الأحد 5 مايو 2024

أحمد القرملاوي يكتب:«أطياف كاميليا».. خطيئة الجمال وفوبيا المساواة في عالم يحكمه الذكور

فن18-10-2020 | 16:16

بقلم أحمد القرملاوي


من ضلع أول البشر خُلِقَت أولى النساء، طبقًا لما ورَد في الأديان السماوية؛ خُلِقَت حواء حتى تؤنس وحدة آدم وتُذهِب عنه الوَحشة، بجمالها ولُطفها وحضورها السخيّ. من طينٍ خُلق آدم، كي يخلف الخالق ويحمل الرسالة، فيما خُلِقَت حواء من ضِلعه الأعوج، لا لتُشاطره عبء المهمة الثقيلة، بل لتُخفِّف عنه وحشة أيامه. التمييز – إذًا - يبدأ من لحظة الخلق ذاتها، والأغرب أن التمييز بين الرجل والمرأة يرتكز على الميزة الأبرز بين صفات حواء: جمالها، وبسبب هذه الميزة وما يترتب عليها من إغواء لآدم، فقد تعلَّقت الخطِيّة برقبة النساء منذ زمن حواء، وحتى زمن كاميليا عاطف وأطيافها، تلك الأطياف التي لن تلبث تتكرر جيلًا بعد جيل.

في روايتها "أطياف كاميليا"، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، تتناول الكاتبة المصرية نورا ناجي هذه القضية الأزلية من قضايا المرأة، ألا وهي التمييز على أساس الهوية الجنسية. إنها القضية العابرة للأزمان والثقافات والجغرافيات، التي لطالما انشغلَت بها الكاتبات في كل زمان ومكان، بل انشغل بها الرجال أيضًا، فهم مَن يشعرون بالتهديد إزاء زحف النساء صوب نقطة التعادل والمساواة. حتى سقراط الحكيم، أبو الفلسفة، يُنسَب إليه أنه قال: "بمجرد أن يُسمَح للمرأة بمساواة الرجل، ستصير سيِّدته!". القضية – إذًا - مُتَجَذِّرَةٌ في عمق تاريخ البشر، ولطالما استغل الرجل قوته وسلطته في التأسيس لمجتمعات ذكورية، تُغذّي مكانة أبنائها الذكور، ولا تسمح إلا بحُرية هامشية - أو مُدَّعَاة - لبناتها الإناث. ولقد عكسَت رواية "أطياف كاميليا" انشغال الكاتبة بهذه المسألة، من زاوية الجمال، ولعنته على وجه التحديد.

يقول الكاتب الإندونيسي إيكا كورنياوان إن "الجمال جُرح"، فيما تقول نورا ناجي إن "الجمال خطِيّة".. والجرح هيِّن، فعلاجه المُداواة والمُواساة، أما الخطِيّة فلا علاج لها إلا العقوبة والتكفير. وقد تمثَّلَتْ عقوبة كاميليا في إبعادها ونَفيها من حياة أسرتها، وكانت هي بذاتها مَن أوقعَت على نفسها العقوبة، تكفيرًا عن خطِيّة الجمال التي جلبَت على المحيطين بها شتى أنواع المصائب. لكنها، باختيارها المنفى والاختفاء، غرسَت في وجدان سَمِيَّتِها وابنة أخيها - كاميليا الصغيرة - بذرة البحث والاكتشاف، فهي من جيل لاحق لا يرضى للجمال بمصير كهذا، وسيعمل على استعادة الصورة الذائبة في قلب المرآة، بالانتظار أولًا، ثم بالكاميرا المُحَدِّقة، والمستعدة لامتصاص الطيف فور ظهوره على سطح المرآة.

ينطلق السرد من مشهد أسطوري، تزعم خلاله كاميليا الصغيرة أنها رأت عَمَّتها الجميلة - كاميليا الكبيرة - تذوب في المرآة، وتبقى الفتاة في انتظار عودة العمة عبر المرآة، فيما تمضي تقريبًا فوق نفس الدرب الذي قطعَتهُ من قبلها عَمَّتُها كاميليا، تَوْقًا إلى التحرر، وانبهارًا بالمدينة، والتِماسًا للحب، وشغَفًا بالتصوير، وسعيًا وراء التحقُّق والاستقلالية. وأثناء كل ذلك، تكتشف كاميليا حقيقة عَمَّتها عبر قراءة مذكراتها واستجلاء المسكوت عنه من سيرتها. تتسلل إلى نفس الشرفة الصغيرة التي لطالما رقدَت فيها العَمَّة؛ شرفة تتسع بالكاد لجسمٍ ممدد فوق أرضيتها، لا مدخل لها إلا الشباك المعلَّق نصفه في الهواء. إنها الرحم الذي وُلدَت من داخله حريةُ العَمَّة وتَوْقُها إلى التحرر، رحمٌ مُعلَّقٌ في السماء مفتوحٌ عليها، يمنح آهِلَه عُزلةً تامة عن محيطه.

بداخل هذه الشرفة / الرحم، تجد كاميليا الصغيرة مذكرات العَمَّة، وتتعرَّف ما فيها من أوجاع؛ إنها الأوجاع الغامضة، التي لا تجد المرأة سبيلًا إلى البوح بها على نطاق واسع، ما يتبدَّى واضحًا في الفارق بين مقالات كاميليا الكبيرة في مجلة نصف الدنيا، والمذكرات التي لم تجد مجالًا لنشرها خارج جدران قلبها والشرفة الصغيرة، التي استمرت تحشر نفسها بداخلها هربًا من ضغوط العالم، حتى أنزلَت على نفسها عقوبة الاختفاء.

تكتشف كاميليا الصغيرة قصة عمتها الجميلة التوَّاقة إلى التحرر، التي تمسكَت بملكيتها لجسدها وحياتها ونجاحها المهني، فانفتحَت على أجواء قاهرة التسعينيات، واندمجَت في أوساطها الثقافية، فعملَت بالصحافة، وأوجدَت لاسمها مكانًا في كبرى المجلات والإصدارات، ثُمَّ أحبَّت رسامًا وقررت أن تهبه العشق رغم معانَدة الظروف. تكتشف كاميليا كيف دفعَت عمتها الثمن باهظًا لجمالها المُغوي؛ كيف تآمرَت عليها نادية - أم كاميليا الصغيرة - نكايةً في فتنتها المغرورة المستفِزة، التي منحتها سيادةً غير مستحَقة على البيت، وكيف صدَّق الزملاء والزميلات فيها مزاعم السوء تَشَفِّيًا في جاذبيتها ودلالها الوظيفي، كيف مارس أخوها ناصر - أبو كاميليا الصغيرة - سطوته حالما حانت الفرصة، ليثأر لنفسه من فتنة أخته التي كانت سببًا في تدليلها الزائد من أبيهما، وفي نجاحها غير المستحَق في نفس الأوساط التي أغلقَت أمامه الباب.

إنه الجمال الذي يميز المرأة عن قريناتها، فيستعدي عليها الرجال والنساء على السواء؛ فكلُّ نجاحٍ فوزٌ غير مستحَق، وكُلُّ عشقٍ مَحْضُ إغواء ورغبة في الاستحواذ؛ الجاذبية قلة احتشام، والحرية عبث بالأصول. الجمال الذي انقلب سحره على كاميليا الكبيرة، وجَرَّها إلى زواج تقليدي أودى بحياتها وقضى على مستقبلها، فاستمرت تلوك ماضيها وتَجْتَرُّه عبر التصوير والكتابة، في محاولة لإيقاف الزمن كيلا يقضي على القليل الباقي منها. إنه ذات الجمال الذي كاد يُودي بكاميليا الصغيرة كما فعل مع عمتها، فقد ظهر مُبكرًا تَوْقُها إلى التحرر وكسر القيود، فهربَت مع صديقها، ونالَت عقوبة فورية من أبيها، ربما كانت أكثر رحمةً مما نالَته عمتها على يد عشيقها الرسام. ولولا اكتشافها لضريبة العشق - عبر قراءة مذكرات عمتها- لربما لاقَت الصغيرة مصيرًا أسوأ؛ فالعشق ليس جسرًا يعبر بها إلى حريتها، بل إنه عربة ترحيلات تنتقل بها من سجن إلى سجن، والأخير مَنْفًى أبديٌّ لا أمل في الرجوع منه.

وخلال رحلة البحث هذه، تُبقي كاميليا الصغيرة عينيها مفتوحتين على المرآة، تلك البوابة التي ابتلعَت عمتها ذات يوم ولم تُعِدْها، حتى تحين لحظة اكتمال الصورة واكتشاف الذات قُرب نهاية الرواية، فتنغلق البوابة تمامًا، ولا ينعكس فوق سطح المرآة إلَّا صورة كاميليا ذاتها. تتحرَّر أخيرًا من طيف عمتها، ولا يبقى للطيف أثرٌ إلَّا صورة العمة المُعلَّقة على الحائط، تلك التي تنظر إلى كاميليا بثبات أكبر وابتسامة أكثر اتساعًا، فرحًا باكتشافها، لتدفعها نحو المُضي أبعد وأبعد، في طريق التحرُّر والاستقلالية واكتشاف الذات.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020