الجمعة 28 يونيو 2024

"مراسل حربي".. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

فن18-10-2020 | 17:26

تنشر "الهلال اليوم"، فصلًا من كتاب "هيكل المذكرات المخفية"، للصحفي والإعلامي الدكتور محمد الباز.

الفصل بعنوان "مراسل حربي.. صحفى يبحث عن طريقه"، وجاء فيه:

قضيت فترة التكوين المهنى الأولى فى عالم الصحافة خلال العامين 1942 و1943، فى جريدة " الإجبيشيان جازيت، التى كانت وقتها أكبر الصحف الأجنبية التى تصدر فى مصر عن شركة الإعلانات الشرقية التى تملكها أسرة "فينى".

دخلت " الإجبيشيان جازيت" عبر فرصة أتاحها لى ولثلاثة غيرى من الشباب الناشئ واحد من خيرة محرريها، وهو " سكوت واطسون"، عندما كنا بين الجالسين أمامه فى محاضرة  وهو أستاذ " مادة الأخبار" عن " عناصر الخبر"، وإذا به يأخذنا من موضوع محاضرته إلى ذكرياته أيام كان مراسلا فى الحرب الأهلية الإسبانية، كنا نستمع إليه فى انبهار وشبه خشوع، فقد طاف بنا فيما يشبه الملحمة بين تضاريس ومعالم تلك الحرب التى انقسمت أوربا بسببها بين الفاشية والديمقراطية.

طوال المحاضرة التى كان يتحدث فيها واطسون عن العمل الصحفى فى الميدان، كنت أهتف بكل ما فى نفسى: هذا ما أريد أن أكونه.

كانت الصحافة إلى ذلك الوقت – أواخر الحرب العالمية الثانية – إما أخبارا يجمعها المندوبون، وإما مقالات يكتبها كتاب، أو تعليقات على الأخبار أو الأحداث يكتبها كبار الصحفيين.

كان الخبر هو الذى ينتقل إلى الصحفى فى جريدته أو مكتبه أما أن ينتقل الصحفى إلى مكان الخبر أو الحوداث ليرى ويدرس ويجمع المعلومات ثم يكتبها فى تحقيق صحفى لجريدته، فنوع من الصحافة لم يكن قد عرف بعد، وهكذا حددت هدفى منذ البداية.

ختم واطسون محاضرته، ثم دعا من يريد منا أن يتدرب عمليا فى " الإجبيسيان جازيت" أن يلقوه فى اليوم التالى بمكتبه.

كنت أعرف أن كثيرين  من مشاهير الصحافة والأدب فى العالم، عملوا فى الصحافة المصرية الصادرة باللغات الأجنبية، أو عملوا كمراسلين لكبريات الصحف العالمية فى مصر وقت أحداث الحرب العالمية الثانية.

وقد لا تعلم الأجيال المتعاقبة فى الصحافة أن الروائى الإنجليزى جوروج أوريل، والروائى الأمريكى إرنست هيمنجواى، والروائى الإنجليزى لورانس دوريل كتبوا فى صحيفة " الإجبيشيان جازيت" زمن الحرب العالمية الثانية، بل إن دوريل وكورى عملوا فى الصحيفة نفسها، فقد كانت القاهرة فى ذلك الوقت أهم مركز بريطانى لقيادة الحرب العالمية الثانية.

قبل أن يصل " واطسون إلى مكتبه فى اليوم التالى كنا أربعة – ميخائيل فلتس وإكرام عبد المجيد ويوسف صباغ وأنا - قد سبقناه إليه ننتظر.

وجدت نفسى من اللحظة الأولى فى جو الصحافة العملية، أعمل بين رجلين كان لهما تأثير واضح على نشاتى الصحفية الأولى.

"سكوت واطسون" الذى كان إلى جانب كفاءته المهنية مثقفا يساريا صاغته الحرب الأهلية فى إسبانيا بكل عناصرها الفكرية والإنسانية العظيمة.

و"هارولد إيرل" الذى كان رئيسا لتحرير " الجازيت" وكان صحفيا كلاسيكيا قديرا يعمل فى نفس الوقت مراسلا لجريدة "المانشستر جارديان" فى مصر.

بدأت مساعد مخبر صحفى فى قسم الحوادث وظللت فيه قرابة سنة.

ذات يوم – خلال هذه السنة -  علمت أن هناك مشاجرة تدور فى مكان ما من القاهرة، وأسرعت إلى مكان الحادث الذى يتلخص فى أن جندى بوليس ضبط  لصا ولما حاول أن يقبض عليه أسرع اللص وجرى فأطلق الجندى عليه رصاصة أرهبته فسلم نفسه.

كان هذا هو كل شئ بالنسبة للقصة نفسها، ولكن هل هناك ما يحتم أن يكون هذا هو كل شئ بالنسبة لى، أعملت الفكر أو قل الخيال، فإذا هذه الحادثة البسيطة تتحول إلى معركة عنيفة بين اللصوص وبين البوليس، تطلق فيها مئات الطلقات ويقع أثناءها عشرات الضحايا، تماما كما يحدث فى شيكاغو.

ظهرت الحادثة بهذا الشكل فى الجريدة، وفى اليوم التالى ذهبت إلى مكتبى أتلقى أكاليل الغار، فإذا بى أجد جنديا ينتظرنى، جنديا أوفد من المحافظة خصيصا ليصحب الكاتب الفاضل إلى المحافظة، وهناك تلقانى وكيل الحكمدار ووجه إلى تهمة كانت أبعد ما تكون عن خاطرى "تهمة الخيانة العظمى"، أما الأسباب فهى أننى أنشر صورا بعيدة عن الحقائق تسيئ إلى سمعة الأمن وتشكك فى استقرار قواعد الطمأنينة وتعطى العالم الخارجى كله صورا مشوهة عن مصر.

حاولت أن أثبت أننى أول من يحرص على سمعة الأمن وعلى سمعة ا لطمأنينة وعلى سمعة الوطن ولكن بلا فائدة.

وأحلت إلى ضابط اتصال إنجليزى اسمه الكابتن مورلى ليحقق معى.

بدأت ساعات طويلة من التحقيق، وبين كل سؤال ووسط  كل إجابة يضرب الكابتن مورلى بيده المائدة ويقول بالعربية المكسرة: "لازمتو خمسة سنين خبس".

 ولم يخرجنى من هذا المأزق إلا وعد ضمننى فيه ولى أمرى أن أطلق الصحافة طلاقا بائنا ، فلم أعد إليها إلا بمحلل.

خلال فترة التدريب نفسها وذات يوم جاءنى سكرتير تحرير الجريدة وقال لى أن الحكومة تفكر فى إلغاء البغاء الرسمى، وأن الجرائد كلها تكتب فى هذا الموضوع دون أن تحاول واحدة منها أن تأخذ رأى أصحاب الشأن الأول وهم البغايا أنفسهن.

طلب منى يومها أن أقوم بسؤال مائة بغى عن رأيهن فى الموضوع، قائلا أنه سيكون دليلا على مقدرتى الصحفية إذا تمكنت من استفتاء مائة بغى، وكانت مهمة شاقة ولكن المسألة كانت مسألة امتحان.

ذهبت إلى ذلك الحى، الحى الذى تستطيع أن تشترى فيه كل شئ، ودخلت أول بيت وأنا أفكر فى الصيغة التى ألقى بها السؤال، ولكن يبدو أننى لم أوفق فى اختيار الصيغة لأننى خرجت من البيت الأول مشيعا بسباب وصل إلى أجدادى حتى عهد الملك مينا.

 حاولت وحاولت، ولكن على غير فائدة، وأخيرا أدركت عقم المحاولة وبدأت أفكر بهدوء وأحسست أن ثقتى قد بدأت تفارقنى، والتفت فإذا مقهى قريب منى فذهبت إليه أستريح ولأفكر.

 أثناء جلوسى لاحظت وجودى سيدة متقدمة فى السن كان جميع من فى المقهى ينادونها ب" المعلمة" باحترام قل أن يكون له مثيل، وثبتت فى ذهنى فكرة فتقدمت من السيدة وشرحت لها كل مهمتى وأثبت لها أن مستقبلى كله يتوقف على معاونتها لى وفكرت السيدة قليلا ثم قالت: اقعد.

قعدت فنادت بعض النساء وعقد الجميع مؤتمرا لبحث المسألة وجلست أنتظر النتيجة، وفجأة صاحت إحداهن: نادوا عباس.

مرت فترة ثم حضر شاب سمع المسألة ثم تقدم منى قائلا: معاك " كارنيه".

لم يكن معى كارنيه ولا خلافه.

 لم يقتنع عباس.

ولكن المعلمة اقتنعت قائلة: ده باين عليه ابن ناس.

 هززت رأسى مؤكد أننى ابن ناس جدا، فبدأت ترسل فى طلب النساء من المنازل المجاورة حتى أتاحت لى الفرصة أن أسأل مائة إمراة وأنا جالس فى مكانى أشرب القهوة على حساب المعلمة.

(2)

بعد قرابة سنة جاءنا " هارولد إيرل" باقتراح مثير، دعانا إلى مكتبه يوما – نحن الشبان الأربعة – وقال لنا إن هناك حربا تجرى على الأرض فى مصر، ومع ذلك فإن أحدا لم يصفها بعين مصرية ولم يكتبها أحد بقلم مصرى.

سألنا: هل فينا من هو مستعد للمخاطرة فى تجربة جديدة وعلى مسئوليته وحدها؟

تحمست للتجربة، ولعلنى فى ذلك كنت متأثرا بإعجابى ب" واطسون" وتجربته فى الحرب الأهلية، وكان ماثلا أمامى كذلك، ما سمعته من مراسل الجارديان فى القاهرة.

 كان يرى ضرورة أن يعمل الصحفى فى بداية حياته بقسم الجريمة أو الحوادث ليتعرف على خبايا النفس البشرية، وعليه أيضا أن يعمل مراسلا عسكريا ليكتشف كيف تلجأ الشعوب إلى الحرب عندما لا تجد حلولا لمشاكلها.

قبل أن أمضى تعلمت الدرس الأول والأهم فى حياتى المهنية من إيرل.

 قال: لا ترسل أخبارا، حاول أن تستقصيها وتكتشف خباياها بقدر ما تستطيع، لا نتوقع منك أن تنافس مراسلى الصحف والوكالات الدولية، الظروف لن تمكنك من أن ترسل ما تحصل عليه فى برقيات، والحل الوحيد أمامك، وهذا ما نطلبه منك ونكلفك به، أن تدون ملاحظاتك على ما ترى فى ميادين الحرب وسير معاركها، وأن تضبط  صياغاتها من دون أن تفقدها حيويتها وطزاجتها التى كانت عليها، فالمادة المكتوبة على صياغتها الأولى فى وقتها أكثر حياة مما يكتب بعدها. 

بعد شهر وجدتنى فى العلمين شاهدا مصريا على الحرب العظمى الثانية، واعترف أن تجربة العمل كمراسل حربى استهوتنى.

الحرب تعلم الصحفى الكتابة اليومية وتسجيل ما يجى برؤيته الشخصية، إن الأحداث تنقلها وكالات الأنباء وتحدد الرقابة العسكرية ما ينشر منها وما لا ينشر، ومن ثم فالفرق بين صحفى وصحفى فى تغطية الحرب هو الرؤية الشخصية، إن الحرب أحدثت ثورة فى التغطية الصحفية، خلقت ما يمكن وصفه بصحافة المأساة، حيث الإنسان فيها أهم من الحدث أو الخبر، الإنسان هو البداية والنهاية.

 لقد حولت الحرب بعض الصحفيين إلى أدباء، أصبحت كتاباتهم فيها روح، فيها الإجابة على السؤال الصعب : كيف تمسك باللحظة؟ وهو ما فرق بينى وبين جيلى، وفى الوقت نفسه أثرت الصحافة من تجارب بعض الأدباء الذين عاشوا الحرب وكتبوا عنها مثل "أندريه مالرو" الذى كتب عن سقوط باريس، على أن أهم ما خرجت به من التجربة هى أننى أصبحت أدون يوميا كل ما يمر بى، وأصبحت هذه العادة واحدة من أشهر عاداتى المعروفة.

الأجيال التى سبقت جيلنا لم يكن مفروضا عليها أن تختار، أوبمعنى أدق وأصح فإن مجالات الإختيار لم تكن واسعة أمامها، إن العالم بالنسبة لمصر قبل الحرب وأثناءها كان مختزلا فى علاقة سياسية ثنائية مع بريطانيا، وميلا ثقافيا نحو فرنسا، وكان النظام السياسى الاقتصادى الاجتماعى الفكرى نظاما تابعا بمنطق الأشياء وحقائقها.

لم يكن هناك غير بديلين اثنين: إما الإلتحاق بالصف المعادى للاستعمار أو بالصف الموالى له، وحتى هذه الصفوف لم تكن محددة وإنما كانت ملتبسة، وقد زاد الإلتباس بضرورات الحرب ضد المحور وأصبحت مناصرة القوة المحتلة وهى بريطانيا فى الحرب ضد النازية اضطرارا لا مهرب منه غير الوقوع فى شرك تأييد النازية تحت توهم مقاومة الاحتلال.

كانت حدود الاهتمامات السياسية والصحفية خارج العلاقة الثنائية مع بريطانيا قاصرة على تغطية الساحات الخلفية للقصر الملكى وللسلطة التى تمثل قمة المجتمع ومعظمها من غير المصريين أو نصف المصريين، وأما بعيدا عن السياسة فلم تكن غير ثرثرات الطبقة الراقية كما كانوا يسمونها، إلى جانب كواليس المسارح وربما الصالات والكباريهات.

وبالطبع كانت هناك إيماءات هنا وهناك تشير إلى اتجاهات أخرى، لكن هذه الإيماءات ظلت محدودة فى تأثيرها، وربما استطاعت أن تظهر أكثر فى مجال الفكر السياسى البحت، دون أن ينعكس تأثيراتها بقدر كاف على الصحافة المصرية.

والذى حدث أن الحرب العالمية الثانية جاءت معها وفى أعقابها بأفكار كان من أثرها أن سقطت أسباب الثنائية الحاكمة، وأصبحت مصر والحياة فيها مفتوحة لعشرات الاحتمالات، وهنا برزت إمكانية الاختيار وأصبح على جيلنا أن يمارس ضرورة الإختيار، وقد اختار جيلنا بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة من الحماسة إلى هذه الفكرة أو تلك أو الاختلاف مع هذا التصور أو ذاك.

فى هذه المرحلة كانت الحقبة الوطنية والقومية فى العالم العربى بكل أولوياتها، وهى مقاومة الاستعمار، والاستقلال الوطنى، الوحدة العربية، التصدى للمخططات الإمبريالية والصهيونية، عدم الإنحياز، إعادة البناء الاقتصادى مع التركيز على التصنيع، إعادة التركيب الإجتماعى مع التركيز على ملكية الأرض، السعى نحو حراك إجتماعى يقوم على أسس متساوية فى التعليم وفى العمل وفى الصحة وفى السلطة.

لا أقول إن ذلك تحقق كله أو معظمه، وإنما أقول أن تلك كانت رؤوس الموضوعات التى تحولت إلى قائمة بدول أعمال المرحلة، وهى مرحلة كان حق الاختيار فيها مفتوحا لأول مرة داخل بلد تحقق اتصاله بعالمه الأوسع وأصبح جزءا من حركته بغير عزلة أو حدود مغلقة.

عندما تذهب كمراسل حربى فأنت لن تواجه الحرب فقط.

منحتنى هذه الفترة خبرة بلا حدود وتجارب أفادتنى فى مسيرتى الصحفية كلها.

عندما ذهبت إلى اليونان لتغطية حرب البلقان كان معى المصور محمد يوسف، والذى أبدى دهشته لأنه وجد معى أربعة أو خمسة كتب عن مشكلة البلقان وعن اليونان، وعن الصراع التركى اليونانى والنزاع فى البلقان.

الحرب تحتاج إلى أن تجيد قراءتها، فكيف تقرؤها وأنت غريب عنها، وتغيب عنك المعلومات الأساسية عن أطرافها، وعن الأسباب التى أدت إليها، وأذكر أن محمد يوسف كان يتعمد إخفاء هذه الكتب عنى حتى لا أسهر طول الليل أقرأ فيها وأذاكرها مما يجعله لا ينام هو الآخر.

فى الحروب وقبل أن تتعرض للمخاطر عليك أن ترى ملامح المشهد بشكل كلى، لأنك لو تعاملت مع الحرب على أنها مجرد "عركة" فسوف تخطئ خطأ فادحا، فالحرب ليست مجرد نيران ومدافع، ولكن الأهم هو ما الذى يحدث خلف هذه النيران.

ونحن نغطى حرب البلقان من اليونان كنا نسير فى ثلاث سيارات جيب بين جبلين.

 كنت فى السيارة الأولى مع بعض مراقبى الأمم المتحدة.

 وفى السيارة الثانية بعض مراقبى الأمم المتحدة.

 وفى السيارة الثالثة المصور محمد يوسف مع بعض المرافقين.

كانت قذائف الهاون تنهال من حولنا، وفجأة انفجرت السيارة الثانية بعد اصطدامها بأحد الألغام، وشاهد محمد يوسف ما حدث لمن فيها، ولو أن الحرب مجرد مغامرة لرفض يوسف تكملة الرحلة المرعبة، ورغم انفعال محمد يوسف الشديد فإنه دخل معنا تحت سيارة لورى لنختبئ من قذائف الهاون.

كانت السيارة محروقة من آثار المعارك، وما حدث لنا رغم صعوبته وما يحمله من رعب فإنه ليس الحرب، ولكن الحرب بمعناها الشامل يجب أن تنظر إليها من خلال الأبعاد السياسية والاستراتيجية التى تكمن خلف هذه الحرب، فالحرب ليست مجرد ضرب نار ولكنها قوى ومصالح تتصارع وتيارات عالمية تتصادم، وهنا تكمن الاستفادة من تجربة الحرب، فأحداث العالم الساخنة والمتفجرة لا تسمح بالالتفات بعيدا عنها.

كانت هناك أيضا عناصر كثيرة فى عملى كمراسل حربى ساعدتنى مهنيا وسياسيا، فقد قابلت كل رؤساء تحرير الصحف العالمية وكانوا وقتها شبانا مخبرين فى مواقع العمل، وكبرنا كلنا معا، وأصبح لكل واحد منه موقعه.

بعد سنوات طويلة وعندما طلب منى رئيس تحرير التايمز أن يقابل جمال عبد الناصر كان من الطبيعى أن أساعده، وعندما كنت أسافر إلى لندن وأطلب منه أن يساعدنى فى مقابلة ماكملان، فمن الطبيعى أن يستجيب، فأنت فى هذه الحالة تعيش حوادث وبالتالى تتصل بكل ما يجرى.

اكتملت التجرب بالنسبة لى، فأثناء عملى فى قسم الحوادث بدت لى الجريمة وكأنها ذروة المأساة الإنسانية على مستوى الفرد، فعندما يعجز شخص عن حل تناقضاته مع الآخرين بالفعل فإنه يلجأ إلى العنف، وأثناء عملى مراسلا حربيا بدت لى الحرب وكأنها ذروة المأساة الإنسانية على مستوى الشعوب والأمم، فعندما يعجز مجتمع عن إدارة صراعاته بالعقل مع مجتمعات أخرى غيره يلجأ إلى القوة.

(3)

تعلمت من "هارولد إيرل" الكثير.

ذات يوم كان مقررا أن ألتقى مصطفى النحاس زعيم الوفد وزعيم الأمة ورئيس الحكومة، وبدا على الارتباك من فكرة اللقاء فى حد ذاتها، وجدت إيرل ينهرنى ويوجه لى نظرة مخيفة بعين فيها حول، قال: أنت تمثل جريدة تطبع عشرات الآلاف من النسخ، وتأثيرها نافذ فى مجتمع النخبة المصرية، لابد أن تدرك منذ الآن أن الصحفى ند لرئيس الحكومة.

وقبل أن أمضى من الجازيت سمعته وهو يقول لى: عليك أن تدرس موضوعك قبل أن تسأل مصادرك، لأنه إذا أكتشفت هذه المصادر أنك لا تعرف موضوعك فلن تقول لك شيئا جديدا.

ذات يوم دخلت مكتب رئيس التحرير " هارولد إيرل" لشأن من شئون عملى، وكان عنده زائر قدمنى إليه: الأستاذ محمد التابعى صاحب مجلة آخر ساعة ورئيس تحريرها.

بدا لى أن الأستاذ التابعى قد تابع بعض نشاطى أو أن " هارولد إيرل" قد حدثه عنه، وكان الأستاذ التابعى رقيقا معى ومجاملا.

فى اليوم التالى اتصل بى يدعونى إلى لقاء معه.... وذهبت.

سألنى الأستاذ التابعى: كيف ترى مستقبلك؟

كان السؤال مفاجئا، فلقد كنت أتصور أن عملى فى " الجازيت" يكفينى، ولكن الأستاذ التابعى كان له رأى مختلف.

قال: مهما فعلت فى الجازيت فإن المستقبل محصور وضيق، فهى جريدة تصدر فى مصر بلغة أجنبية، ثم إن توزيعها بعد الحرب سوف يتقلص بالطبيعة، ويعود إلى بضعة آلاف بدلا من عشرات الألوف.

وقبل أن أرد عليه أضاف الأستاذ التابعى: صحفى مصرى مجاله فى الصحافة المصرية باللغة العربية وبقرائه فيها... هذا هو المستقبل.

وهكذا انتقلت من " الجازيت" إلى " آخر ساعة".

لم يكن الأمر سهلا.

ففى حين أن رئيسى الأول "هارولد إيرل" رأى أن الجريمة والحرب هما مجال التكوين الأصلح والأمثل للصحفى.

 فإن رئيسى الثانى محمد التابعى كان يرى أن المسرح والبرلمان هما المجال الأنسب والأوفق.

لم يكن الأستاذ التابعى وحده هو صاحب هذه النظرة فى أن يبدأ الصحفى حياته من المسرح والبرلمان، كان الدكتور محمود عزمى أيضا يملك تلك النظرة، فقد كان يرى أن الصحفى فى بداية حياته عليه أن يعمل بقسم الفن ليتعرف على تفاصيل الحياة، ولكن بصورة مصغرة، ثم عليه أن يعمل فى قسم البرلمان ليتعرف على أسرار وخيايا الحياة السياسية.

لعدة أسابيع وجدت نفسى فى كواليس مسارح القاهرة بدلا من ميادين القتال.

ولا يعرف كثيرون أننى ارتبطت بعلاقة صداقة قوية مع الفنان نجيب الريحانى.

كنت أجلس معه فى الكواليس، وبعد نهاية العرض كنت أركب معه الحنطور ونذهب لنجلس على المقهى، وذات ليلة وبعد مناقشات طويلة، قال لى: ماذا تفعل فى هذا الوسط؟...  " مكانك مش هنا".

فكرت فيما قاله لى نجيب الريحانى.

 أعدت التفكير فيما قاله الدكتور محمود عزمى.

 وأعتقد أنه لم يكن يقصد بالفن مجرد المسرح فقط، ولكن الأدب والفكر والثقافة بشكل عام، ومن حسن حظى أنى طبقت النظريتين، فقد عملت مراسلا حربيا كما عملت بالفن.

دفعتنى كلمات نجيب الريحانى وما قاله الأستاذ التابعى من ضرورة أن أكون فى شرفة مجلس النواب أن أذهب إلى هناك، وقد أتاح لى مقعد "آخر ساعة" فى شرفة المجلس أن أقترب من أجواء السياسة المصرية.

كانت أول تجربة لى فى البرلمان عندما قمت بتغطية استجواب " الكتاب الأسود" من شرفة الصحافة فى مجلس النواب، جلست بين اثنين من كبار الصحفيين المصريين الأستاذ كامل الشناوى مندوب الأهرام، والسيدة روزاليوسف التى جاءت تتابع الإستجواب .

يومها تقدم أحد نواب حزب الوفد بسؤال إلى وزير المعارف نجيب الهلالى باشا عن عملية صنع أثاث فى مدرسة الفنون التطبيقية لبيت أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى، لم يسدد ثمن ما طلبه رغم أنه استلمه، وقام الهلالى يرد على السؤال، والحقيقة أنه ثبت التهمة وتركها معلقة فوق رأس حسنين.

علق الأستاذ كمال الشناوى بأن التحدى الوفدى للقصر قد خرج سافرا وأصبح مخاطرة على أرض مجهولة.

بع دظهر اليوم التالى عدت إلى مقعدى فى شرفة الصحافة، وأمسكت بنسخة من مضبطة اجتماع المجلس بالأمس، ورحت أقرأها، وتعجبت فقد وجدتها خالية من أى ذكر لما رأيته وسمعته بالأمس فقط.

لاحظ الأستاذ الشناوى أننى أقلب فى الصفحات وأعيد تقلبيها.

قال لى: لن تجد شيئا لأنه كله حذف من المضبطة وسوف ترى وتسمع الآن عجبا.

عرفت أن المستشار الشرقى للسفارة البريطانية السير والتر سمارت جاء إلى مجلس النواب قبل منتصف الليل، وقابل عبد السلام فهمى جمعة باشا رئيس المجلس، الذى استدعى من بيته يتلقى منه ما لديه، ومؤداه أن السفارة البريطانية ترى أن ما دار من مناقشات بالأمس يمثل استفزازا لملك البلاد يستحيل قبوله بالنسبة للسفارة البريطانية وسفيرها، والقرار أنه لابد من اعتذار علنى عنه.

اتصل رئيس المجلس برئيس الوزراء، يوقظه من نومه وفهم مصطفى النحاس باشا أن السفارة البريطاينة تلوح باستعدادها لرفع يدها، تاركة الملك يرد العدوان على رئيس ديوانه بالطريقة التى يراها مناسبة، وبعد اتصالات تدخل فيها أمين عثمان باشا ودخل فيها فؤاد سراج الدين باشا أمكن التوصل إلى حل وسط يكون بمثابة اعتذار صامت من الوفد، حزبا وحكومة، وهذا الحل الوسط حذف كل ما دار بشأن رئيس الديوان الملكى من مضطبة المجلس وتم ذلك وطبعت المضبطة وكأن شيئا لم يكن.

استعرضت كل ما جرى أمامى وما عرفته وقلت يومها: انتهى الموضوع ولم يعترض أحد... هل هذه هى الديمقراطية؟ 

(4)

كانت تجربة العمل مع الأستاذ التابعى ممتعة، وأشهد أنى تعملت منه الكثير، ولقد وجدتنى شديد الإعجاب بأسلوبه الحلو السلس، وكانت تلك الفترة مهنيا فترة العثور على توازن معقول بين ثلاثة تأثيرات واضحة تجاذبتنى.

عقلانية " هارولد إيرل".

رومانسية " سكوت واطسون".

حلاوة أسلوب " محمد التابعى" .

عندما دخلت آخر ساعة كانت المجلة " وفدية" وفى أجوائها وجدت نفسى بحكم طبيعة المصادر المتاحة أقرب إلى الوفد، مع إحساس غالب بأن ذلك مجرد تأثير مناخ.

فى 8 أكتوبر 1944 خرج الوفد من الحكم، وأصبحت " آخر ساعة" فى المعارضة أمام حكومة ائتلاف أحزاب الأقلية التى شكلها الدكتور أحمد ماهر باشا – رئيس حزب السعديين – تحت جناح القصر.

بعد شهر واحد من إقالة النحاس وخروج الوفد من الحكم صدرت مجلة " أخبار اليوم"، وكان صدورها حدثا صحفيا ضخما، وكذلك كان حدثا سياسيا، ولقد كان واضحا أن النجاح الفورى الذى حققته مجلة أخبار اليوم يرجع إلى عاملين.

أولهما سلسلة المقالات المثيرة التى راح الأستاذ مصطفى أمين لعدة شهور يكتبها تحت عنوان عام هو" لماذا  ساءت العلاقات بين القصر والوفد؟"، وكانت مقالات حافلة بالأسرار والحكايات والقصص ومشوقة إلى حد كبير.

 وثانيها والفضل فيه للأستاذ على أمين، أن شكل أخبار اليوم وترتيبها بدا جديدا أمام القارئ المصرى، ومع أنه كان استيحاء مباشرا لشكل وترتيب جريدة " الصنداى إكسبريس" البريطانية إلا أن القارئ المصرى رحب به وارتاح له.

فى كل الأحوال فأن أخبار اليوم أصبحت المدفعية الثقيلة الموجهة إلى الوفد تدك مواقعه دكا عنيفا صباح كل سبت، وكان الوفد فى موقف لا يحسد عليه، مطرود من الحكم بالإقالة، ومحاصر تحت دك المدفعية الثقيلة لأخبار اليوم.

ويبدو لى أن هذا بعض ما حفز الأستاذ التابعى فى ذلك الوقت إلى محاولة أخيرة لتطوير " آخر ساعة" حتى تستطيع أن تقف مع الوفد فى وجه المدفعية الثقيلة الجديدة، وربماكانت هناك أسباب أخرى منها أن التابعى كان يعتبر نفسه أستاذا لمصطفى وعلى أمين، وربما شق عليه معنويا أن يرى مجلة أسبوعية سياسية جديدة يصدرانها تسبق مجلته وتفوقها بكثير من نواح عدة.

ومع أنى كنت قد أصبحت سكرتير تحرير آخر ساعة، فإن عملية التطوير الجديدة تولاها التابعى بنفسه، وظلت معظم بنودها فى رأسه ينفذها واحدا بعد واحد، ولقد كانت لى آراء وملاحظات، لكن التابعى كان بعواطفه كلها مندفعا إلى ما يراه، ومن سوء الحظ أن التجربة لم تنجح، وفوق ذلك فإن مصروفات آخر ساعة بحكم وجوه الإنفاق على مشروع التطوير، زادت بأكثر من توقعات التابعى، إلى جانب أن الشحنة العاطفية التى دفعت محاولة التطوير كانت قد استنفدت نفسها، وهكذا قرر التابعى – ربما فى نوبة ملل أو نوبة يأس – أن الوقت قد حان ليرفع عن كاهله أعباء ملكية مجلته.

(5)

فى بداياتى  فى "آخر ساعة" وكنت قد بدات الكتابة باللغة العربية، كتبت مقالة أعتقدت أنها كانت عادية، وقد اتصل الناس ب "محمد حسين هيكل" باشا وهنأوه على المقالة، فأرسل هيكل باشا مدير مكتبه سيد نوفل، وطلب منى أحد اقتراحين.

إما أن أغير اسمى أو أوقع باسم هيكل الصغير.

ورفضت الاقتراحين، فأنا لا يمكن أن أغير اسمى ولا أحب أن أوقع "زى نجاة الصغيرة"، وتوالت كمية المشاكل التى سببتها لهيكل باشا.

بعد سنوات وفى يوم السبت 8 يونيو 1946 وبعد أن انتقلت إلى أخبار اليوم عقد مؤتمر بلودان، فى فندق بلودان الكبيروهو فى مصيف بلودان القرية السويسرية الحلوة النائمة على قمة جبل تفترش سفوحه أشجار التفاح.

كان يرأس الوفد المصرى فى المؤتمر الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ.

وكنت مشاركا كمراسل صحفى أغطى المؤتمر، وقد وصلت قبل الجميع، ونشرت الصحف خبرا عن وصول هيكل باشا دون التدقيق بين حسين وحسنين، وبدأت السفارة المصرية والرئاسة بالتحرك، وسارع الفندق بتغيير غرفتى ونقلى إلى الجناح الخاص بهيكل باشا، وحضر السفير المصرى برفقة عبد الرازق السنهورى لتحية هيكل باشا الذى وصل فجأة دون أن يخبر أيا منهما، لكنهما فوجئا بى أنا الذى وفدت إلى بهو الفندق وليس هيكل باشا.

أوضحت لهما اللبس الذى حدث، ثم ذهبنا نحن الثلاثة لإستقبال هيكل باشا فى المطار.

(6)

دون أن أعرف دارت مفاوضات لبيع آخر ساعة إلى أصحاب أخبار اليوم.

دعانى التابعى ذات يوم فى بداية سنة 1946 ليقول لى الأسرار كلها مرة واحدة، لقد قرر أن يبيع آخر ساعة، وقد اتفق على بيعها فعلا، والمشترى الجديد هو أخبار اليوم.

حتى هذا الوقت كانت العلاقة بين الأستاذ التابعى وبينى قد أصبحت علاقة حميمة، وكنت فيما أظن أقرب تلاميذه إليه، ولعلى كنت آخرهم، وكان شديد التقدير لعملى، ثم إنه كان يعتبرنى اكتشافا قام به هو شخصيا، وكانت هذه العلاقة تسمح لى أن أتحدث إليه بغير حواجز، وأحسب أنه دهش لموقفى صباح ذلك اليوم الذى أفضى فيه إلى بكل الأسرار مرة واحدة.

 ربما كان يتوقع منى رأيا مخالفا لتصرفه أو عتابا لأنه لم يطلعنى على ما فعل فى حينه، ولم يكن ذلك موقفى، فقد كنت أحس بأزمة الرجل نفسيا وماديا، وأدركت فى لحظة أنه لم يكن ليصل إلى هذا القرار إلا وقد ضاقت به السبل على الأقل فى إطار ما رآه.

قلت له فيما معناه: إننى مع أسفى لإنتقال ملكية " آخر ساعة" منه إلى غيره، إلا أننى أستطيع فهم دواعيه وما دام الإتفاق قد تم وانتهى أمره، فلا فائدة من اجترار الكلام، وإنما المهم أن يتم الانتقال بالطريقة اللائقة.

كانت هناك مفآجات أخرى، قال لى الأستاذ التابعى: إنهم يريدون أن أعمل معهم... أكتب مقالا أسبوعيا فى أخبار اليوم.

ولم تكن هذه هى نهاية المفاجآت، فقد أضاف: وهم يطلبونك أيضا... لقد أصروا عليك بالتحديد.

لم أملك نفسى لحظتها من أن أسأله عن نوع الاتفاق الذى عقده، وما إذا كان من نوع عقود الإقطاع الروسى قبل الثورة، حينما كانت الأرض تباع بما عليها ومن عليها؟

ندمت على هذه اللحظة، فقد أحسست أننى أحرجته، ولقد تغلب على الحرج بسرعة، وقال: إنهم لا يريدون من كل طاقم آخر ساعة إلا أربعة بالتحديد، هو وأنا وصاروخان والدكتور سعيد عبده.

قلت له إننى أريد أن أفكر فى المسألة كلها ثم نعود لاستئناف الحديث فيما بعد.

المفارقة أنه فى مساء نفس اليوم اتصل بى الأستاذ إميل زيدان أحد صاحبى دار الهلال، ودعانى للقائه، وإذ هو يعرض على رئاسة تحرير مجلة " الاثنين"، وكانت مجلة سياسية تصدرها الهلال، وفيما سبق كان رئيس تحريرها هو الأستاذ مصطفى أمين، وفى عهده بلغت أوج إنتشارها وبعد خروجه منها – نوفمبر 1944 – تولاها غيره وتأثرت أحوالها.

شكرت للأستاذ إميل زيدان عرضه وفضله راجيا منه أن يترك لى فرصة التفكير أياما قليلة أعود إليه بعدها، وفكرت وأطلت التفكير وأحسست أننى أقرب إلى قبول عرض الأستاذ إميل زيدان لأكثر من سبب، بينها أن صورة عقد شراء للأرض وما عليها ومن عليها، كانت تلوح أمامى بين الوقت والآخر، ومن ناحية ثانية فإن مجلة " الإثنين" بدت لى تحديا مستقلا، وأعترف أيضا أن رئاسة تحريرها بدت فى ذلك الوقت إطراء لخيلاء الشاب فى.

 فها هى رئاسة تحرير مجلة سياسية من مجلات الدرجة الأولى تعرض على، وأنا لم أتجاوز بعد سن الثالثة والعشرين.

كذلك دارت أفكارى، وعلى هذا النحو كادت تستقر عندما ذهبت إلى " آخر ساعة" مبكرا كالعادة صباح اليوم التالى، وحينما عرفت أن الأستاذ التابعى قد وصل واستقر فى مكتبه، قصدت إليه ورويت له تفاصيل لقائى مع الأستاذ إميل زيدان، ثم أظهرت له اتجاهى إلى قبول عرضه.

والحق أننى كنت أتصور أن الأستاذ التابعى سوف يوافقنى على رأيى خصوصا أننى فى سرى تخوفت للحظة أن يكون هو الذى عرض اسمى على الملاك الجدد، ولكنى وجدته يقول لى: راجع نفسك إن مجالك سوف يكون أوسع وأرحب فى أخبار اليوم.

ثم أضاف بصوت مشحون بالتأثر والكبرياء معا " إنه لا يريدنى ألا أتركه وحده" وخصوصا أنهم متمسكون بى.

ولم يتوقف سيل المفاجآت، فإن باب مكتب الأستاذ التابعى انفتح فجأة ودخل منه أحد الملاك الجدد: الأستاذ على أمين.

لم أكن قد لقيته من قبل، ولكنه أقبل على فاتحا ذراعيه يقبلنى على الخدين، ويقول لى إنه لا يهنئنى بانضمامى إلى أخبار اليوم، ولكنه أيضا يهنئ أخبار اليوم بانضمامى إليها.

ولم أكن أعرف بعد أنى انضممت إلى أى شئ، وربما لاحظ هوآثار الدهشة على فقال على الفور والحماسة ظاهرة فى صوته، إنه كان يتابع عملى وكان يتمنى أن أعمل معه فى أخبار اليوم، ولكنه لم يشأ فيما مضى أن يحرك الأستاذ التابعى من جهودى، وها هى الظروف تتيح لنا كل الفرص مرة واحدة.

وتطوع الأستاذ التابعى ليحدثه عن عرض دار الهلال بأن أتولى رئاسة تحرير مجلة " الأثنين"، وهز على أمين رأسه بشدة نفيا ورفضا، وقال: مكانه الحقيقى فى أخبار اليوم.

وأردت أن أخرج من المكتب لأترك المالك السابق والمالك اللاحق وحدهما يدبران أمورهما، وإذا بالأستاذ التابعى والأستاذ على أمين يلحان أن أبقى معهما لمناقشة تفاصيل الانتقال، ولم أجد أن ذلك يربطنى بشئ فبقيت... وناقشت.

وذهبت إلى الغداء مع الأستاذ التابعى فى بيته، واستأنفنا الحديث بعد الظهر، ثم فى المساء وحتى لآخر الليل، وأدركه النعاس قبل الفجر، فدعانى إلى أن أستريح حتى الصباح فى غرفة نوم إضافية بجوار غرفته، وفعلت.. ولم أنم ... ولا استرحت.

اعتذرت للأستاذ إميل زيدان، ووجدتنى فى دار أخبار اليوم محررا فيها وسكرتيرا لتحرير آخر ساعة فى نفس الوقت، وكانت يومها تشغل دورا على السطح فى عمارة تملكها إحدى شركات التأمين فى شارع قصر النيل.

 

(7)

صباح 23 إبريل 1969 وجدت الدكتور طه حسين يتصل بى هاتفيا.

قال لى: الأستاذ التابعى جاءنى وهو يشكو من آلام صحية كثيرة، وعليه ديون للأخبار، ويرجو أن تعمل له شيئا.

قلت له: تصور أن الأستاذ التابعى ينفق على ابنه "14 عاما" 650 جنيها فى شهر واحد، ينفقها فى العبث، إنه بهذا يقضى على ابنه، وقد كلمت الرئيس جمال عبد الناصر بخصوص الأستاذ التابعى، فأعطاه الرئيس مرة خمسة آلاف جنيه، ومرة أخرى ألفين، ويأخذ من الأهرام 200 جنيه، ومن رئاسة الجمهورية 200 جنيه، ثم يشكو من الأقساط والديون.

وجدت الدكتور طه حسين يحاول إنهاء المكالمة ويقول: مش معقول... هذا غلط طبعا.

لكن الدكتور طه حسين لم ينهى اتصاله بى إلا بعد أن طلب منى أن أعمل ما أقدر عليه.

فى العام 2008 فكرت دار الشروق فى إصدار طبعة جديدة من كتاب الأستاذ التابعى " من أسرار الساسة والسياسة" وطلبت منى أن أكتب مقدمة للكتاب، فاعتبرت أن هذه فرصة لرد بعض من جميله، وكتبت له بالفعل  ما اعتبرته رسالة اعتذار.

قلت من وراء حجاب السنوات الطويلة التى تفصل بيننا: فى الحقيقة أنا لا أقدم كتابا للأستاذ التابعى، وإنما أتقدم إليه بإعتذار، وذلك بالفعل شعورى إزاء رجل أعتبره من أساتذتى الكبار وأستاذ لكثيرين غيرى من نفس الجيل الذى خطا إلى عالم الصحافة العربية أعقاب الحرب العالمية الثانية وبالتحديد مع مطلع الأربعينات من القرن العشرين.

كان من حسن حظى أننى عملت مع التابعى وهو وقتها صاحب ورئيس تحرير مجلة " آخر ساعة" أيام عزها قادما من جريدة " الإجيبشيان جازيت" بتوصية من رئيس تحريرها فى ذلك الوقت " هارولد إيرل" وأظننى ولعل ذلك كان رأيه أننى كنت آخر قائمة طويلة من الشباب وقتها تتلمذوا عليه.

ويقال عن الرجل أنه صاحب مدرسة فى علمه أو فنه إذا وصل تأثيره فى مجاله إلى درجة يختلف بها ما بعده عما قبله، بمعنى أنه إذا حذف دوره فى المجرى العام للتطور، انقطع الخط على فجوة واسعة، وذلك كان نموذجى فى حالة التابعى فقط، اختلف مجال الكتابة الصحفية بعده عما كان قبله، وفى هذا الاختلاف بين السابق واللاحق يتبدى حجم تأثيره، مثله فى ذلك مثل غيره من مستواه أى علم أو فن.

التابعى أضاف شيئا آخر إذ صاغ أسلوبا مختلفا فى التناول الصحفى، وهذا الإختلاف الذى أحدثه التابعى هو نعومة الكلمة وانسياب الكلام، أى أن هناك إضافتين تحسبان للتابعى، إحداهما فى اللفظ والثانية فى السياق.

بالنسبة للأولى فإنه يبدو وكأن الألفاظ كانت على نحو ما فى حالة عشق مع قلم التابعى، فما إن يضع سن القلم على صفحة الورق حتى تذوب المعانى والصور لينة سائلة على السطور، وبالنسبة للسياق فإن أى قارئ لكتابات التابعى سوف تكشف له قاعدة سمعته يكررها علينا كثيرا مؤداها: القصة فى التفاصيل. 

كنت أسعد جيلى حظا ربما لأننى تتلمذت على يديه، والسبب غالبا أننى وصلت إلى صحبته قرب آخر النهار، وفى مرحلة من الحياة لها خواصها مع الناس وفى الطبيعة، وهى مرحلة ما بين الأصيل والغروب، وعندما حضرت الأصيل فى حياة محمد التابعى فقد لفتنى الوهج المهنى والسياسى والاجتماعى المحيط بجوانبها، وكان ذلك حظى، ثم كان لسوء الحظ أننى حضرت نزول الغروب أيضا، حين قرر محمد التابعى أن يبيع آخر ساعة إلى دار أخبار اليوم،وكان البيع لنفس الأسباب التى ضاعت بها من قبل حصة التابعى فى جريدة المصرى.

بمقدار ما حاولت وحاول غيرى فى مرحلة الغروب أن نعبر للرجل عن عرفاننا بفضله، فإن نور الحياة انطفأ عن محمد التابعى، رجلا ثقيلة همومه كسير قلبه، جريحة كبرياءه، برغم أنه ملك فى لحظات الأزمة شجاعة أن لا يرمى المسئولية على غيره، بل يلوم نفسه، وأحيانا بمرارة كما تكشفه أوراقه.

لقد قالوا عن التابعى الكثير حول إسرافه.

 وأطلقوا عليه أن نصفه فنان ونصفه صحفى.

وقيلت عنه الروايات فى قصة حبه لأسمهان.

 لكن أحدا لم ينظر إلى ما أدخله من تجديد فى أسلوب الكتابة الصحفية.

 إننى أعتقد أنه حقن أسلوب الصحافة بكمية من العذوبة ليس لها مثيل ووضع كمية من الحلاوة فى الألفاظ وفى التعبير ليس لها نظير، لكنه لم يأخذ حقه.