السبت 1 يونيو 2024

عندما كانت تخطفنا الكهارب

فن18-10-2020 | 10:17

المسافة بين قريتى بالمنيا وبين مدخل المنيب الذى كان بوابتنا نحن الصعايدة للعاصمة القاهرة لا تزيد على مائة وثمانين كيلو مترا تقطعها السيارة البيجو 504 وسيلة المواصلات الأكثر انتشارا وقتها فى ساعتين ونصف الساعة على الأكثر بينما يقطعها القطار فى نحو ثلاث ساعات وأكثر، هذا إن وصل المحطة فى موعده، لكن بمقاييس التقدم كانت المسافة أكبر من ذلك بكثير، كانت خمسة عقود على الأقل من التطور، كان مشهد المنيب وما قبله بالنسبة لنا كصعايدة الانتقال من عصر إلى آخر، أو من زمن إلى زمن مختلف، كانت الأضواء المبهرة ولوحات الإعلانات أو كما كان يطلق عليها البعض "الكهارب" وزحام الشوارع ولغة الناس بالنسبة لنا حالة مختلفة تشدنا المرة تلو الأخرى كى نبحث عن وسيلة نعود بها إلى القاهرة الباهرة المبهرة، لم نكن نبحث عن قيم متماسكة فى الصعيد ولا أخلاق لا تزال بكرا ولا تقاليد حبانا الله بها، كنا فقط نبحث عن الإبهار الذى حرمنا منه فى الجنوب، ولم نكن نتخيل أن الإبهار ليس أكثر من بهرجة كاذبة لا تعكس تقدما حقيقيا ولا تطورا جوهريا، وإنما تعكس فقط ثقافة مجتمع مغاير لما نعيشه فى الصعيد، مجتمع حلو الشكل كما السيدة الجميلة المظهر بلا جوهر.

مرت الأيام وكُتب لى أن أكون طالبا بجامعة القاهرة، وأن أعيش فى المدينة التى كثيرا ما تمنيت عيشتها واكتشفت أن الأمر لم يكن بالنسبة لى سوى عشق الممنوع، فالقاهرة ليست مدينة تعشقها بقدر ما هى مدينة تتمنى زيارتها بين الحين والآخر، أو الحياة بها لزوم العمل الجيد والحياة الأكثر تطورا والشهرة لمن يسعى إليها

أيقنت أن القصة لا تزيد على شاب كان محروما من وسائل التقدم فيبحث عنها فى مدينة أخرى، نعم كنت محروما من تنمية تبعث الحياة فى بلادنا بالجنوب، كما كنت محروما من أن يصل إلينا الفن فى نفس توقيت وصوله إلى القاهرة، وأن تعم الثقافة بلادنا بندواتها ولقاءاتها وروادها الذين لم يكن أغلبهم أبناء القاهرة بل من أبناء الصعيد وقرى بحرى ورغم ذلك سرقتهم القاهرة واستولت على إبداعاتهم مثلما استولت على كل مليارات التنمية لنفسها وحرمت منها مدن وقرى الجنوب التى كُتب عليها أن تتأخر عن موعد التطور أكثر مما كان قطار السادسة مساءً يتأخر عن موعده على محطة مغاغة بلدى التى أنتمى إليها.

كانت المفارقة أن الإبهار الذى كان يخطفنا فى القاهرة ليس من صنعها بل بأموالنا التى كان مفترض أن تأتى إلينا فى الجنوب لتنمى بلادنا لكنها ضلت طريقها عمدا وبقيت فى القاهرة حيث الطمع المركزى فى كل شيء،

 كنت أسأل نفسى .. ما الذى ينقصنا فى الصعيد حتى نحظى بالاهتمام ؟

ما الذى فعلناه كى نعاقب ؟.. ما جريمتنا ؟.. لسنا أقل فكرا ولا إنسانية

كان من الردود الساخرة التى نتلقاها على تجاهل الصعيد أن قتلة الرئيس السادات من الصعيد وتحديدا من المنيا ولذلك يتم عقابنا، ولأننا كنا قليلي الوعى فقد كان هذا المبرر التافه يجد قبولا عندنا لدرجة أن سيارات المنيا كان ملاكها يراعون عدم التحرك كثيرا فى شوارع القاهرة خشية أن يكون هناك تعامل خاص وعنيف معها لأنها محافظة إرهاب وأى لوحة معدنية مكتوب عليها المنيا أو أسيوط تلقى معاملة غير محترمة؛هكذا عشنا شبابنا فى نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضى، ما بين البحث عن بريق القاهرة الكاذب، والخوف من عقاب يقع علينا لأننا أبناء محافظة إرهاب، مثلنا مثل الجارة الجنوبية أسيوط.

والطريق إلى المنيا كانت تسيطر عليه الأكمنة الأمنية وتتزايد فيه الاستيقافات والتفتيش المفاجئ الذى كان يجعل الرحلة عليه سواء كانت إلى القاهرة أو العودة منها مؤلمة وشاقة وأحيانا غير سالمة،كنا دائما نتندر فيما بيننا ونقول المنياوى المسافر "ميت ميت" إن لم يكن بحادثا على الأسفلت، فغرقا فى الإبراهيمية، أو دهسا تحت قطار، وإن أفلت من كل هذا فيمكن أن يسقط فى كمين شرطة.

كانت هذه هى ثقافتنا التى عشنا فى ظلها طويلا إلى أن تغيرت تماما خلال السنوات الماضية، فلم يعد الصعيد مهجورا مقهورا مظلما مظلوما، ولم يعد أبناؤه معزولين عن وطنهم مبعدين عن حقوقهم، بل أصبح فى بؤرة الضوء، وصلت التنمية إلى ربوعه، واتسعت شرايين جسده لتستوعب المزيد من الخير، وتفتحت أزهار أبنائه ليروا الحياة كاملة بكل ما فيها من إبهار مثل القاهرة تماما، وربما أكثر بسبب الهدوء الذى لا يزال يسود الصعيد،الفارق الوحيد الذى ظهر فغير حياة الصعيد الإرادة التى كانت غائبة فحضرت، والرؤية التى كانت منعدمة فتواجدت، فلم يعد الصعيد مطلوبا فقط وقت الانتخابات لزوم الحشد والتصويت ولم تعد زيارات الرئيس له من أجل الشو السياسي، فالرئيس السيسى يزور الصعيد لأنه مؤمن بحقوق أبنائه وبإمكانياته وقدرته على أن يغير وجه مصر إن تحققت له التنمية الحقيقية.

لذلك وبفضل هذا الاهتمام الرئاسى؛ الصعيد الآن هو صعيد عصرى تحكمه المدنية لكنها مدينة نقية، لم تختلط بها شوائب العصر المنفلت، ولم تداخلها دماء ملوثة بأفكار الغرب المعوجة، فالقبلية التى تغضب البعض لا تزال حافظة للثوب الصعيدى، والثوابت لا تزال تحميه من تغيير الجلد، والقيم تصد عنه نوائب الزمن، ومع كل هذا بدأنا حصد ثمار التنمية بحق.