بقلم محمد إبراهيم طه
كثيرون يَعُدُّون فيروس كورونا الأكثر فتكًا وتدميرًا للبشرية، لا لرعونته فحسب، بل لشراسته في الاجتياح المباغت وغير المفهوم، وسرعته في الانتشار. وعلينا أن نعترف بخسارتنا - مؤقتًا - لهذه الجولة، وأن نتقبل خسائر باهظة إلى أن يتم ترويضه، بعد معرفة ماهيَّته وفهم سلوكه وتحديد مواصفاته، واكتشاف تطعيم خاص به، أو عقار مضاد له، كما حدث مع فيروسات السُّعار والحَصبة وشلل الأطفال والنُّكاف والجديري المائي، وكما حدث مع فيروسات الالتهاب الكبدي الوبائي، ليختفي كورونا تمامًا مثلما انتهى الجدري وصار في ذمة التاريخ.
والاعتراف بالهزيمة مؤقتًا ليس عيبًا، فتاريخ البشرية حافل بجولات طويلة ورهيبة ودامية بين الفيروسات من جهة، وبين العلم والعلماء والمعامل من جهة أخرى. وهي جولات تستغرق وقتًا يطول أو يقصر، وبرغم العواقب التدميرية الفظيعة، فإن النصر غالبًا ما يكون حليف البشرية.
الاعتراف بشراسة الخصم واجب مهما كان حقيرًا، فقد استطاع جُسَيْم صغير أن يهاجم العالم أجمع، بلا تمييز بين كبير وصغير، ولا ذكر وأنثى، ولا خفير ووزير. وقد نجح في أن يدفع مليارات البشر إلى الانسحاب والاختباء بالبيوت وترك الشوارع أمامه فارغة يمرح فيها. لا فيروسَ سابقَ - في ظني - أثَّر في الاقتصاد بهذه الدرجة. ولو أن كاتبًا روائيًّا واسع الخيال سَرَدَ ما اتخذته البشرية من إجراءات لمواجهة هذا المخلوق غير المرئيّ لما صدَّقه القارئ. لقد وصلت إجراءات البشر إلى حظر التجول، واستدعاء الجيوش، وتوقف حركة الطيران، بسبب خصم دقيق طُفيليّ لا يستطيع القيام بأداء مهمته وحده، وإنما يستعين في أدائها بمساعدة خصمه. فما بالنا وقد توقفت حركة الطيران في أغلب دول العالم، وماتت السياحة، وفرغت الشواطئ، ليس في دولة واحدة بل في مئات الدول؟!.
نحن أمام رواية كابوسية، علينا أن نعترف، فلا شيء سيطر على الكرة الأرضية كما سيطر فيروس تافه وشرس مثل كورونا، لا حدثَ رياضيَّ ولا سياسيَّ ولا اقتصاديَّ استحوذ على اهتمام العالم أجمع كما حدث مع فيروس كورونا، حتى القنبلة النووية حين ضربت اليابان، لم يجلس مليارات البشر هكذا لتتبع أخبارها.
على البشرية أن تتواضع أمام جُسَيْم لا هو حي ولا هو ميت، استطاع أن يفعل بالبشرية الأفاعيل، جُسَيْم يقف في منطقة وسطى بين الحياة واللا حياة، لا يتكاثر وحده كالبكتريا التي يمكنها أن تفعل ذلك من تلقاء نفسها، جُسَيْم لا خلوي يقف بَيْنَ بَيْنَ، مُتَطَفِّلٌ، لا يمكنه التكاثر ليكون كائنًا حيًّا إلا بمساعدة خلايا المضيف - نباتًا كان أو حيوانًا أو إنسانًا - فيصبح أكثر تدميرًا للخلايا التي يحتلها، فهو يستغلها للتكاثر والتَّحَوُّر وإنتاج سُلالات أخرى تُتلف أو تدمر في النهاية الخلية الأصلية، ومن ثَمَّ تحدث الأعراض والآثار الطبية جَرَّاءَ تدمير الخلايا أو موتها الكامل، (تدمير خلايا الكبد في فيروس سي الذي يتكاثر في خلايا الكبد، فيؤدي إلى أعراض الفشل الكبدي، أو تَحَجُّر خلايا الرئة في حالة فيروس كورونا وفشل عملية التنفس) ومن ثَمَّ يصبح الإنسان المحتل ناقلًا للمرض، بصفته مخزنًا للفيروس، وكلما ازداد عدد الناقلين تحول الأمر إلى وباء ينتشر بسرعة، فيجتاح العالم كما في حالة فيروس كورونا (القاتل السريع) لانتقاله عن طريق التنفس، أو يتحول إلى مرض مُتَوَطِّن كما في حالة الالتهاب الكبدي الفيروسي (القاتل البطيء) الذي ينتقل عن طريق الدم، وهو انتشار أبطأ مقارنةً بكورونا.
نحن أمام رواية كابوسية، ومن المتوقع أن تكون الخسائر البشرية من فيروس كورونا كبيرة إلى أن يُكتشف اللقاح الخاص به، والذي قد يستغرق وقتًا. فقد سبق أن هاجم وباء الأنفلونزا العالم بين عامي 1918 و1919 من القرن الماضي، فيما عُرِفَ بالأنفلونزا الإسبانية، فأفنى 100 مليون إنسان أي ما يقرب من 5 بالمائة من البشر آنذاك. كما سبق أن حصد فيروس نقص المناعة المكتسبة أرواح 25مليون شخص منذ اكتشافه في عام 1981 وحتى 2007، وحصد الالتهاب الكبدي الوبائي الفيروسي "ج" أرواح الملايين من المصريين إلى أن تم التغلب عليه مؤخرًا، ولكن بعد أن أصاب بالعطب أكباد الملايين من الشعب المصري، وحصد الملايين منهم، وكبَّدهم خسائر مادية وصحية واقتصادية هائلة.
الرواية كابوسية، وحلقات الصراع بين البشرية والأوبئة عديدة، لم يُكتب النصر فيها للبشرية إلَّا في القرن الماضي بفضل العلم والتفكير العلمي، وجهود العلماء الذين عكفوا على دراسة الكائنات الدقيقة، وظهور علم الميكروبيولوجي، واكتشاف الميكروسكوب الإلكتروني بدلًا من الميكروسكوب الضوئي، والتقدم الموازي في علوم الكيمياء والصيدلة والصناعات الدوائية، والتطور السريع في الأنظمة والخدمات والبرامج الطبية وعوائدها الملحوظة على صحة الإنسان ورفاهيته. واستطاع هذا التقدم - المؤسَّس على منهج علمي شامل – أن يُحيل فكرة الأوبئة بشكلها القديم والدامي إلى ذمة التاريخ.
ورواية الأوبئة هي قصة كفاح طويلة مثمرة ومضيئة في جبين البشرية التي لم تكتشف الفيروسات إلَّا في القرن الماضي، وكانت من قبل غامضة، تُحْدِث أثرها الفتاك، وتحصد الأرواح مخلفةً ضحاياها، كأنها شيطان، أو قوة خفية، غير مرئية. الرواية مثيرة، وتاريخ الأمراض المعدية وحده جدير بالسرد، فقد غزت الكوليرا مصر عشر مرات، وفي كل مرة تحصد آلاف الضحايا، وفي كل مرة يكون المرض آتيًا من الخارج، مع عودة الحجاج من مكة والتستر عليهم، فيؤدي إلى انتشار المرض كوباء. لم تكن الكوليرا قد تم فهمها بعد، ولم يكن ثمة علاج، وكل ما بوسع السلطات هو الإجراءات الوقائية، لذلك ضربت الكوليرا مصر ثماني مرات في الفترة بين 1831 و1902، بفاصل 5 إلى 10سنوات بين الجائحة والأخرى، ثم تباعدت الفترة الزمنية إلى 45 سنة فلم تحدث سوى في 1947، تلك التي تم فيها اكتشاف العلاج، ثم مرت 73 سنة بعد الجائحة الأخيرة ولم تأت مرة أخرى إلى مصر. ربما كانت الأمراض المعدية – الكوليرا على وجه التحديد - هي السبب في إنشاء مكاتب الصحة والمجلس الطبي الذي أصبحت له سلطات صحية تعادل وزارة الصحة الحالية.
الرواية كابوسية ومثيرة وحافلة وغريبة، وعلى من يَنْشُد معلومات عن الأوبئة والأمراض البحث في كتب التاريخ، لا الروايات، فلم يحدث أن كُتِبَتْ رواية هدفها الأساس الحديث عن الوباء، أو وصف ملابساته، أو تقديم تقرير عنه، لا أدري لماذا؟ هل لأن تلك مهمة التاريخ؟ لم تتحدَّث عن الأوبئة إلَّا روايتان: رواية "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو، و"اليوم السادس" للفرنسية من أصول مصرية أندريه شديد. هاتان – فقط - هما الروايتان اللتان كُتِبَتَا بشكل كامل عن الطاعون والكوليرا. رواية "اليوم السادس" كُتبت سنة 1960ودار موضوعها بالكامل عن الجائحة الأخيرة للكوليرا 1947، إذْ يحمل اليوم السادس بُشْرَى النجاة لو مَرَّ على مريض الكوليرا وهو حي ومتوفر له الإسعافات الصحية، ولذلك تتعلق الآمال باليوم السادس، ويظل الإنسان منتظرًا بين اليأس والرجاء مصيره المحتوم.
عدا هاتين الروايتين، لا أذكر أن كاتبًا تطرق إلى هذه الجوائح (الكوليرا والطاعون) بمثل هذا التفصيل والرصد للأعراض والإجراءات الوقائية والصحية وسلوك البشر تجاهها. الغريب أن الكاتبين فرنسيان، ومن أصول عربية وأفريقية، ومع قراءتي لمعظم الروايات العربية، لم أجد كاتبًا عربيًّا يُفرد في روايته مساحة مماثلة لهذه الأوبئة، أو يجعل منها خلفيةً لعمل روائي، أو لقطةً في قصة قصيرة، أو موضوعًا فلسفيًّا للتأمل، أو يقدم قراءة وجودية وتأملية للإنسان في مجابهة الكوارث والأوبئة، على غرار ما ورد في الروايتين الفرنسيتين. أمَّا ما ورد على استحياء من ذكر الكوليرا في "الأيام" لطه حسين، وقصيدة نازك الملائكة الشهيرة، أو كإشارة في الحرافيش لنجيب محفوظ، فإنه يُعَدُّ أمرًا مُثيرًا للتأمل، ولا أعرف سببًا لعزوف الروائيين العرب عن ذلك.
مشاهد الرواية دامية تفوق الخيال. ومع تطور الرواية العربية، واتجاهها المحموم نحو الرواية المعلوماتية، وكثرة عدد الروائيين، فإن الرواية الجديدة - في ظني - ستكون أكثر قدرةً على استيعاب الأوبئة، ورصد الإجراءات الصحية والوقائية المُتَّخَذَة في مواجهتها. فما رأيناه على شاشات الفضائيات، وما رأيناه بأعيننا من إجراءات العزل المنزلي، والهلع في عيون البشر، والعدد المتسارع يوميًّا في معدل الإصابات، والأكثر سرعةً في الوفيات من جراء كورونا، القاتل السريع، ومع تلك الأحداث اللاهثة في المعامل والمختبرات للبحث عن مصل وعلاج للفيروس، كل ذلك يجعلنا ككتاب وروائيين وفنانين وموسيقيين نختزن في وعينا وضمائرنا تلك الصور غير القابلة للمحو، والتي ستخرج - من ثَمَّ - في أعمال روائية وقصصية وفنية وموسيقية كثيرة.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020