الثلاثاء 7 مايو 2024

أحمد سمير سعد يكتب: الموت الأسود ماذا حدث للعالم

فن15-10-2020 | 20:52

بقلم أحمد سمير سعد


كثيرون قد لا يعلمون كم هم سعداء الحظ لأنهم وُلدوا في هذا العصر، إلَّا عندما يقارنون أنفسهم بمن وُلدوا في عصور سابقة. ربما علينا أن نُلقي نظرة متفحصة على أحد الأوبئة القديمة الشهيرة، ليس على آثارها فحسب، بل على طريقة تعاطي الإنسان والعالم معها. وليس الهدف من وراء ذلك إدراك ما نحن فيه من حظ حسن فقط، بل التأكيد على مكاسب إنسانية تحققت على مدار القرون الفائتة، وينبغي ألَّا نُفَرِّط فيها مُطلقًا بأي حال وتحت أي إدعاء، بالإضافة إلى الاقتناع بأن أي حدث ضخم يستجلب معه - دائمًا وأبدًا - تغيرات هائلة، اقتصادية واجتماعية، بل حتى عقائدية. وهذه التغيرات تأتي بعد فترة طويلة من الاستقرار لتنشأ نظم جديدة، ما كان لها أن تنشأ لولا الرَّجَّة التي حاقت بما هو قديم، وربما كُنَّا الآن على وشك أن نشهد شيئًا مماثلًا.  


لذلك أظن أنه سيكون من الجيد لو استعرضنا كتاب (الموت الأسود) لأستاذ تاريخ العصور الوسطى (روبرت س. جوتفريد)، ترجمة (أبو أدهم عبادة كحيلة)


ربما لم يعرف العالم مرضًا أفتك من الطاعون، لم تكن خطورته في فداحة الخسائر في الأرواح فحسب، بل الأفدح أنه - في كثير من الأحيان - كان يأتي في موجات، ما إن ينحسر حتى يعاود الهجوم بضراوة، حتى إنه في بعض الأحيان استمر لقرون، ما إن يختفي حتى يعاود هجومه من جديد ضاربًا الجيل اليافع. هكذا استمر نزيف الأرواح لفترات طويلة، وصلت أحيانا لقرون. هذا  الذي بين أيدينا يركز على طاعون امتد في جُلِّ بقاع العالم: آسيا وأوربا وشمال أفريقيا، وبدأ في القرن الرابع عشر، وأخذت موجاته تضرب في تتالٍ لقرنين تاليين تقريبًا.


تميزت تلك الفترة بتعبيد طرق التجارة والنقل البحري بين آسيا وأوربا وشمال أفريقيا، وهو ما أدَّى إلى الانتشار السريع للطاعون، وهو المرض الذي ما يكاد يصل إلى مكان حتى يستوطن به.


علم الأوبئة


كانت أكبر أزمات ذلك العصر عدم معرفة الإنسان آنذاك بطرق الوقاية والعلاج. نعلم الآن أن الطاعون تُسَبِّبُه بكتيريا عَصَوية تُدعى يرسينيا، لكن هذه المعلومة لم تُكتشف إلَّا في نهاية القرن التاسع عشر، ففي ذلك الوقت البعيد لم يكن قد تأكد بعد جرثومية الأمراض، ولم يكن أحدٌ يعلم أن الأمراض المُعدية قد تأتي نتيجة كائنات مجهرية مثل البكتيريا، أو حتى من كائنات أصغر هي الفيروسات. 


لكن هذه هي الأزمة لم تكن الوحيدة، ففي ظل عدم معرفتهم بمفهوم جرثومية الأمراض كان العلماء يحاولون الربط بين ما يرصدونه من تغيُّرات على القوارض - خاصة الفئران - وبين ما يصيبهم، ولكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى هذه العلاقة، ولم يدركوا أن تلك البكتيريا تنتقل في الأساس بين الفئران عن طريق برغوث الفئران، حيث تتكاثر البكتيريا داخل هذا البرغوث وتملأ جوفه، وعندما يمتصُّ دماء مُضيفه فإنه يقيء بعضًا من تلك البكتيريا مُسَبِّبًا إصابة المضيف. هذا البرغوث قد يصيب الإنسان بالمرض، ثُم يتكفل البرغوث البشري بنقل المرض بين البشر. هذا هو الطاعون الدُمَّلي، وهو الطاعون الذي يُسبب أورامًا في العُقَد الليمفاوية أعلى الذراعين والفخذين، ويقضي على ستين بالمائة من المصابين به. جرت بعض المحاولات للتخلص من هذا المرض بتطبيق الحجر الصحي، لكنهم كانوا يطبقونه على البشر، في حين تبقى القوارض والحشرات حرة مطلقة السراح تنشر المرض، وهو ما كان يتسبب في فشل كل شيء. ربما كان الحجر الصحي نافعًا مع نوع آخر من الطاعون وهو الطاعون الرئوي، وفيه تصل البكتيريا إلى رئات المصابين، وتكمن خطورته في كونه ينتقل عن طريق التنفس ويقتل تسعين بالمائة من المصابين به، إن لم يكن مائة بالمائة. هناك أيضًا نوع ثالث من الطاعون يسمى بالطاعون التعفني، ويحدث عندما تصل البكتيريا إلى الدماء مسببة تسممه، ويتسبب في وفاة مائة بالمائة من المصابين به.


ظلت موجات الطاعون بين الانتشار والانحسار، بلا وسيلة ناجعة للقضاء على مسببات المرض، وكانت هذه الموجات تعتمد بالتأكيد على الظروف البيئية وسلوك القوارض والحشرات، وكذلك على انحسار المناعة عن البشر بميلاد أفراد جُدُد لم يتعرضوا لهذه البكتيريا، لكن كل ذلك كان مجهولًا لإنسان العصور الوسطى.


طرق العلاج


نعرف الآن المضادات الحيوية، وهي ناجحة جدًا في القضاء على أغلب الأمراض البكتيرية، لكن إنسان ذلك العصر لم يكن يعرف ذلك، بالأساس لم يكن يعرف أسباب المرض. اعتقد البعض أنه يأتي نتيجة حدوث خلل في اتزان أخلاط الجسم، وهو ما كان يدفعهم إلى طرح وصفات علاجية من أجل إعادة التوازن إلى هذه الأخلاط ، وهو أمر لم يكن يُجدي نفعًا بالتأكيد.


قد نجد الآن من بعض الناس ممارسات تقترب - أحيانًا - من ممارسات إنسان العصور الوسطى عند تفكيره في الأمراض. لكننا قد نلتمس العذر لإنسان العصور الوسطى بسبب الجهل، أمَّا الآن فلا يوجد أي أعذار لمن يطرح أفكارًا مماثلةً. 


وهناك من ذهب إلى أن المرض ربما أتى نتيجة تغيرات في كواكب السماء، وأن اصطفاف المريخ والمشترى وزحل معًا ربما كان مرتبطًا بحلول الجائحة. وهناك من ذهب إلى فساد الهواء، بل طرح بعضهم فكرة أن الهواء الفاسد يهب من الجنوب، ولذلك من الأفضل أن تكون فتحات التهوية إلى الشمال. وبالطبع هناك من اعتبر المرض عقابًا إلهيًا. بل ذهب بعض الناس في أوربا إلى اعتبار المرض مؤامرة، فأنزلوا العقاب باليهود الذين يقطنون معهم، معتقدين أن المرض قد حدث لأنهم قاموا بتسميم مياه الآبار التي يشربون منها. إنه نفس الإنسان الذي يُفقده الجهل أبسط قواعد المنطق.


سنجد كذلك مَنْ نَصَحَ بعادات غذائية مختلفة لم تثبت أي فعالية، أو مَنْ دعوا إلى تطييب رائحة الهواء باعتبار أن ذلك جيد للوقاية من المرض، لكنهم في الوقت نفسه دعوا إلى عدم الاستحمام لأنه يعمل على فتح مسام الجلد ما يزيد من قابلية الإصابة بالمرض. 


تغيرات اجتماعية واقتصادية وسلوكية ضخمة


كان لذلك الوباء تأثيرات واسعة بكل تأكيد، وقد درسها هذا الكتاب في أوربا بشكل أكبر من تعرضه لها في بقية مناطق العالم.


أولى هذه التغيرات - بداهةً - كانت من نصيب النظام الصحي، فقد كانت المستشفيات في السابق مكانًا لعزل المصابين حتى يموتوا، لكنها في أعقاب الطاعون بدأت بالفعل تساعد في علاج المرضى، وهو ما بدأ يغير من منظور الناس لها ولوظيفتها.


كذلك ارتفعت أسهم الجراحة، فقد كان يُنظر إلى الجراحين باعتبارهم أقل مكانة من الأطباء، لكن مع فشل الأطباء إزاء الطاعون ازدادت مكانة الجراحين.


لكن التغيير الأهم في الممارسة الطبية كان في المنهجية، فقد اعتاد الأطباء على النقل من الكتب القديمة والأخذ بآراء جالينوس وأبوقراط، كما اعتادوا على اعتبار الطب علمًا استدلاليًّا، لذا لم يكونوا يهتمون بالنظر والبحث والاختبار، وهو ما بدأ في التغير حيث أدرك الأطباء ضرورة اختبار فرضياتهم والانكباب على التماس الحقيقة عن طريق وسائل أخرى، على رأسها الخبرة الشخصية والفحص المباشر.


تعرض النظام الاجتماعي والاقتصادي كله لهزة كبيرة جدًا، خسرت الكنيسة كثيرًا من نفوذها، وذلك لسببين رئيسين: أولهما أن الكنيسة كانت نوعًا ما مسؤولة عن التعليم الطبي في ذلك الوقت، وكما كانت تُمَجَّد نتيجة للنجاحات الطبية، فكذلك كانت تُلام من جراء الفشل الذي سقط فيه الطب إبان الجائحة. أمَّا السبب الثاني فهو فشل الكنيسة في معالجة أتباعها روحيًّا. لكن ذلك الفشل لم يقلل من قيمة الدين نفسه، ففي أيام الجوائح يزداد البحث عن الخلاص. قَلَّتْ قيمة الكنيسة المؤسسية، لكن ازداد التعلق بالسماء، وتعمقت الاتجاهات الصوفية، وربما أسهم ذلك في محاولات الإصلاح الديني التي انفجرت فيما بعد.


وإلى حَدٍّ ما، فشل علماء المسلمين أيضًا آنذاك في بث الطمأنينة في أرواح المسلمين. إذْ تعاطى بعضهم مع الوباء باعتباره عقابًا منزلًا من الرب، وأنه ابتلاء للمؤمنين وعذاب للكافرين. لكن الفارق الجوهري في التعاطي بين رجال الكنيسة وشيوخ المسلمين، أن رجال الكنيسة لم يعترضوا على الهرب من وجه الطاعون، بل إن بعضهم هرب إلى بلاد أخرى، ومن لم يتمكن منهم من مغادرة البلاد الموبوءة لجأ إلى الجبال والقفار، في حين لجأ رجال الدين الإسلامي إلى المواجهة، وهي في نهاية المطاف نوع من الحجر الصحي بالتأكيد.


كان للطاعون كذلك أثر ثقافي كبير للغاية، لقد دفع الطاعون البعض إلى حياة الخلاعة والمجون والاستمتاع بالقدر الأقصى، فالموت آتٍ لا ريب فيه. لكن البعض الآخر دفعه الطاعون إلى النقيض، فألزم نفسه بنموذج أخلاقي ومعاشي لا يحيد عنه. نجد أثر هذين النموذجين الضدين ماثلين بشدة في الآداب والفنون. على سبيل المثال نجد في الديكاميرون - عمل بوكاتشيو الأشهر - أثر النموذج الأول لطلب المتعة والتسلية وامتصاص عُصارة الحياة حتى آخر قطرة، أمَّا في أعمال بوكاتشيو الأخيرة فسوف نجد كتابات تطرح نموذجًا أخلاقيًا وتحاول أن تَحُثَّ عليه.


تبدو نقاط الشبه مع عالمنا المعاصر كثيرة، رغم مرور الزمن، ورغم معارفنا التي ازدادت كثيرًا جدا بالمقارنة، ولا ننكر بالطبع وجود اختلافات كثيرة أيضًا، لكن من الواضح أن جائحة الكورونا سَتُخَلِّفُ تداعياتٍ اجتماعيةً وسياسيةً واقتصاديةً وطبيةً وعقائديةً ضخمةً للغاية، تمامًا كما فعل الطاعون ذات مرة. ورغم كارثيَّتها، فسوف تُشَكِّل الكورونا مفصلًا مُهِمًّا في تطور العقل والسلوك البشري في النهاية.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    Egypt Air