته لحرب 1948 (غادر الجبهة في أغسطس 1948)، والثانية في مكتب هيكل بأخبار
اليوم 1951 عندما جاء جمال برفقة زكريا محيى الدين الذي أراد أن يبلغ هيكل عما ما
تقوم به إسرائيل من منح تراخيص لعرب العزازمة للتجول عبر خطوط الهدنة وراء المرعى
وما يمثله ذلك التصرف من خطورة على الحقوق، والثالثة مساء يوم 26 يناير 1952 (يوم
حريق القاهرة) أمام محلات شيكوريل وكان لقاء عابرا على الرصيف وتساؤلات عما حدث
دون إجابة، والمرة الرابعة في 18 يوليو 1952 في بيت محمد نجيب حيث كان عبد الحكيم
عامر موجودا، وكان هيكل هناك يسعى لاقتناص أخبار من محمد نجيب عما ينتويه ردا على قيام
الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادي الضباط في اليوم السابق (17 يولية) والذي كان
نجيب رئيسا له .. وفي هذه المقابلة اختلى ناصر وعامر ونجيب في غرفة مجاورة لبعض
الوقت، ثم ما حدث من قيام هيكل باصطحاب ناصر وعامر في سيارته بعد انتهاء الزيارة
وما دار من حديث طويل بين الثلاثة عن كيفية الاحتجاج على حل مجلس إدارة نادي
الضباط (كتابه سقوط نظام، 2002 ص 512-517).
ويبدو واضحا أن صلة هيكل تجددت
مع عبد الناصر بعد القيام بالثورة وذلك على أساس من الثقة التي نجح هيكل في أن
يتمتع بها لدى ناصر. ولعل أوضح دليل على ذلك أن هيكل هو الذي قام بتحرير كتاب
"فلسفة الثورة" (1953) بإسم جمال عبد الناصر وذلك من واقع جلسات مطولة مع
ناصر.
ولما أصبح رئيسا لتحرير الأهرام
في يوليو عام 1957 اقترب أكثر وأكثر من جمال عبد الناصر حين كان يلتقي به ويتعرف
على أفكاره ويكتب عنها في سلسلة مقالاته "بصراحة" يوم الجمعة، ولعل
أشهرها أزمة المثقفين مع السلطة في 1961. ومن باب خدمة الموقف السياسي للرئيس عبد
الناصر ولسياساته قام بتشجيع من ناصر بتأسيس مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية ليتولى تفسير وشرح سياسات عبد الناصر الداخلية والخارجية على أساس
علمي من خلال صفوة من المتخصصين تم اختيارهم لإجراء البحوث في المركز.
وطوال رحلته
في عالم الصحافة من الاجيبشيان جازيت إلى الأهرام مرورا بالأخبار وآخر ساعة، اتيحت
له فرص واسعة للاتصال بالشخصيات السياسية في مصر وفي مختلف بلاد العالم، وفي كل
تلك اللقاءات عرف كثيرا من المعلومات المباحة وغير المباحة وراح يختزنها في ذاكرته
ومنها إلى مفكرته. وعندما كانت الفرصة تأتيه لكي يكتب في موضوع ما كان يرجع إلى
تلك المعلومات "الأصلية" التي أصبحت مصدرا يعتمد عليها في رؤيته للأحداث
هنا وهناك، ومن ثم أخذت شهرته في الازدياد وأصبح قراؤه يثقون فيما يكتب ثقة مطلقة،
ويتخذون من مقولاته حجة في تبني وجهة نظر معينة على أساس أن قائلها هيكل المشهور
بما يملك من معلومات.
ولقد اكتسب
هيكل مصداقية فيما يكتبه عن أحوال مصر طوال خمسينيات وستينيات القرن العشرين من
خلال قربه من جمال عبد الناصر الذي وثق فيه وكان يتصل به تليفونيا بشكل شبه يومي
تقريبا. وفي هذا قال لي استاذنا الراحل الدكتور محمد أنيس إنه كان بمكتب هيكل
بالأهرام لمناقشته في تأسيس مركز بحوث تاريخية بالأهرام، وأثناء الحديث اتصل جمال
عبد الناصر تليفونيا بهيكل فأراد أنيس الانصراف من المكتب لحين انتهاء المكالمة،
لكن هيكل أشار له بالبقاء وكأنه يريد أن يسمعه مكانته لدى عبد الناصر، وهي مكانة
لم تتح لغيره من الصحفيين أو رؤساء تحرير الصحف في ذلك الزمان، حتى الذين اقتربوا
من رأس "السلطة" زمن السادات ومبارك وما أكثرهم لم يتمكنوا أن يكونوا في
مكانة هيكل من حيث حيازة الوثائق والاحتفاظ بها.
ومن خلال هذه المكانة عينه عبد
الناصر في أبريل 1970 وزيرا للإرشاد القومي مع احتفاظه برئاسة تحرير الأهرام. وفي
منصبه هذا لم ينسى مهمته الصحفية حيث كان يحتفظ بصورة من أي ورقة تخرج من مكتب عبد
الناصر وهو ما صرح به في مكتبه القائم على نيل الدقي بجوار فنق شيراتون رمسيس، في
أحد أيام عام 2002 حين ذهبت إليه ومعي الدكتور رءوف عباس رئيس الجمعية المصرية للدراسات
التاريخية والأخ احمد الجمال زميلنا الذي رتب لنا الزيارة بحكم اتصالاته الصحافية لكي
ندعوه لإلقاء محاضرة أمام الجمعية في مبناها الجديد بمدينة نصر.
وبعد وفاة
عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) بدأ هيكل يواجه متاعب السلطة الجديدة المتمثلة في
محمد انور السادات نائب الرئيس وقبل أن يصبح رئيسا. ولأن هيكل كان محسوبا على عبد
الناصر فبدأت الإدارة الجديدة في اختبار ولائه، فاشترطت عليه عدم الجمع بين
الوزارة ورئاسة تحرير الأهرام، فقرر ترك الوزارة والاحتفاظ برئاسة الأهرام التي هي
خير وأبقى. ومع ذلك لم يكن التخلي عن الوزارة يكفي اختبارا للولاء، ولأن هيكل يريد
الاحتفاظ بمكانته لدى الرئاسة وجدناه يكتب في السادس من نوفمبر 1970 وبمناسبة
أربعين ناصر، مقالته في الأهرام "عبد الناصر ليس أسطورة"، ففتح باب
الهجوم على عبد الناصر، وكانت عربونا للإقتراب من رئاسة السلطة مرة أخرى.
ولأن
انور السادات كان يريد الانفراد باتخاذ القرار والتوجهات السياسية بعيدا عن طريق
عبد الناصر، فقرر التخلص من رجال عبد الناصر في الحكم الذين كانوا في التنظيم
السياسي (الاتحاد الاشتراكي) وفي مختلف الوزارات والإدارات واصفا إياهم بمراكز
القوى وأعلن عن ذلك في خطاب جماهيري في منتصف مايو 1971، وكان هيكل أحد الذين
وقفوا إلى جانبه وشجعوه على إتخاذ هذا القرار لأنه كان يضيق من عناصر الاتحاد
الاشتراكي الذين اعتبروه اشتراكيا في الظاهر ورأسماليا في الخفاء، حيث كان ينتقد أمريكا
في المانشيت ويعلن في نفس الصفحة عن سجاير "كنت" kent الأمريكية. وكان عدد قوة مراكز
القوى ستة أشخاص هم: علي صبري نائب رئيس الجمهورية، محمد فوزي وزير الدفاع، شعراوي
جمعة وزير الداخلية، محمود فائق وزير الإعلام، لبيب شقير رئيس مجلس الأمة، سامي
شرف سكرتير عبد الناصر.
وهكذا استعاد
هيكل مكانته لدى رئاسة الحكم آمنا مطمئنا ولقد أثبتت الأيام صحة اختياره حيث
استعان به الرئيس السادات في عدة امور، فهو الذي حرر التوجيه الاستراتيجي الصادر
من السادات في أول اكتوبر 1973 إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية
الفريق أول احمد إسماعيل من حيث بدء العمليات. وفي 16 اكتوبر (1973) كتب هيكل خطاب
السادات الذي ألقاه أمام مجلس الشعب الذي أعلن فيه خطته ما بعد المعارك ومقترحاته
لمؤتمر دولي يعقد في جنيف لحل الأزمة مع إسرائيل في إطار الأمم المتحدة وتنفيذ
قرار مجلس الأمن رقم 242 في نوفمبر 1967.
ولكن ليس كل
ما يتمنى المرء يدركه .. تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقول الشاعر، فسرعان
ما توترت علاقات هيكل بالسادات في أعقاب حرب اكتوبر حين كتب مقالته يوم الجمعة 2
فبراير 1974 بعنوان "حالة اللا نصر واللا هزيمة" وذلك في أعقاب اتفاقيات
فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل المعروفة بمباحثات الكيلو 101 حين رسم خريطة لقناة
السويس على يمين صفحة مقالته "بصراحة" وعليها أسهم تشير إلى عبور الجيش
المصري قناة السويس إلى الشرق، وأسهم تشير إلى عبور فرقة إسرائيلية إلى الضفة
الغربية للقناة فيما عرف بحادثة "الثغرة".
هذا في الوقت الذي كان الخطاب
السياسي والإعلامي يتحدث عن النصر وتحرير سيناء بالكامل. فقرر السادات خلع هيكل من
الأهرام عارضا عليه أن يتولى رئاسة المكتب الإعلامي بالرئاسة فاعتذر هيكل عن عدم
قبول المنصب، وترك الأهرام بعد سبعة عشر عاما مؤثرا كما قال أن يكون كاتبا حرا
يكتب ما يريد.
على أن الأمر
لم ينته عند هذا الحد فقد تقرر التحقيق معه بمعرفة المدعي الاشتراكي فيما نسب إليه
من نشر ما يمس سمعة مصر في كتابيه: لمصر لا لعبد الناصر، وأقنعة الناصرية السبعة
(1976)، وفي كتابيه: قصة السويس آخر المعارك في عصر العمالقة، والحل والحرب (1977)،
وفي كتابه "حديث المبادرة" (1978). وتم سحب جواز سفره ومنعه من مغادرة
البلاد وتحويله لتحقيق استغرق ثلاثة أشهر (يونية-يولية-اغسطس 1978).
ولم يتوقف
الأمر عند هذا الحد بل لقد كان هيكل ضمن مجموعة المعتقلين في سبتمبر 1981 بدعوى
التآمر ضد السادات ولم يخرج إلا بعد اغتيال السادات (6 أكتوبر 1981). وكان هذا
الاعتقال وراء قيامه بكتابة كتابه "خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر السادات"
(1988) الذي فضح فيه تاريخ السادات من بدايته إلى نهايته، ثم كتاب "اكتوبر:
السلاح والسياسة" (2004) الذي كشف فيه بالوثائق موضوع عبور اكتوبر والتصالح
مع إسرائيل في 1979. وفي 23 سبتمبر 2003 اعتزل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي.
وبعد واقعة
صدامه مع السادات آثر الابتعاد عن رئاسة الحكم فطوال حكم محمد حسني مبارك لم يكتب
شيئا محل اعتبار، ولكن بعد أن ترك مبارك الحكم قال: إن مبارك يعيش في عالم خيالي
في شرم الشيخ.
كما لم يذكر
له حديثا بشأن الرئاسة زمن حكم محمد مرسي والإخوان. وعندما تولى الرئيس عبد الفتاح
السيسي تمنى منه في حديث مع الإعلامية لميس الحديدي (يناير 2016) أن يضع خريطة
لأمل حقيقي يشع في الداخل والخارج.