الثلاثاء 21 مايو 2024

"كانوا ناس يخشوا الملامة "

فن18-10-2020 | 10:30

يشكل العيب جزءا عميقا من تكوين وثقافة الشخصية الصعيدية,التى ترتبط بالعادات والتقاليد والقيم الموروثة، ارتباطا يحرك الصعيدي حتى فى لا وعيه - بداية من فهمه وتصوره للحياة ونهاية حتى بنبرة صوته وطريقته فى الحديث والتحدث.

لا يوجد صعيدي فردا أو يتصرف بشكل فردى، أو يتصرف "كما يعنّ له"، فهناك دائما ما يشكل مرجعية له و"ما يعمل له ألف حساب"،حتى لو كان على سطح القمر، والأول في ذلك قبيلته وعائلته وأسرته، التي تكون دائما مصدر الحماية بكل أنواعها ،وتكون أيضا مصدر الخوف والقلق والتحسب,إذ إن كل تصرفات الصعيدي الفردية، تكون لها عواقبها الجماعية ,إذا أحسن الفرد، فذلك يرجع لأصالة  "الصلب أو العضم " أي الأب والأعمام والأجداد، وإلى أصالة "المخول" أي إلى عائلة الأم والتي يرمز لها بالخال.

أما إذا أخطأ ولو كان "عيلا" يلعب مع أقرانه في "الزحليطة " على مورد الماء ،فإن خطأ العيل قد يتحول إلى كارثة قبلية، وأبسط ما يقال فى ذلك، إنه من ناس لا يخشوا الملامة، ولا تجوز لهم وعليهم الملامة.

هناك من يقول إن الصعيدي لا يوجد صفحة بيضاء، فهو حتى قبل أن يولد، يقدر له أن يتخذ موقفا ما، ومنها موقفه من العائلات الأخرى، بحسب علاقة عائلته بها، ثابتة أو متغيرة سلبية أو إيجابية في طريقة متراتبة لتشكيل الوعى قبل أن يتكون وبفرض سلوك حاد قبل أن تفهم أسبابه ودوافعه حتى أن المرء يولد ويكبر حتى يبلغ مبلغ الرجال وهو لا يستطيع أن يلقى السلام على جيران له دون أن يعرف لذلك سببا.

هذه الأمور المعقدة التي تشكل على الأقل المفردات الأولى لشخصية الفرد فيها ما فيها من إيجابيات وأبسطها قيمة الانتماء إلى الجماعة، بما فيها من مظاهر إنسانية تحمل كل معانى النبل والشرف والتضحي، ويكفى فيها أن الواحد قد يضحى بروحه من أجل أي فرد من القبيلة حتى لو كان يكرهه، لكن تلك القيم الإيجابية تحمل نقيضها البشع الذى لا يزال يقتل الصعيد في إنسانيته، فتلك التضحية بالروح فى الأصل تغذية لكارثة الثأر القبيحة، التى طالما وما زالت ترسم مقادير البشر، وتسحب منهم تطلعاتهم في الحياة، لمجرد أن "عيل" أخطأ وهو يلعب مع أقرانه في "الزحليطة"، وتحول خطأ اللعب إلى كارثة جماعية، ترفع فيها العائلات سلاح الثأر على بعضها البعض، وتبدأ دائرة دموية تحصد خيرة الأرواح، على مدى عقود من السنين. (هل ما زال أحد يندهش حين يعرف أن تجارة السلاح فى مصر تسجل أعلى معدلاتها فى الصعيد.

لكن لا يظن أحد أن التورط في هذا أمر سهل أو مجانى، فجزء أيضا من تكوين وعى الصعيدي احترام محيطه والتعامل بحساب أخلاقي مهذب حتى مع أعدائه، ما يفرض عليه دائما أن "لا تأتى العيبة منه" أو تخرج منه حتى كلمة تضعه أو بالأحرى تضع عائلته في موقف حرج، فالكلمة مثل الرصاصة حين تخرج لا تعود، وحين تصيب لابد من دفع الثمن، فلذلك فإن أعلى الناس مقاما في ضمير الصعيد هم أعلاهم أدبا، هؤلاء الناس الذين يخشون الملامة.

هل لذلك تتصدر خشية الملامة مدخل السيرة الهلالية لا يسبقها سوى الإقرار بالتوحيد ثم الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -  لتكون تالى النزول من السماوي إلى الأرضي؟

سيرة عرب أقدمين

كانوا ناس يخشوا الملامة

رئيسهم بطل سبع ومتين

يسمي الهلالي سلامة

"خشية الملامة "وصف جامع وشامل وقاطع وإيجابي لأبطال السيرة، وتعطى انطباع التجلة والتكريم لهؤلاء الذين سيدخلون تغربية تاريخية وأسطورية، حاملين قيمهم الروحية والنفسية، قبل صفاتهم البدنية والقتالية، وهو وصف يمهد للبيئة الاجتماعية التي خرج منها السبع المتين، الذى على فرط قوته، لابد أنه يخشى الملامة، وخشية الملامة تصنع بطولات أكثر عمقا في الذاكرة من تلك الحروب التي خاضها مع أعدائه وفى مقدمتهم خليفة الزناتي.

هل وجد المزاج الصعيدي الشعبي نفسه في سيرة بني هلال، بكل ما تحمله من قصص البطولة والإقدام والغرام والأخوة والخير والشر والخيانة والغدر ... ؟

أم أن رواة السيرة الهلالية وفى المقدمة منهم عمر جرمون وجابر أبو حسين وسيد الضوي ثم شوقي القناوي ومحمد اليمني، طوروا وغيروا وجددوا وأضافوا فى تفاصيل السيرة،ما يجعلها تتسق مع المزاج الصعيدى فى تطوراته عبر العصور؟

لا أعرف، لكن هناك حقيقة تاريخية حديثة، إنه مثلما كان العالم العربى من المحيط إلى الخليج، يجتمع كل خميس حول المذياع ليستمع لكوكب الشرق أم كلثوم فى حفلة الخميس، فإن الصعيد بكل أطيافه,كان يجتمع حول المذياع فى العاشرة مساء من كل يوم، ليستمع إلى السيرة الهلالية من الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى وشاعر السيرة جابر أبو حسين، فى برنامج السيرة الهلالية على إذاعة الشعب، التى كانت توحد الصعيد,لدرجة أن عمليات الثأر كانت محرمة فى توقيت إذاعة السيرة،ولدرجة أيضا أن المطالبين بالثأر كانوا يجدون فى هذا التوقيت التوقيت الأفضل لأخذ الثأر،حيث يمكن أن يغفل صاحب السلاح،بنشوة الربابة.

رأيت فيما لا أنسى فى الصعيد،كيف تتحول الساعة العاشرة على إذاعة الشعب،إلى حدث جلل يومى، ينسى فيه الجميع خلافاتهم من أجل حكى الأبنودى،وتتعاظم فيه المودة من أجل صوت جابر أبو حسين،الذى تحول نفسه إلى بطل شعبى،وإلى واحد من أبطال السيرة نفسها،حيث يتحد الراوى والمروى عنه فى صوت أسطورى يصل من فرط تشخيصه لتفاصيل تفاصيل الشخصيات والأحداث فى  السيرة،أن من الناس من هام عشقا ,بالجازية الهلالية أخت السلطان حسن بن سرحان، وسعدة ابنة الزناتى خليفة،وسبيكة وحلقة ودوابة.. وغيرها من أسماء,أطلقها الصعايدة على بناتهن كما أطلقوا أسماء أبطال السيرة مثل سلامة وخليفة ودياب ويحيى ومرعى وأبو القمصان على أولادهم،تأثرا بصوت جابر أبو حسين.

وربما لا يعرف كثيرون أن جابر أبو حسين كان يرفض التعامل مع الإذاعة وكان يكتفى فقط بالحفلات المباشرة مع جمهوره فى الصعيد،ولم تفلح محاولات كثيرة فى جعله يسجل السيرة إذاعيا ومنها محاولات للكبير زكريا الحجاوى،وربما لا يعرف كثيرون ايضا أن السبب الرئيسي فى جعل أبو حسين يوافق على التسجيل للإذاعة هو الإذاعى الرائد الكبير فهمى عمر، مدير إذاعة الشعب سنة 1977، الذي أرسل له رسالة مع عبد الرحمن الأبنودي الذي زار جابر أبو حسين مع الفنانة عطيات الأبنودي وعبد الرحمن قيقة من تونس،وربما كانت رسالة فهمى عمر إلى جابر أبو حسين تحمل سرا ما جعل جابر يوافق,ربما كانت تحمل شيئا من الملامة.