الأربعاء 26 يونيو 2024

التابعي والعقاد.. اختلفت الأسباب والسجن واحد

فن15-10-2020 | 14:44

حرية الكلمة في حياة المبدع هي زاد ومتنفس يعطي لحياته قيمة ومعني، وبحكم عوامل كثيرة في مجتمعاتنا، فإنها تاريخيا لم تكن سهلة المنال، وكان ثمنها مدفوعا، إما بالتشريد كما في حالات مثل عبد الله نديم وبيرم التونسي، أوبالسجن كما في حالات كثيرة لم يحد منها طبيعة نظم الحكم التي مرت علي مصر، ملكية كانت أو جمهورية، وحزبية كانت أم غير حزبية، ومن بين عشرات التجارب في هذا المجال أتوقف أمام تجربتين لإسمين بارزين في تاريخنا الإبداعي، وهما الكاتب الصحفي محمد التابعي الملقب بـ"أمير الصحافة"، والمفكر الكبير عباس محمود العقاد، وتجربتهما كانت في ثلاثينيات القرن الماضي، ورغم اختلاف الأسباب التي أدت بكل منهما إلى دخول السجن، ورغم اختلاف طريقة تعاملهما مع قسوته، إلا أن تجربتهما فيها الكثير من الدروس والعبر، فالتابعي رجل له سماته الخاصة الناعمة والارستقراطية النزعة والمحب للحياة بملذاتها، ولهذا علينا أن نتخيل كيف قضي فترة السجن، أما العقاد المعتد بنفسه، فهو يصمم على المضي قدما في معاركه مهما كانت عواقبها، ولما قادته واحدة منها إلى السجن أثرت فيه كثيرا، فماهي قصة سجنهما ؟

التابعي:

قررت الإدارة تعطيل وابور طحن الغلال ومضرب الأرز المملوك للشيخ طلبة صقر، من أعيان قرية «الحصاينة»، مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، فأدى ذلك إلى سجن محمد التابعى يوم 22 مايو عام 1933، حسبما يؤكد صبرى أبوالمجد فى كتابه «سنوات ما قبل الثورة-المجلد الأول»، مضيفا:«وقع حادث الحصاينة يوم 11 فبراير 1933، وخلاصته أن الإدارة عطلت وابور طحن الغلال ومضرب الأرز الذى يملكه الشيخ طلبة صقر من أعيان هذه الجهة، وقام لذلك نزاع بينه وبين الإدارة، رفع أمره إلى القضاء، إذ أقيمت عليه دعوى مخالفة أمام محكمة السنبلاوين، فجاءت فى هذا اليوم قوة من البوليس والإدارة للتفتيش على الوابور، فاعترضها نفر من قبل صاحب الوابور، مطالبين ببقاء الحال على ما هو عليه حتى يفصل القضاء فى دعوى المخالفة".

يؤكد «أبوالمجد» أنه حدث تصادم بين الفريقين، أمر فيه مأمور المركز بإطلاق النار على الأهلين فقتل منهم ثلاثة، أحدهم شقيق الشيخ طلبة صقر وفتاة، وقتل باشجاويش المركز وواحد من الجنود، وجرح كثير من الأهلين، واستولى الذعر على السكان، وأرسلت الإدارة تجريدة من أربعمائة جندى لحصار البلد، وقبضت على كثير من أهلها، وظلوا فى السجن إلى أن أفرجت عنهم النيابة، أما قضية المخالفة التى نسبتها الإدارة إلى الشيخ صقر فقضت المحكمة فيها بالبراءة، وأثبتت فى حكمها أن الإدارة تجاوزت سلطتها بالأمر الذى أصدرته بإلغاء رخصة الماكينة وإقفال الوابور، وأن هذا الأمر الإدارى باطل.

لم تكن القضية مجرد نزاع بين مواطن وإدارة حكومية، وإنما يضعها «أبوالمجد» فى سياق سياسى عام يقوم على اضطهاد وتعذيب إسماعيل صدقى باشا، رئيس الحكومة، لكل معارضيه، ويؤكد: «رجال البوليس والإدارة بعد أن اطمأنوا إلى غبطة صدقى باشا بما يقومون به من تعذيب، وحمايته الدائمة لهم، بل ودفاعه الحار عنهم رغم بطشهم وعدوانهم واستهانتهم بكل القوانين، أطلقوا لأنفسهم العنان فى كل حملات البطش والعسف والإرهاب مؤيدين من سراى الملك فؤاد والحكومة".

كان الشيخ طلبة صقر من الوفديين المعروفين«معارضى صدقى باشا»، وفقًا للسيدة فاطمة اليوسف، رئيس تحرير«روز اليوسف» فى مذكراتها، مضيفة:«ترتب على هذا الحادث أزمة فى وزارة العدل، إذ قامت النيابة بتحقيق الموضوع، وكتب النائب العام مصطفى محمد تقريرًا يطلب فيه الإفراج عن الأهالى، ورفع الدعوى على مأمور المركز بتهمة التزوير فى أوراق رسمية، وكتب التابعى فى روز اليوسف تعليقا ساخرا قال فيه:إن وزير الحقانية أحمد باشا على قرأ تقرير النائب العام ثم هز رأسه وقال:"نفرج عن الأهالى معلهش، أما أن نحاكم المأمور بتهمة التزوير فلا، وهز الوزير رأسه هزة اهتز معها قانون العقوبات، وأسبل القانون رمشه، وصرف النظر عن الموضوع".

حققت النيابة مع فاطمة اليوسف،بوصفها رئيس التحرير المسؤولة،بتهمة السب والقذف،ولأن المقال يحمل توقيع التابعى تم تقديمه إلى المحاكمة،وتشير إلى ما جرى فيها:«كان ممثل الحكومة فى القضية الأستاذ محمود منصور، وكان من المعجبين بالمجلة فاستهل مرافعته ثائرا،وردد المدح والثناء عليها،مشيدًا بأسلوب التابعى ثم انثنى مهاجمًا فى عنف شديد، منددًا بطريقة النقد الجارح التى تسلكها المجلة،أما رئيس المحكمة محمد نور فكان بلديات التابعى من المنصورة،ولكنه كان رجلًا محافظًا لا يحب أسلوب التابعى ويعتبره خارجًا عن الحدود الواجبة،لذلك كان همه أن يحصر التهمة فى التابعى،وكان يوجه إلى الأسئلة المتتالية بقصد إخراجى من المسؤولية، ولكننى تمسكت بموقفى،فصدر الحكم على التابعى بالحبس أربعة أشهر،وعلى بغرامة خمسين جنيها،ولم يصدر الحكم فى نفس الجلسة".

عاد «التابعى» من الإسكندرية ليسلم نفسه ووفقا لكتاب "محمد التابعي" لصبري أبو المجد:" قضي قبل صدور الحكم يومين كاملين بالاسكندرية ليعيش قصة حب رومانسية مع فتاة اسمها "هرما"يكتب قصتها فيما بعد، وينتهي اليومان بأن يستقل القطار ليذهب لتسليم نفسه للشرطة حيث يقودونه إلى زنزانته، وتودعه السيدة روز اليوسف على باب الزنزانة..كان يرتدي بدلة زيتية اللون مفصلة على أحدث طراز، ووضعت في عروتها فلة جميلة وتدلي من جيبها منديل حريري من النوع الرشيق،ووضع علي عينيه نظارة قاتمة ليتقي أشعة الشمس،وكان يحمل في جيبه عشرين جنيها وسبعين قرشا..وفي يده كتابان من تأليف"إميل لود فيج"وكتاب"الضاحك الباكي"مهدي إليه من مؤلفه فكري أباظة .

وحسب مقال له فى«آخر ساعة 19 يونيو 1968»، فإنه دخل سجن «قرة ميدان» فى 22 مايو عام 1933، والتقى بالكاتب الصحفى محمد توفيق دياب الذى كان ينفذ السجن تسعة أشهر بسبب مقال وصف فيه أحد النواب بأنه «أكحل العينين»، وهو وصف «ذو معنى خبيث».

تذكر"اليوسف"في مذكراتها جانبا من كان يسببه التابعي من متاعب لأصدقائه قائلة:«رجل مرفه المزاج له أسلوبه الذى لا يتخلى عنه فى الطعام والشراب والراحة، فليس غريبًا أن يزعجه السجن ويضايقه ضيقًا شديدًا، وكنا نشعر بضيقه الشديد وراء القضبان من الرسائل، والطلبات التى كان يبعث بها كل يوم، كانت له فى كل يوم طلبات، حتى عينت موظفًا خاصًا له لكى يحمل إلى خطاباته، ويعود إليه بما يطلب، وكان يطلب يوميا–تقريبا-كميات كثيرة من الحلاوة الطحنية".

كان ذلك مجالا لرده عليها في رسالة كتبها إليها من السجن:"عزيزتي،إن أعظم شئ فيك هو بلا شك الأثرة أو حب النفس الفخم..فأنت وحدك الضحية وأنت وحدك التعبانة ومن عداك في راحة ونعيم..تقولين في خطابك إنك تعبانة وأن الحكم جاء راحة لي وأنك تودين لو كنت في مكاني..مرحبا وها أنذا أتنازل لك راضيا طائعا مسرورا عن الراحة في السجن ونعم السجن..لعلكم خدعتم بما تسمعونه عني وهو أنني دائما ابتسم ودائما لطيف مع الجميع..وربما أيضا خدعتم بما تلمسونه في رسائلي في نعمة وراحة وعدم الاكتراث..إذن فاعلموا أنني حقيقة ابتسم لكل من يحادثني وأتظاهر بعدم الاكتراث..وأنني حرصت في كافة رسائلي إليكم علي أن لا أشكو..هذا لأنني لا أريد أن أبدوا أمام أحد سواء في السجن أو أمامكم في مظهر الضعيف".   

العقاد:

كانت تجربة المفكر عباس محمود العقاد،مثيرة في وقائعها وأسبابها،ووقعت وقت أن كان نائبا في مجلس النواب عن حزب الوفد،ووفقا للدكتور راسم محمد الجمال في  كتابه "عباس العقاد في تاريخ الصحافة المصرية "فإن الأنباء تواترت عن اعتزام الحكومة سجنه حتي «جاءه النبأ اليقين من صديقه «سينوت حنا»الذى أبلغه أن مقالاته تراجع فى بعض الدوائر مراجعة خاصة انتظارا ليوم ربما كتب فيه ما يساعد على تأييد التهمة التى يقدمونه على أساسها إلى المحاكمة".

كانت التهمة التى تحاك ضده هى «العيب فى الذات الملكية»، وبدأت قصتها يوم 17 يونيو 1930 بإعلان مصطفى النحاس باشا استقالة حكومته الوفدية أمام البرلمان، ووفقا للجمال: «وقف العقاد فى وسط الجو الحماسى الذى ساد مجلس النواب عقب إعلان «النحاس» استقالة وزارته بطريقة مؤثرة، ليصيح:«لقد كان فى مصر وزارة طاغية، وزارة محمد محمود» وطلبت إلى صاحب الأمر إيقاف الحياة النيابية، وتعطيل الدستور وحماية حكمها، فأجيب إلى طلبها، واليوم فى البلاد حكومة دستورية تطلب صيانة الدستور، فتوضع فى طريقها العراقيل، والعقبات، والحشرات التى لا تعيش إلا من دماء الأمة، فماذا تنتظر بعد هذا؟ هل هناك شك فى أنه من الواجب أن يصان الدستور؟ ألا ليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته".

يؤكد «الجمال»أن هذا التهديد من العقاد للملك «فؤاد»قوبل بتصفيق حاد متواصل من النواب، مما جعل أحمد ماهر رئيس المجلس يدرك خطورة الأمر، فاعترض مضطربا:ما هذا يا أستاذ عباس؟ أنا لا أسمح بمثل هذا الكلام،لكن العقاد أصر على موقفه وسط تصفيق النواب الوفديين، ويضيف الجمال:«فى اليوم التالى،بدأ العقاد حملة عنيفة على الملك وحاشيته، كما بدأ حملة عنيفة ضد حكومة إسماعيل صدقى باشا التى خلفت حكومة النحاس المستقيلة»، وذلك فى مقالات كتبها فى صحيفتى«كوكب الشرق»، و«المؤيد الجديد»، ويرى«الجمال»أن هذه المقالات لم تتضمن فقط عيبا فى الملك، وإنما تضمنت فوق ذلك تحريضا على الثورة وقلب نظام الحكم والتخلص من أسرة محمد على كلها، وبلغ فيها قمة ثوريته فى دفاعه عن الدستور وعن استقلال البلاد".

واصل «العقاد» كتاباته حول هذه الأزمة حتى 29 سبتمبر 1930، ووفقا للجمال:«لم تستدعه النيابة للتحقيق معه إلا فى الرابع عشر من أكتوبر، أى قبل أسبوع من حل البرلمان فى 22 أكتوبر وسقوط الحصانة البرلمانية عنه، وفى ذلك دليل على أن السلطات أرادت أن تعطيه الفرصة كاملة ليمضى قدما فى طعنه فى الملك، وكتابة ما قد تجد فيه ما يؤكد اتهامه بالعيب فى الذات الملكية، وفى الوقت ذاته بات يتوقع إلقاء القبض عليه، ولو على سبيل الحجز الذى ينتهى بإفراج سريع، وتوالت عليه الأنباء تؤكد هذا التوقع من جهات عدة ثم جاءه النبأ اليقين من صديقه «سينوت حنا".

يذكر العقاد فى كتابه «أنا» أنه كان فى نيته السفر إلى لندن فى صيف عام 1930 مع وفد من مجلس النواب لتمثيل مصر فى مؤتمر المجالس النيابية، واستخرج جواز السفر لهذا الغرض، واشترى«دليل لندن» و«دليل العواصم الأوربية» التى كان ينوى زيارتها، ولم يتبق إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بزملائه الذين سبقوه، غير أنه تراجع والسبب كما يذكره هو:«إذا سافرت قد أمهد بيدى وسيلة لنفيى فى أوربا سنوات بلا عمل،ولا قدرة على البقاء فى ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتى أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهى بالبراءة،أو بعقوبة لا ترضيها، فعدلت عن السفر فى اللحظة الأخيرة، وقلت إن السجن أحب من النفى الذى لا عمل فيه، ولا ضمان للصحة ولا للحياة"

استدعته النيابة للتحقيق يوم 14 أكتوبر، «الجمال» أن عددا من كبار الوفديين القانونيين حضروا معه ،أمثال محمد نجيب الغرابلى، ومحمد صبرى أبو علم، ومحمود سليمان غنام، وبعد انتهاء التحقيق أمرت النيابة باعتقاله بعد أن وجهت إليه اتهام«العيب فى الذات الملكية»،استنادا إلى نص المادتين:156 و156مكرر من قانون العقوبات".

يؤكد «الجمال» أن الحكومة تعنتت معه، فاعتقل فى«سجن مصر»لحين محاكمته،بالرغم من اتفاق نقابة الصحفيين قبل حلها،مع وزارتى الحقانية والداخلية،على عدم اعتقال الصحفى قبل محاكمته ، لأن مبدأ اعتقال المتهم قبل محاكمته المقصود به منعه من تغيير معالم جريمته،وليس من المعقول بداهة أن يستطيع الصحفى تغيير معالم جريمته،لأنها كلام مسطور ومنشور،كذلك كان هناك اتفاق آخر بين النقابة والوزارتين على أن يكون الاعتقال فى سجن تتوافر فيها الراحة والمطالعة،وهو أمر غير متوفر فى السجن،وطالبت«الأهرام»الحكومة بمعاملة العقاد طبقا لهذين الاتفاقين".

اقتيد «العقاد»إلى السجن وركب مع الضابط فى سيارة خاصة،وواصلت النيابة التحقيق فى نفس القضية يومى 15 و 16 أكتوبر مع محمد فهمى الخضرى صاحب جريدة المؤيد الجديد«لنشره مقالات العقاد التى تهاجم الملك»،حسب راسم الجمال،مؤكدا:«انتهت النيابة من التحقيق فى القضية فى السادس عشر من أكتوبر،وأحالتها فى اليوم نفسه إلى محكمة مصر الأهلية لقيدها وإعلان قرار الاتهام»،وفيما كانت النيابة تواصل التحقيقات،كان«العقاد»يمضى يومه الأول فى السجن،ويسجل شهادته عنه بعين الأديب،التى لا تتوقف أمام التفاصيل المرئية وإنما تبحث عما ورائها.

 يقول:«ﺬﻫﺒﺖ ﻣﻊ الضابط والجند فى ﺳﻴﺎرة ﺧﺎﺻﺔ إلى السجن«ﻗﺮه ﻣﻴﺪان»،وﺗﺨﻄﻴﺖ اﻟﺒﺎب ﻓﺈذا ﻫﺪوء ﻏير ﻣﺄﻟﻮف ﻷن اﻟﻮﻗﺖ ﻛﺎن وﻗﺖ اﻟﺮاﺣﺔ ﻋﻘﺐ اﻟﻐﺪاء،وﺗﻮﺟﻪ بى اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻧﺤﻮ ﺣﺠﺮة اﻟﻜﺘﺎب ﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻣﺎﻋﻨﺪى ﻣﻦ اﻟﻮداﺋﻊ وﻛﺘﺎﺑﺔ اﻷوراق التى ﻻﺑﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻜﻞ ﻣﺴﺠﻮن ﺟﺪﻳﺪ،وﻣﺎ هي إﻻ ﻟﺤﻈﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻮاﻓﺪ الموﻇﻔون وﻛﺜﺮ دﺧﻮل اﻟﺴﺠﺎﻧين ﻳﻨﻈﺮون إلى القادم اﻟﺬى سرى ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻧﺒﺄ ﻗﺪوﻣﻪ،وأﺧﺬ ﻛﺎﺗﺐ ﻫﻨﺎك ﻣﺮح ﺛﺮﺛﺎر ﻳﺪاﻋﺒﻬﻢ ﻛﻠﻤﺎ ﻣﺮوا ﺑﻪ،وﺗﺼﻨﻌﻮا ﺳﺆاﻟﻪ ﻋﻤﺎ ﻳﻀﻤﺮه ﻟﻬﻢ ﺑﺮﻳﺪ اﻟﻴﻮم،ﻓﻴﻘﻮل ﻷﺣﺪﻫﻢ:«اطمئن لقد عينوك مديرا لمصلحة السجون»..ثم يحدج ببصره كمن يستغر بدهشته،ويقول:«ألا تصدق؟آه يا ابن الحلال معذور،فإنك فى السجن ولست فى البيمارستان»..أو يقول لغيره:«تعال هنا..قرب أذنيك،قرب أيضا.ثم يناديه بصوت يسمعه كل من فى المكان:«افرح..نقلوك إلى أسوان،لا تقل لأحد ياولد»،فاستعدت فى ذهنى موقف هاملت وحفارى القبور..إذا يغنون وهم فى ذمار الموت".

يضيف العقاد:«عبرنا مكتب الموظفين ومكتب المأمور مع ضابط العنبر..دخلنا العنبر فكان أول ما صادفنا فيه منظر عجيب لا تألفه العين:إناس بملابسهم العادية جالسون القرفصاء فى صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة،ومن ورائهم نفر مكبون على الأيدى كما تمشى الدواب يزحفون زحفا،ويتغنى أحدهم بصوت خفيض،والباقون يجيبونه بصدى-لا بكلام-يقولون فيه:«هيه هيه».. أما المغنى فالذى أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة:«رايحة له فين..ده عليه سنتين".

"كان لابد لى من «فرجيل»يصاحبنى كما صاحب الشاعر الإيطالى«دانتى فى طبقات الجحيم ، ليدله على أنواع العذاب،ودرجات المعذبين..فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ومن هؤلاء المكبون على أربع؟أهذا ضرب من العقاب فى مكان العقوبات؟.وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش،ولابس الطاقية..ولا يلبسون كأهل السجن ؟.. بحثت على الدليل الذى ينوب فى جحيمنا عن فرجيل،فقد كان على يسار الحجرة التى خصصت لى حجرة للصحفى الظريف على أفندى شاهين،رحمه الله،وكان محبوسا رهن المحاكمة فى قضية مقالات ورسوم،قذف بها بعض الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقى باشا «رئيس الوزراء»،وكان واقفا على باب حجرته ينتظرنى بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومى ، فلقينى مرحبا،وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق«دائرتى الانتخابية»..كانوا فى مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء،فنهضوا يحيوننى ويهمون بالصياح،لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين".

يضيف:"بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التى ينضح بها الأسفلت فى أرض العنبر وسقوفه،ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتى من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها،فألقيت نظرة على الغطاء الذى سيغنينى عن غطائى،فلم أطمئن إليه كثيرا،ولكنى قلت:لا بأس بالتجربة فى هذه الليلة،وبقيت متوجسا من هذه النافذة المفتوحة على رأسى يندفع منها الهواء طول ليل الخريف..فما العمل فيها؟..قال دليلى أو«فرجيلى»على أفندى شاهين:«لا عليك من هذه النافذة ، فسترى كيف نعالج خطبها،والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع فى حجرته هو،ففعل صاحب النوبة توا ليرينى كيف يحكم هذه الصناعة،وضحك شاهين أفندى ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لى:«احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف،فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا،ولا أمل فى سدها بحال من الأحوال،فضلا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء".

يواصل:"هبط ظلام الليل،وعاد المسجونون إلى الحجرات،و«أظلمت الحجرة عندى ظلامين،لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرة من فناء السجن المنار بنوره الضئيل،فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام فى ذلك الظلام،ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت،أو كادت نحو الساعة التاسعة كما أنبأتنى الساعة التى تدق فى مسجد القلعة".

بدأت محاكمة العقاد يوم  8 ديسمبر 1930 في محكمة جنايات مصر،ويؤكد راسم الجمال:«اكتظت قاعة المحكمة بالجمهور بالإضافة إلى الزحام خارجها،وطلب مكرم عبيد الذى تولى الدفاع عن العقاد يعاونه محمود سليمان غنام التأجيل للاطلاع،وفى يوم 31 ديسمبر احتشد الجمهور داخل قاعة المحكمة وخارجها،وقضت بحبس المتهم محمود فهمى الخضرى ستة أشهر حبسا بسيطا،وحبس المتهم عباس محمود العقاد تسعة أشهر حبسا بسيطا،وفور النطق بالحكم خيم الصمت التام،وانصرف الجميع فى سكون وهدوء".

يذكر مصطفى النحاس فى مذكراته،تحقيق وتعليق«أحمد عز الدين»:«قام على ماهر وزير الحقانية(العدل)فى وزارة صدقى باشا بزيارته فى سجنه،لكنه رفض أن يرد تحيته بل استقبله وهو مستلق على سريره ومد رجليه فى وجهه،حيث اعتقد أنه جاء متشفيا.

في يوم 8 يوليو 1931،خرج من السجن بعد انتهاء فترة عقوبته،وتوجه مباشرة إلي ضريح سعد زغلول تنفيذا لوعد قطعه على نفسه وهو يخطو خطوته الأولى فى أرض سجن مصر العمومى،حسب تأكيده فى مذكراته«أنا"،قائلا:«خطر لى وأنا أخطو الخطوة الأولى فى أرض السجن،قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:«دخولى باليقين بلا امتراء..وكل الشك فى أمر الخروج»..فهاهو ذا يقين لاشك فيه،وأما الشك كل الشك فهو أمر الخروج متى يكون،وإلى أين يكون؟إلى رجعة قريبة من السجن وإليه؟أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟أم إلى عالم الأموات؟.فى تلك اللحظة عاهدت نفسى لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتى الأولى إلى عالم الأموات،أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك..أى إلى ضريح سعد زغلول"،ولما وصل إلي الضريح،وقف وسط الجمهور المحتشد وألقى قصيدة جدد فيها العهد على الثبات على مبدئه وموقفه قال فيها:وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة..فما كل ليل حين يغشاك مرقد..وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنا..من الرأى يتلو فرقدا منه فرقد..عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما..سيعهدنى كل كما كان يعهد".

يستخلص«الجمال»من القصيدة أن العقاد «عقد العزم على الثبات على موقفه الذى كان عليه قبل سجنه،وأنه وطن نفسه على الاستمرار فى عدائه للملك وفى تأييده للوفد،بيد أن ذلك لم يحدث، وإنما حدث العكس،فقد شهدت الفترة التى أعقبت خروجه من سجنه تحولا خطيرا فى موقفه،فقد لاذ إزاء الملك فؤاد بالصمت التام،ولم يعد يذكره مطلقا فى كتاباته الصحفية،وظل على موقفه هذا حتى وفاة الملك يوم 28 أبريل 1936،ولا يستثنى من ذلك إلا مقال أو مقالان ذكر فيها الملك عرضا،أما موقفه من حزب الوفد بعد خروجه من السجن فحدث فيه تحول كبير بسبب خلاف بينهما،جعله يفكر فى تركه والاستقلال عن جميع الأحزاب".