السبت 29 يونيو 2024

الصعايدة .. رجولة وإبداع

فن18-10-2020 | 13:05

طلب مني الأستاذ خالد ناجح - رئيس التحرير، مقالة عن الصعيد، وحينما قلت هل من زاوية معينة؟ قال لك حرية الاختيار، فاصبت بالحيرة فهذه الثقة من رئيس التحرير زادت من عبء التكليف، فالصعيد ليس منطقة صغيرة بل مناطق تمتد لمئات الكيلو مترات تضم الملايين من البشر والعديد من محافظات مصر من أقصى الجنوب (أسوان) وحتى الجيزة مرورا بقنا وسوهاج وأسيوط والمنيا وبني سويف والفيوم والبحر الأحمر والوادي الجديد، فهل تكفي صفحات مهما بلغ حجمها للحديث عن هذه المحافظات التي تضم أعظم تراث إنساني عرفته البشرية (الآثار المصرية القديمة)، والتي لا يوجد بلد في العالم إلا ولديه فخر كبير باحتواء متاحفه على العديد من القطع الأثرية من الحضارة المصرية القديمة، ورغم ذلك مع إشراقة كل صباح نسمع عن كشف جديد لأثر قديم في إحدى محافظات الصعيد التي تحوي كنوز مصر العظيمة والتي تكشف عن قيادة مصر للعالم في حقبة من أعظم حقب التاريخ (عصر الفراعنة وأسراتهم) والتي وصلت فيه الدولة المصرية القديمة إلى مرحلة متقدمة في مختلف المجالات، والبرديات والنقوش الفرعونية خير شاهد حي على ذلك، ولعل خير دليل على هذه العظمة عجز العلماء على مدار التاريخ رغم تعدد نظرياتهم عن اكتشاف سر التحنيط الذي يبقي على الجسد مئات السنين دون أن يتحلل ، أو الكشف عن السر في بناء الأهرامات بهذا الشكل الهندسي الفريد رغم عدم توفر إمكانيات الزمن الحديث من آليات ورافعات وغيرهما.

أعود إلى كلمة الصعيد التي تحمل معاني كبيرة وكثيرة فالرجولة والنخوة والشهامة والجدعنة والصلابة وقوة التحمل والاعتزاز والثقة بالنفس وغير ذلك من صفات جميلة يتمتع بها أبناء الصعيد، فكيف أكتب عن هذا الموضوع، فالقماشة - كما يقولون - واسعة.. هل أكتب عن صعيد التنمية في الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وحتى الرياضة ، أم أكتب عن ثلاثية الفقر والجهل والمرض الذي عشش لسنوات طويلة في حياة أهل الصعيد حتى وصل الأمر إلى أن أكبر نسبة فقر في بلادنا الجميلة بين هؤلاء البسطاء، رغم ما لديهم من إمكانيات كبيرة لو استغلت الاستغلال الأمثل لنالوا حياة كريمة، ولكن بدلا من ذلك ونتيجة لهذه الثلاثية المقيتة (الفقر والجهل والمرض) هجر الآلاف ان لم يكن الملايين من أبناء الصعيد قراهم بحثا عن لقمة عيش في بلاد الغربة لتوسع أرزاقهم عليهم وعلى أسرهم وتفتح لأبنائهم مجالات أوسع في البناء والإعمار، فظهر أثر ذلك على آلاف الأسر في مختلف المحافظات وشاهدنا تقدما عمرانيا على حساب الأرض الزراعية وأهمل الكثير أرضهم الزراعية لكثرة أعبائها وقلة مردودها ونزحوا إلى العاصمة وفضلوا العيش في المدينة بحثا عن حياة كريمة بدلا من حياة الشظف وسط مساكن طينية مهدمة أو عشش من البوص لا تحميهم من برد الشتاء ولا زمهرير الصيف.

ووسط هذه الحياة الصعبة تستطيع بقعة ضوء أن تنير الطريق ليس للصعيد فقط بل لمصرنا والعالم العربي كله ، إنها إنسان الصعيد بإبداعاته وعطائه الفكري الذي غمر العالم، فقد أنجب الصعيد الآلاف من أبناء مصر المبدعين في مختلف المجالات فهناك - على سبيل المثال لا الحصر - الكثير ممن كان لهم باع طويل في مجال السياسة وإدارة شئون الدولة كالزعيم والرئيس الراحل جمال عبد الناصر ابن أسيوط وإنجازاته التي لا تزال ماثلة للعيان والزعيم عمر مكرم ابن أسيوط ودوره العظيم في مقاومة ثورة القاهرة الثانية ومقاومة المستعمر الفرنسي عام 1800 والدكتورة حكمت أبو زيد أول وزيرة عربية وزيرة الشئون الاجتماعية بعد سقوط الملكية ابنة أسيوط، ومحمد محمود باشا رئيس وزراء مصر في العهد الملكي ابن أسيوط، والسيد مكرم عبيد وزير المالية بحكومة الوفد قبل الثورة ابن قنا، وفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر،والذي نال منزلة كبيرة لدى أبناء محافظته سوهاج قبل أن يصير شيخا للأزهر، فزادت منزلته لشرف كونه شيخا للأزهر الشريف، والسيدة آمال عثمان وزيرة الشئون الاجتماعية ابنة أسيوط، وابن أسيوط الدكتور احمد كمال أبوالمجد الفقيه الدستوري الكبير، والسيدة هدى شعراوي ابنة المنيا إحدى أبرز الناشطات المصريات من الجيل الأول ، ومن أوائل المنادين بتحرير المرأة المصرية ، وهذه مجرد نماذج ويوجد المئات غيرهم ولكن المقام لا يتسع لذكرهم.

أما من المفكرين والكتاب والأدباء والشعراء والفنانين فقد أنجب الصعيد ومحافظاته المختلفة العديد والعديد ، فهل نسينا ابن سوهاج رفاعة رافع الطهطاوي وكتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وهو من قادة النهضة العلمية في عهد محمد علي ويعد باكورة النهضة في تاريخ مصر الحديثة، وهل نسينا ابن محافظة أسوان الأديب والفيلسوف الكبيرعباس محمود العقاد صاحب (سارة) وإبداعاته الفكرية التي تربى عليها أبناء جيله والأجيال التالية ومازلنا حتى الآن نستمتع بعبقرياته وننهل من آرائه الفلسفية والفكرية، وهل نسينا أبناء محافظة أسيوط من أمثال: الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي صاحب العبرات والنظرات، والشعراء حافظ إبراهيم صاحب القصيدة الخالدة (مصر تتحدث عن نفسها) وصلاح عبد الصبور أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي ومن رموز الحداثة العربية، صاحب (مأساة الحلاج ، وليلى والمجنون) ومحمود حسن إسماعيل صاحب (أغاني الكوخ) وفوزي العنتيل صاحب (رحلة في أعماق الكلمات)،وهل نسينا شعراء محافظة قنا: أمل دنقل وديوانه (الوقوف على قدم واحدة) وعبد الرحمن الأبنودي صاحب (السيرة الهلالية والطوق والأسورة) وعبد الرحيم منصوروالذي تغنى بأغانيه عدد من مشاهير الغناء كنجاة الصغيرة ومحمد منير، ومن المنيا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين صاحب (الأيام) والذي يكفيه فخرا مناداته بمجانية التعليم عبر شعاره الذي أطلقه منتصف القرن الماضي "التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن " للتأكيد على أهـمية التعليم ودوره في بناء المجتمعات وتقدم الأمم ، كل هؤلاء وغيرهم الكثير تركوا تراثا فكريا وأدبيا وشعريا كل في مجاله نال شهرة واسعة ، ورفعوا اسم بلدهم بإنتاجهم الإبداعي.

إنها نماذج ناصعة أضاءت سماء ثقافتنا وإبداعاتنا الفكرية في فترة من الزمن الجميل ، ومازالت آثار عطائهم تمتد إلى يومنا هذا فضلا عن الغد ، فالعطاء الفكري الإنساني لا يتوقع أن يندثر أو بموت صاحبه بل يبقى طالما هناك متلقٍ لهذا الفكر وهذا العطاء ، لذلك لا تزال أسماؤهم تتردد في الآفاق ومعها يتردد اسم البلاد التي ولدوا فيها إنه الصعيد السخي بعطائه الحياتي الممتد عبر آلاف السنين وسوف يظل يمد البشرية بالكثير والكثير، والشعراء والأدباء الجدد يحملون المشعل ليسيروا نحو النهضة بخطى ثابتة كالأدباء مؤمن أحمد عبد العال ومصطفى البلكي وأيمن رجب وأشرف عكاشة ومحمود فرغلي وثروت عكاشة وغيرهم كثير... إنه صعيدنا الذي نفتخر به ويفتخر بنا ونسعى جاهدين لرفعة شأنه.

وأحسنت القيادة السياسية في النظر باهتمام كبير للصعيد وأهله مؤخرا، وخصوصا بعد توجيهات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي للنهضة في مختلف المجالات بصعيدنا الغالي فشهدنا تنمية عمرانية واقتصادية وتعليمية وصحية نتمنى أن تؤتي ثمارها سريعا، فأهلنا في الصعيد في أشد الحاجة لهذه النظرة الإيجابية والتنمية المستحقة.