ينتمي محمد محمود باشا سليمان إلى شريحة مهمة من المجتمع المصري، هي شريحة أعيان الريف، التى استطاعت زيادة ممتلكاتها حين بدأت الدولة في بيع أراضيها الزراعية القابلة للاستصلاح في عهدي محمد سعيد باشا والخديو إسماعيل، فقد نشط هؤلاء في شراء أراضي الميري خلال تلك الفترة. وكذلك أراضي الدومين التي كانت ملكًا للخديو إسماعيل وأسرته ثم تنازل عنها للحكومة في أكتوبر 1878 نتيجة للأزمة المالية التي حدثت في عهده.
كان للعمد والمشايخ من أعيان الريف دورهم السياسي، وذلك بعد أن نجحوا في تدعيم مركزهم الاقتصادي؛ وكان المجال العلني الذي عبرت فيه هذه الطبقة - بمختلف شرائحها- عن اتجاهاتها هو مجلس شورى النواب الذي أنشأه الخديو إسماعيل عام 1866 في محاولاته للاستعانة بهذه الطبقة في مواجهة الضغط السياسي من جانب كل من إنجلترا وفرنسا، بعد أن أدت الأزمة المالية إلى اشتداد الضغط الأوروبي ممثلاً في صندوق الدين والمراقبة الثنائية وتعيين وزيرين أوروبيين أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي في الوزارة المصرية.
في مجلس شورى النواب الثالث (1876 – 1879) بدأ كبار الملاك والأعيان في بلورة حركة اجتماعية سياسية تتواءم مع طموحاتهم في تثبيت وتعميق حضورهم على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، ولم يلبث هؤلاء أن تصدوا لاستبداد مصطفى باشا رياض رئيس مجلس النظار "الوزراء"
مطالبين بحق المجلس في مناقشة الميزانية، حيث كان الجانب الأكبر من هذه الميزانية متعلقًا بتسديد ديون الخديو إسماعيل، وكان العبء الأكبر في تسديد هذه الديون يقع على عاتق كبار الملاك والأعيان لذلك طالب هذا المجلس بضرورة إقرار مبدأ المسئولية الوزارية. وحينما حاول الخديو إسماعيل حل هذا المجلس تحول نوابه إلى نواة لتجمع وطني واسع، حيث عقد ستون منهم اجتماعًا في أبريل سنة 1879 في منزل إسماعيل باشا راغب انضم إليهم عدد من العلماء والهيئات الاجتماعية وفي مقدمتهم شيخ الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، واثنان وأربعون من الأعيان والتجار، واثنان وسبعون من الموظفين، وثلاثة وتسعون من الضباط، وسُمي هذا الاجتماع "الجمعية العمومية" وصدرت عنه أول وثيقة سياسية قومية في تاريخ مصر عرفت باسم "اللائحة الوطنية" والتي طالب أصحابها بتحويل مجلس شورى النواب إلى برلمان تشريعي، وفصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وتأكيد مبدأ استجواب الحكومة أمام البرلمان.
استمرت مساهمة الأعيان في العمل الوطني أثناء الثورة العرابية، فقد أيد الأعيان الضباط في مظاهرة عابدين في سبتمبر 1881، كما نجحوا في تأليف مجلس نواب جديد في العام نفسه، بأغلبية من العمد والأعيان، وعين محمد باشا سلطان رئيسًا له، فكان بذلك أول رئيس له من المصريين بعد أن كانت رئاسته قاصرة على الذوات الأتراك.
غير أنه بعد تسليم القاهرة، وهزيمة العرابيين تنصل جميع العمد والأعيان الذين وقعوا على محضر "الجمعية العمومية" والذي رفضوا فيه تنفيذ أوامر الخديو محمد توفيق، وزعموا أنهم وقعوه تحت تهديد رجال الجيش لهم بقتل من يمتنع منهم عن التوقيع، ويرجع ذلك لبعض مواقف رجال الثورة العرابية، الذين نهجوا نهجًا يقوم على تأليب الفلاحين على الأعيان.
بعد أن احتل الإنجليز مصر دخل كبار الملاك من العمد والأعيان المصريين مرحلة أخرى، فلم يتجه الإنجليز إلى إشراكهم في الحكم بصورة إيجابية إلا في وقت متأخر واكتفوا بما منحوه لهم في القانون الأساسي الصادر في مايو 1883 الذي نص على أن تكون هناك ثلاث هيئات نيابية: مجالس المديريات، مجلس شورى القوانين، الجمعية العمومية.
وقد اقتصرت عضوية هذه المجالس على الأعيان ومعظمهم من كبار الملاك؛ وذلك حتى يضمن الإنجليز ربط مصالحهم به، حيث حال شرط أداء الخمسين جنيهًا دون دخول متوسطي وصغار الملاك هذه المجالس.
وقد أدت سياسة الإنجليز القائمة على تحسين أساليب الري في مصر، وتعديل الدورة الزراعية، وحركة بيع أطيان الدائرة السنية وأملاك الدومين، إلى أن يوسع كبار الملاك ملكياتهم الزراعية.
وقد كان هدف الإنجليز من ذلك خلق طبقة مستفيدة من سياستهم الاقتصادية يرتبط ازدهارها بوجودهم، وبالتالي يصبح هذا الوجود مطلوبًا، مما أدى إلى نمو طبقة كبار الملاك المصريين، والتي اكتسبت قيمًا وطموحات جديدة نحو تسيد المجتمع وأخذ مركز الصدارة فيه، حيث بدأ الأعيان المصريون يشغلون المركز كبديل للعناصر التركية والشركسية المنقرضة. في المقابل احتضن الإنجليز أبناء كبار الملاك ووفروا لهم الوظائف الإدارية، واستبدل بالمديرين من الأتراك الشبان المصريون المتعلمون، كما كوفئ الشبان المصريين الذين أظهروا استعدادًا للتعاون مع الإنجليز بسلسلة من الوظائف بلا أية سلطة تصل أحيانًا إلى منصب وزارة بدون سلطة حقيقية.
ولم يكن حرص السلطات الإنجليزية على وضع نظارة الداخلية تحت إشرافها من خلال المستشار الإنجليزي منذ عام 1893، إلا من أجل تدعيم العلاقة بين رجال الداخلية الإنجليز وبين العمد والمشايخ من ناحية وتهيئة المناخ لتعيين أبنائهم في وظائف المديرين من ناحية أخرى.
ومحمد محمود باشا هو أحد أبناء محمود باشا سليمان بن الشيخ عبد العال بن عثمان بن نصر بن حسب النبي بن طائع بن حسن بن محمد بن جامع، الذي ينحدر من أصل عربي إلى قبيلة بني سليم المشهورة في الحجاز.
كان سليمان بك عبد العال عمدة لقرية ساحل سليم وقد وصل إلى منصب مدير مديرية قنا في عهد عباس حلمي باشا الأول ونال رتبة البكوية وأصبح سليمان بك عبد العال أحد أربعة من المصريين نالوا هذه الرتبة.
اختير سليمان بك عبد العال نائبًا عن ساحل سليم "قسم أبو تيج" في المجلس النيابي الأول عام 1866 – 1869، وامتلكت أسرته 528 فدانًا من الأطيان الخراجية بناحية الساحل عام 1879.
أما محمود باشا سليمان، فقد أحضر له والده عندما بلغ السابعة من عمره بعض الأساتذة لتعليمه العلوم العربية والفقهية فنال نصيبًا كبيرًا منها، ثم عهد به إلى عمه همام بك عبد العال العضو في مجلس الأحكام بمثابة "وزارة الحقانية" الذي أخذه معه إلى القاهرة حيث درس بعض النحو والحساب واللغة التركية، والتحق بالجامع الأزهر لبضع سنين حيث درس العلوم والأدب.
وعندما عاد إلى قريته عين عمدة لساحل سليم ثم ناظرًا لقسم "أبو تيج" و"ديروط" ومنح سلطة واسعة، ثم رقي إلى منصب وكيل مديرية جرجا في أسيوط، وذلك لأنه ساعد محمد سعيد باشا بتقديمه الميرة للجيش ضد عربان أولاد المصري الذين ثاروا على الحكومة عام 1857، ثم ترك محمود باشا سليمان وظائف الحكومة وتفرغ لإدارة أملاكه التي ورثها عن والده سليمان بك عبد العال، وكانت هذه الأملاك تقع في أسيوط وجرجا وقد استطاع أن يضيف إلى أملاكه 200 فدانا من الأراضي العشورية بناحية تاسا بمديرية أسيوط.
في انتخابات مجلس النواب عام 1881 في عهد الخديو محمد توفيق، رشح محمود باشا سليمان نفسه وانتخب فيه، واختير عضوًا في اللجنة التي تولت الرد على خطاب العرش حيث ألقى هو الخطاب أمام الخديو في 29 ديسمبر من العام نفسه.
ولما قامت الثورة العرابية تجنب محمود باشا سليمان الاشتراك فيها. وتذكر مجلة الكشكول أنه كان ضد الثائرين متضامنًا مع صديقه محمد باشا سلطان، إذ كان محمود باشا سليمان من أعيان الوجه القبلي الذين أرسل إليهم محمد باشا سلطان الرسائل بعدم تقديم أية مساعدة للعرابيين.
اعتزل محمود باشا سليمان العمل السياسي بعد الثورة العرابية، وعاد مرة أخرى إلى بلدته عام 1882 وظل هناك حتى عام 1895، حيث عزف -على حد قول الدكتور محمد حسين هيكل- عن الاشتراك في أي عمل تحت لواء النظام الجديد الذي فرضه الإنجليز على مصر حين استصدروا من الخديو محمد توفيق قانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.
غير أنه سرعان ما تحول عن رأيه وبدأ المشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى، ففي عام 1896 اختير محمود باشا سليمان عضوًا في مجلس مديرية أسيوط ، كما انتخب عضوًا في مجلس شورى القوانين ثم تجدد انتخابه عام 1899، حيث عين وكيلاً منتخبًا للمجلس في 22 مارس، وتم تثبيته في فبراير 1911 واستمر وكيلاً إلى أن حُلَّ المجلس عام 1912 .
كما أوعز محمود باشا سليمان إلى ابنه عبد الرحمن بترشيح نفسه في مركز أبو تيج لانتخابات مجالس المديريات.
ونظرًا لمرض محمود باشا سليمان لم يتقدم للاشتراك في الجمعية التشريعية، وهو النظام الجديد الذي أدخله المندوب السامي البريطاني هوراشيو هربرت كتشنر إلى مصر في 21 يوليو عام 1913 كبديل عن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، ويرجع عدم اشتراكه إلى وجود ولديه محمد بك محمود حيث انتخب عضوًا في الجمعية التشريعية، وعبد الرحمن بك محمود الذي انتخب عن دائرة أبو تيج في الجمعية التشريعية في نفس الفصل التشريعي.
ولعل حرص أسرة محمود باشا سليمان على الاشتراك في المجالس النيابية كبقية الأعيان، كان رغبة منهم في مزيد من السلطة لزيادة نفوذهم وحماية مصالحهم وأيضًا لتأصيل هيبتهم في مديرياتهم.
وعقب توقيع الاتفاق الودي بين كل من بريطانيا وفرنسا عام 1904، تغيرت السياسة البريطانية في مصر من الاعتدال والمهادنة والمراوغة بالوعود المتكررة بقرب موعد الجلاء، إلى العنف والتهديد باستمرار الاحتلال، وشعر الشعب المصري بخيبة أمل كبيرة نتيجة لتراجع فرنسا، التي كان يعتمد عليها في نضاله لتحقيق الجلاء، وكان رد الفعل الطبيعي لفشل سياسة الاعتماد على الدول الخارجية في الحصول على الاستقلال، هو ظهور اتجاه يدعو إلى القومية المصرية، واعتماد المصريين على أنفسهم في الكفاح، وساعد على ظهور هذا الاتجاه، تيار الثقافة الليبرالية الغربية، الذي هب على مصر إثر عودة أبناء الأعيان، الذين تأثرت ثقافتهم وعقيدتهم بالمذاهب الفكرية والسياسية في غرب أوروبا، ثم عادوا إلى بلادهم يحملون بذور هذه الثقافة الحديثة، وليشنوا حملة على ما يتردى فيه وطنهم من تخلف فكري وحضاري، ونجح هذا الاتجاه في تحويل تيار الحركة الوطنية من الصبر والتواكل والاعتماد على الغير، إلى الاعتماد على الشعب المصري، كما أحدثت آراؤهم ومعتقداتهم الجديدة انقلابًا فكريًّا في السياسة المصرية، تمثل في الدعوة إلى الاستقلال التام، فاشتد تيار السخط والغضب بين المصريين تجاه السياسة البريطانية.
وقد تزعم هذا الاتجاه أحمد لطفي السيد بك، الذي حاول تحقيق غايته، فتشاور مع محمد بك محمود، بشأن إصدار جريدة تعبر عن فكرهم وتدعو إلى اتجاههم الجديد، الذي عبر عنه بقوله : "جريدة لا تدور في فلك الخديو، ولا ترتبط بالوكالة البريطانية". وكان من وجهة نظر الصفوة المثقفة ومنهم الشيخ محمد عبده، أنه ما دامت هناك صحيفة كصحيفة "المؤيد"
تناصر المندوب السامي البريطاني، فلا بد من ظهور صحيفة أخرى تحاسب الاثنين معًا.
وعلى هذا فبعد أن عقدا كلاهما النية، بدأت خطوات التنفيذ، فقام عبد العزيز بك فهمي بوضع قانون شركة الجريدة، واختاروا محمود باشا سليمان (والد محمد بك محمود) رئيسًا للشركة، وحسن باشا عبدالرازق وكيلاً، وأحمد لطفي السيد بك رئيسًا لتحريرها، وعقدوا اجتماعًا في فندق الكونتننتال، وبعد الاتفاق على السياسة والمبادئ التي تقوم عليها صحيفة "الجريدة"، صدر العدد الأول منها في 9 مارس عام 1907، حيث أخذت تنشر دعوتها الفكرية والسياسية في أسلوب اتسم بالكياسة والاعتدال. وفي 20 سبتمبر عام 1907، أعلن حسن باشا عبد الرازق أن الجمعية العمومية لشركة الجريدة قررت تحويل شركة الجريدة إلى حزب سياسي باسم "حزب الأمة" برئاسة محمود باشا سليمان، وحسن باشا عبدالرازق وعلي باشا شعراوي وكيلين، وأحمد لطفي السيد بك سكرتيرًا عامًّا.
ولم يقتصر "حزب الأمة" في عضويته على أعضاء شركة الجريدة، بل ضم إليه كل مَنْ آمن برأيه من الصفوة التي يمثلها. واستمر انضمام الأعيان والكبراء إليه حتى وصل عدد أعضائه إلى 750 عضوًا، معظمهم من الأثرياء وأصحاب المناصب المالية.
وقد نالت مكانة محمود باشا سليمان السياسية قبولاً من جميع أطراف الخلاف الديني الذي تفجر في ذلك الحين نتيجة مقتل بطرس باشا غالي، فعند حدوث الخلاف بين المسلمين والأقباط كان محمود باشا سليمان من الذين تقدموا للقضاء عليه، فقد كان وكيلاً للمؤتمر المصري الذي عقد في عام 1911 من أجل إزالة هذا الخلاف.
وقد استمر محمود باشا سليمان رئيسًا للحزب حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914.
لم يختلف موقف محمود باشا سليمان من الخديو عباس حلمي الثاني ومن الاحتلال عن موقف غالبية الأعيان، من العداء للخديو وتأييد الإنجليز، وذلك على الرغم من أن محمود باشا سليمان كان من الأعيان الذين أيدوا الخديو عباس حلمي الثاني خلال الأزمة الوزارية عام 1893، كذلك ألقى محمود باشا سليمان خطبة أمام الخديو عباس حلمي الثاني عندما زاره في منزله عام 1893 عبر فيها عن ولائه وإخلاصه.
غير أن الأعيان لم يلتزموا بسياسة واحدة سواء تجاه الخديو أو الاحتلال، مثلما حدث عام 1908 بعد مجيء إلدن جورست المندوب السامي البريطاني، وانتهاجه سياسة الوفاق مع الخديو عباس حلمي الثاني وأهمل الأعيان، الذين حاولوا بدورهم تحسين علاقاتهم مع الخديو، غير أن العداء استمر غالبًا على العموم.
وفي محاولة للأعيان وخاصة أعضاء حزب الأمة لتحسين العلاقة بينهم وبين الخديو قبَّل محمود باشا سليمان يد الخديو مرتين في الجمعية العمومية عام 1909، وإن كان قد تخلف عن توديع الخديو عندما سافر إلى الحج في ديسمبر عام 1909، متعللاً بمرضه.
أما عن علاقة محمود باشا سليمان بالإنجليز فقد سلك مسلك الأعيان في تأييد الإنجليز، حتى مجيء جورست عام 1908 عندما تغير موقفهم نتيجة الوفاق بينه وبين الخديو، أما علاقته باللورد كرومر فقد ارتبط محمود باشا سليمان بعلاقات الصداقة، فحينما أصدر الأعيان صحيفة "الجريدة"
في مارس عام 1907 قيل إنها قامت بوحي من كرومر، حيث كاشف أنصاره والمترددين عليه ومنهم محمود باشا سليمان بتلك الفكرة فأطلعوه على رغبة الشيخ محمد عبده في إصدار صحيفة تعبر عن الأعيان، ولكن وفاته حالت دون إصدارها.
وبالنسبة لما يقال عن أن الإنجليز قد عرضوا عرش مصر على محمود باشا سليمان بعد وفاة السلطان حسين كامل، ورفض محمود باشا سليمان ذلك العرض لأنه جاء عن رغبة الإنجليز، فإنه ذو دلالة كبرى على مدى حجم أسرة محمود باشا سليمان، التي عُدَّت من أكبر الأسر المصرية إلى حد ترشيح عميدها سلطانًا على مصر، وأيضًا تؤكد على مصرية هذه الأسرة لأنه كانت هناك شخصيات أكبر من محمود باشا سليمان غير أنه تميز عنها بأنه من أصل مصري.
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى وأعلن قرار الهدنة، لم يكن على مسرح السياسة المصرية سوى رجال حزب الأمة وأعضاء الجمعية التشريعية، الذين كانوا إما أعضاء في حزب الأمة أو من ذوي الميول المتقاربة معه، أما الحزب الوطني فقد خفت صوته واختفى من على مسرح السياسة المصرية في هذه الحقبة المهمة من تاريخ البلاد، بعد وفاة مصطفى باشا كامل واضطرار محمد بك فريد للهرب بسبب اضطهاد السلطات الإنجليزية له.
ترتب على هذا الوضع أن بات الشعب المصري يفتقد الزعيم الوطني الذي ينظم صفوفه ويتولى قيادته، وأصبحت الحاجة ماسة وملحة لظهور القيادة الوطنية لكي تتولى قيادته، ولم يطل انتظار الشعب لها فظهرت القيادة المطلوبة؛ وكان من الطبيعي أن يأتي ظهورها من بين رجال حزب الأمة وأعضاء الجمعية التشريعية، بعد أن خلا لهم الجو وبعد أن عرفوا بالاعتدال تمشيًا مع روح العصر، وبما يتناسب مع الوضع الدولي لبريطانيا بعد الحرب.
قدر لرجال حزب الأمة أن يتولوا زمام المبادرة، كما قدر لسياستهم أن تطغى على ما عداها، بسبب اختفاء رجال الحزب الوطني، وعدم مواءمة سياستهم لروح العصر، لهذا كان السعي إلى حل القضية الوطنية مع بريطانيا وحدها فكرة حزب الأمة وحده، فاستطاع فيلسوف الحزب -أحمد لطفي السيد بك- أن يعمق الشعور لدى المصريين، بأن مصير بلادهم رهن بإرادتهم وإرادة بريطانيا وحدها، وكان لا بد أن يبرز في الميدان شخصية لم تعرف من قبل بطابع العداء الشديد لبريطانيا والسلطات البريطانية في مصر، إذ لم يكن من المنطق إملاء الشروط على بريطانيا بعد أن خرجت من الحرب منتصرة.
في عام 1914 اعتزل محمود باشا سليمان الحياة العامة، معتكفًا في بلدته ساحل سليم، حيث كان قد تجاوز الثمانين، غير أنه في عام 1918 ومع بداية النهضة الوطنية، خرج من عزلته، فأصبح منزله مقرًّا للحركة الوطنية، ومع اندلاع ثورة عام 1919 وتكوين لجنة الوفد المركزية في أبريل 1919، رأسها محمود باشا سليمان وذلك بعد سفر الوفد المصري إلى أوروبا، حيث كان بمثابة الأب الروحي لأعضاء اللجنة.
وقد استطاع محمود باشا سليمان أن يقود سفينة الوفد في مصر، فعندما وصلت برقية من الوفد في أوروبا إلى محمود باشا سليمان برغبة الأعضاء في العودة إلى مصر على أثر اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحماية البريطانية على مصر، علق قائلاً:
"كل من أفشى سر هذه البرقية عددته عدوًّا لهذا الوطن فلينفقوا ما جمعنا له من أموال الأمة فإذا نفدت فليعودوا، أما الآن فليظلوا يواصلون السعي؛ ذلك هو الجواب الوحيد الذي يجب أن نجيب به".
كما يذكر لمحمود باشا سليمان رفضه لأوامر السلطات العسكرية الإنجليزية بأن يلزم منزله، وأجاب قائلاً:
"أنا الذي يحق لي أن أقول لهم اخرجوا من بلدي وليس يحق لهم أن يحرمونني حريتي في وطني"
غير أنه أُرغم على ترك القاهرة والإقامة في ساحل سليم بعد مقابلته الشهيرة مع اللورد اللنبي، ثم ساءت حالته الصحية، واضطر إلى اعتزال السياسة العامة، ويعتبر اشتراك محمود باشا سليمان في أحداث ثورة 1919 امتدادًا لدور طبقة الأعيان في الثورة، الذين تمسكوا بالخيار السلمي في الحصول على الاستقلال.
وذلك ما ظهر بعد اجتماع كبار الملاك ومنهم محمود باشا سليمان باللورد اللنبي في 26 مارس عام 1919، حيث تمخض الاجتماع عن توجيه الأعيان نداءً في الصحف إلى الشعب المصري يطالبونه بالهدوء ووقف كل أعمال العنف. كما أيد محمود باشا سليمان وأولاده دخول مصر في المفاوضات الرسمية عام 1920.
من المشهود لمحمود باشا سليمان، أنه أدى دورًا اجتماعيًّا كبيرًا، حيث أوقف قطعة أرض من أجل إنشاء مدرسة صناعية بأسيوط، حيث تنازل عن هذه المدرسة وما وقف عليها لمجلس مديرية أسيوط ليتولى إدارة شئونها بعقد تاريخه 26 يناير عام 1913، يخوله الحق في استردادها من المجلس إذا لم يقم بتنفيذ شرط الوقف.
وقد قيل إنه وجد في أوراق محمود باشا سليمان بعد وفاته عام 1929، وصية إلى ابنه حفني بك محمود بتلك الأرض التي وصى بها للمجلس، مما أدى إلى خلاف بين حفني بك ومجلس المديرية حيث حاول حفني بك استرداد الأرض، فذهب أعيان المجلس إلى محمد محمود باشا، رئيس الوزراء وقتذاك، للشكوى من تصرفات شقيقه، لكن محمد محمود باشا أخذ جانب شقيقه.
وتبدو تلك المسألة بعيدة عن التصديق وذلك لأن محمود باشا سليمان قد أخرج ثروته كلها لأبنائه في 1916 أي قبل وفاته بـ 13 عامًا، وأيضًا لطول الفترة التي وهبها محمود باشا سليمان للمديرية وهي 16 عامًا، كما أن أسرة بحجم أسرة محمود باشا سليمان ونفوذها في مديرية أسيوط كان بإمكانها استرداد الأرض دون أية مشكلة.
وقد توفي محمود باشا سليمان في 22 من يناير عام 1929، بعد أن بلغ من العمر عتيًّا، تاركًا أربعة من الأبناء وهم: حفني محمود باشا، ومحمد محمود باشا، وعلي بك محمود، وابنة واحدة.