الأربعاء 26 يونيو 2024

«ذكريات عدم وجودي».. موهبة انتقاء ما يستحق «الحكي»

فن18-10-2020 | 20:02

كتبت: ستيفاني ميريت

ترجمة: محمد عبد العزيز


"ريبيكا سولنيت"، كانت ذات يوم مجرد سِرٍّ لا يعرفه الكثيرون، أو كفرقة موسيقية لا يعرفها الكثيرون، وعندما تجد من يذكرها تدرك لحظتها أنك عثرت أخيرًا على رفيق لك في شغفك بها. أول مرة قابلتها كانت في عام ٠٠٠٢ مع صدور كتابها "حب التجوال: عن تاريخ المشي Wanderlust: A History of Walking". إذْ ذكرني كتابها بكاتبات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مثل سوزان سونتاج وجوان ديديون، اللتين نسجتا معًا مزيجًا فريدًا من التجربة الشخصية، والبحث الأكاديمي، والتاريخ الثقافي، والثقافة الشعبية، لتصنعا منه نوعًا فريدًا ممتلئًا بالحيوية والمرونة التي تجعله يحتوي أي موضوع، ويعرض طرقًا جديدة لرؤيته.

 حققت "ريبيكا سولنيت" شهرة كبيرة بكتابها "أمل وسط الظلام Hope in the Dark"، الذي كتبته عام ٣٠٠٢ مع بداية حرب العراق، والذي سرعان ما أصبح بمثابة كُتَيِّب رسميٍّ ضد اليأس السياسي. لكن كتابها الصادر عام ٨٠٠٢ بعنوان: "الرجال يشرحون بعض الأشياء لي Men Explain Things to Me" هو ما ما جعل شهرتها تبلغ الآفاق، لأنه تسبب في ظهور كلمة mansplaining أو "قِوامة الرجل"، رغم أن الكلمة لم تكن من ابتداعها، لينتهي بها الأمر من ضمن مفردات قاموس أوكسفورد عام ٤١٠٢. وجعلها هذا العمل نموذجًا تحتذيه النساء الشابات، وباتت واحدة من أشهر المعلقات بالمجال الثقافي والسياسي بأمريكا.

 كتاب "ذكريات عدم وجودي" يحكي قصة اتجاه "ريبيكا سولنيت" إلى الكتابة، منذ وصولها وهي طالبة إلى سان فرانسيسكو عام ١٨٩١، والتحوُّلات الكثيرة التي مرت بها أثناء استكشافها الموضوعات التي كانت تثير انتباهها وتجتذبها. 

جديرٌ بالذكر أن هذا الكتاب يتم تصنيفه بصفته مذكرات، وكثيرون يتمنَّوْن أن يقدّم لمحة أكثر حميمية عن الكاتبة، لكنهم للأسف قد يصابون بالإحباط؛ لأنها عندما تحكي ماضيها تحرص على إبقاء تركيزها مُوَجَّهًا إلى الخارج، ولا تجرد روحها بالكامل، إذْ تقتصر لقاءاتها على الحديث عن ثقافة النشر السائدة، أو عن عالم الفن، أو عن الحركات المتعلقة بالبيئة، أو عن المدينة بذلك الوقت. واهتمت في أعمالها أكثر وأكثر بالحكايات: من تتسنى له الفرصة ليحكي قصته، ومن يحظى بفرصة نشر حكايته أمام الآخرين، ومن تسنح له الفرصة أن يُسمع، ومن يتم إحباطه بالكامل لدرجة أننا ربما لا نلاحظ اختفاءه. 

تقول ريبيكا: "لكي يصبح المرء كاتبًا ينبغي عليه أولًا أن يمتلك القدرة على تمييز القصص التي يحكيها، وكيف يحكيها، وما هي صلته بها، يجب أن يحدد أي قصص يختارها، وأي قصص تختاره!".

على مر السنين، خرج مسار حياتها من الجانب المظلم إلى الأضواء. صحيحٌ أنها متميّزة في كثير من الأمور، لكن خبرتها الكبرى كانت في موضوعات معينة، مثل أن تكون شابة، وأنثى، وفقيرة، لتتحدث بثقة عن مدى قسوة شعور المرء بأنه لا حول له ولا قوة، وكأنه غير موجود من الأساس، لدرجة أنه قد يختار بكامل إرادته ألَّا يكون موجودًا في وجه التحرش؛ "بما أن الوجود يمثل خطرًا شديدًا حينذاك!".

من وجهة نظر ريبيكا، فإن هذا الاختفاء يُمَثِّلُ قضية تهميش النساء على يد الرجال. ورغم أن عملها بالبداية كان يستكشف تهميش المجموعات الأخرى - الفنانين غرباء الأطوار والأمريكيين الأصليين - فقد دارت كتاباتها دائمًا حول تكرار تلك التجربة الشخصية، المتعلقة بإجبار النساء على السكوت!.  

 في فصل آخر كتبت عن تجربتها مع العيش في كنف أب عنيف، لا يتوقف عن الإيذاء الجسدي. ومع أنها لم تتعمق كثيرًا في تلك النقطة فقد ذكرتها أكثر من مرة، كمثال على انغماسها المبكر في ثقافة عدم المساواة، حيث تكون السيادة الذكورية هي الأمر الطبيعي. تقول ريبيكا: "أنا ابنة رجل اعتبر أنّ من حقه ضرب النساء والأطفال، وما فعله هذا كان يفعله والده من قبله!". ومع انتقالها إلى المدينة في مراهقتها أدركت أن هذا العنف كان منتشرًا. 

تستهل ريبيكا أحد الفصول الأولى من كتابها بوصف ساحر لمكتب صغير أنيق، أهدته إليها إحدى صديقاتها منذ سنوات طوال، وعلى هذا المكتب كتبت معظم أعمالها. ثم تأتي اللكمة القاضية: "قبل إهدائي ذلك المكتب بحوالي سنة، قام عشيق صديقتي السابق بطعنها ٥١ طعنة على سبيل العقاب لأنها قررت تركه!". 

على سبيل المجاز، توضح "ريبيكا" أهمية تلك الحادثة في اتخاذها مسار الكتابة بقولها: "حاول أحدهم أن يُسكتها، فكانت النتيجة أن أعطتني هي المنصة التي انطلق منها صوتي!".

في الأعوام الأخيرة، باتت النقطةً المحوريةً المتكررةً في كتابات "ريبيكا سولنيت" هي السؤال المتعلق بأي أصوات يجب أن نسمعها. ومن ثَمَّ، قام كتاب "ذكريات عدم وجودي" – في بعض أجزائه - بتغطية موضوعات عابرة تم ذكرها في كتب سابقة، خصوصًا عندما ذكرت عملها الحالي، ومن النادر أن تجد كاتبًا يجمع بين الثقل الفكري والقدرة على مناقشة مثل تلك التجارب العنيفة بهذا الانفتاح.

إن السبب الأول لاكتسابها عددًا كبيرًا من المعجبين هو شعورهم بأنها لا تتحرك من منطلق الغضب، وإنما من منطلق التعاطف والرغبة في تقديم التشجيع، "وبالرغم من سمة اللطف التي تحملها العبارة، لكنها في الواقع تقصد بث الشجاعة".

صوت الأمل هذا يُعتبر الآن شديد الأهمية أكثر من أي وقت مضى، وهذه المذكرات تسمح لنا بإلقاء نظرة على الصلابة والشجاعة اللتين مكنتاها من الاستمرار في حكي قصص مُهَمَّشَة، بالرغم من القوى الشديدة التي عارضتها.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020