1- شاطئ البحر الأحمر بمرسى علم
علي شاطئ البحر الأحمرفي منطقة مرسى علم ينحدر الجبل حتى تشارك صخوره شاطئ البحر نعومة تدفق الماء في مد وجذر. على أطراف هذه المدينة التي تسكن البحر يخلو العالم من الضوضاء وتعود الحياة إلى طبيعتها الأولى كأن آدم نزل إلى الأرض منذ ساعات.... تعود الحياة إلى طبيعتها الأولى. تتفرق خيام المعسكر الذي يشارك فيه رشاد كضيف من استفانيا وصديقها مدحت الموظف بشركة التعدين الأهلية صاحبة معسكر الاستكشاف. هاربا من مشاكل العالم التي هبطت على رأسه قال سأعود إلى الطبيعة الأم مثل آدم الذي نزل إلى بقعة في الأرض وحيدا قال كيف يهرب من شبح الهبوط مثل باشا من باشوات ماقبل ثورة 1952 ضارب في البورصة وخسر كل أمواله وصار معدما فاقدا كل شيء حتي لقب الباشا لم يعد له قيمة بعد أن ألغى جمال عبد الناصر الألقاب.
كانت مضاربات رشاد قد انتقلت من التحول والاندماج في أسواق عربية إلى المشاركة في شركات عديدة أوروبية تنشأ وتندمج وبعضها يزول سريعا والبعض يستمر ومثل الشبكة العنكبوتية تفرعت مساهماته في شركاته إلى شركة أم ومجموعة من الأولاد. والأم تصيرا ولدا في مجموعة أخرى أكبر وهكذا حتى تنتهي إلى مجموعة الخمسين عائلة التي تحكم العالم.
كالعادة كان صانعا للتيار ولم يكن جزءا منه. اقترح شراء العقارات وتسويقها على الإنترنت فخلق طلبا كبيرا على العقارات وباع ثم باع...... وبنك رشاد يضمن موقنا كمسيحي كاثوليكي آمن أن المسيح جاء لخلاصه سار من بيع إلى بيع وكلما زاد الطلب عن طريق الإنترنت تساهل في العرض والبيع.المشكلة أن بنك رشاد كان يضمن بيع هذه العقارات وفجأة وبلا مقدمات عجز أول مدين عن السداد، وتشجع بعده مدخرون آخرون وامتنعوا عن السداد ونفذ البنك على العقارات واستردها منهم وبرد فعل عكسي انقلبت الصورة وبدلا من أن تكون شبكة الإنترنت أداة لتسويق البيع صارت أداة لتسويق انتفاضة المشترين العاجزين عن السداد والتحريض من أصدقائهم وذويهم لعدم تسليم العقارات للبنك تحت شعار " اضرب عرض الحائط" وإزاء هذه الثورة ضمنت الحكومات ديون القروض لكن بقي الوضع كما هو والعقارات راكدة ووقف الشريط على وضع ثابت كصورة سينمائية تم تثبيتها على شاشة العرض دليلا على أن آلة العرض اعتورها عطب مفاجئ كسفينة معطوبة متوقفة في عرض البحر لاتستطيع السير يمينا أو يسارا.
وكعادة رشاد وجد أقدامه تقوده إلى البابا؛ كان فى بداية الأمر متردداً وجلاً، يقول لنفسه : " إن هذا اللقاء لن يكون مثل لقائه الأول حين جاء فاتحاً منتصراً !" هل هكذا التاريخ لا يروى سوى سير الملوك الفاتحين؟ لم يعد مالكاً ؛ بل صار مملوكاً. وجد رشاد البابا واقفا خلفه كأنه كان يراه في كل لحظة عبر شريط عرض سينمائي. صعد رشاد إلى الطابق الخامس والثلاثين في المبني الشهير ظهر مطأطئ الرأس كمن يحمل عارا ويستعد للمحاكمة وينتظر أقصى درجات العقوبة. قال لنفسه عدة مرات هامسا أهكذا يحاكم بالتجريس تماما مثلما فعل مع عبد المنعم كانت تأتي حكاية عبد المنعم في رأسه كومضة يطردها، إلا أنها استطالت اليوم في رأسه كأنها حدثت بالأمس ولأنه كان مخرج الفيلم فقد كان يتصور تصرفات عزيز وكأنه الملقن في عرض مسرحي، ويرى تصرفات عمران يرتجل، ويتخيل أفعال فكري يصطنع العصبية..نعم كعصبية ديجول حين كان يحقق مع عبد المنعم ويحاصره كلاعب النرد ينفعل كأن شخصا داس على جرحه كان كهرباء مسته فارتد على إثرها مصعوقا كأن به مس من الجان يرغي ويزبد ويشتم بكلمات لايستطيع أحد أن يحاسبه عليها، ولكنها تحقير لعبد المنعم. ذات مرة قال فكري لعبد المنعم حال توقيعه على أقواله " الأفضل أن تترك هذه الوظيفة " كان تلويحا بعدم صلاحيته ومن الممكن أن يكون استشرافا للعقوبة التي قد يحاكم بها.
صرف رشاد الخاطر الذي انتابه عن قصة عبد المنعم وقال "كفانا مانحن فيه" ورفع نظره إثر احساسه بأنفاس تتردد أمامه حين فوجئ بالبابا يخالف بروتوكول الاستقبال ويخرج إلى حجرة السكرتيرة ويستقبله بنفسه ويربت على كتفه، فيقوم رشاد مرتبكا يخفي توترا سرى مثل كهرباء خفيفة مرت عبر جسده، فانتبه وهب واقفا وعبر صمته قال له البابا وهو يقوده برفق إلى الاستراحة الملحقة بالمكتب حتى يخرج عن الرسميات وقال له:
ـ ماذا أنت فاعل ؟
كان يتعمد الدخول في الموضوع مباشرة، ولما زاد صمت رشاد عن ثلاث دقائق مرت عليه كدهر وكان قبلها حاضر الرد سريع البديهة. أضاف البابا:
ــــ أمامك أحد حلين
البابا يعلم أن رشاد قام بأدوار متعددة مثل عمر الشريف في فيلم لورانس العرب في أوقات كثيرة كحامل لخطابات مغلقة لايعرف فحواها أو رفيق لسيدات يحملن هذه الرسائل أو صاحب دعوة لتناول الغداء أو العشاء أو يدعو البعض لسهرة يضم إليها من يريد البابا ويجلس على رأس المائدة يقدم التحايا وواجب الضيافة في ود شديد كفارس من القرون الوسطى. يبدأ الحفل بمراقصة السيدة التي أقيم على شرفها الدعوة ثم يوزع ابتساماته وأحاديثه الجانبية والعامة على ضيوفه على قدم المساواة.
أخرجه البابا من شروده بلمسة رقيقة على يده لم يفعلها البابا قبلا وبالمخالفة للبروتوكول الذي يمنع التلامس بين الرجال.
قال رشاد أي حل؟
ـ نظام المشاركة في إنتاج الخام
ـ أي خام تقصد؟
ـ أكثر من خام ولكني أرشح لك الفوسفات المنتشر في مصر والأردن.
وقام الــ بابا من على مقعده بالاستراحة، وسار إلى مكتبه وكأنه كان يعد ملفا قام بسحبه وفتحه على صفحة بها رسم بياني ووضع الصفحة على استقامتها أمام عيني رشاد مباشرة.
قرأ رشاد أن المكتوب تحت الرسم البياني أن الخام ينتشر في منطقة البحر الأحمر كتكوينات من البحر الأحمر حتى الأردن.
ترك الــ بابا الكتاب في يد رشاد وقام من مكتبه وطلب السكرتيرة وأعطاها بعض الأوامر وعددا من أسماء المديرين لتطلبهم تليفونيا بعد خمس دقائق، وكان هذا إيذانا بأنه بقي خمس دقائق على موعد انتهاء المقابلة. لم يكن رشاد معتادا أن يسأل البابا ماذا يجب أن يفعل ؟لم يفعلها قبل ذلك أبدا بل كان يخطط وينفذ ويربح والبابا يثني عليه ماذا حدث؟ كل شيء انقلب إلى النقيض.. هل فقد مهارته في إحراز الأهداف وموهبته كمخرج كبير صانع للنجوم.
كانت مقابلة سلبية، فهم رشاد أن البابا يتحاشى النظر إلى عينيه حتى لا تفضحه عيناه وحتى لا يقول له: "لقد فشلت فى لعبة الدومينو الاقتصادى، لقد جرفك الانهيار الاقتصادى العظيم فتهاوت الأبنية الورقية التى تم بناؤها فى خيال الشبكة العنكبوتية"فراغ الإنترنت" "الكل باطل وقبضُ ريح."
قام رشاد يحمل الكتاب في يد وبسط يده الأخرى ليسلم على البابا ويستأذن في الانصراف فاستبقى البابا يد رشاد في يده قليلا وقال له " كيف ستحرز هدفا."
ـــ لن أدخل في مزاد مع أحد" رد رشاد محاولا استعادة ثقته قليلا"
ـ يجب أن تجعلهم يتعاقدون معك دون دخول في منافسة مع أحد.
يتذكر رشاد كيف انصرف ووضع الخطة في الطريق قال لنفسه........
منذ أن أنشئت شركة أرامكو الأمريكية السعودية لإنتاج البترول وقد أصبح هذا النظام معمولا به ويحقق العدالة بين الطرفين طرف لديه الخام، ولايستطيع استخراجه والطرف الثاني يملك تكنولوجيا الاستخراج ولديه المصانع التي يحول فيها الخام إلى منتجات يسهل بيعها وتسويقها..... وهاهو في رحلة استكشاف مكان الخام في البحر الأحمر وبقي وضع الخطة.
2- استفانيا تراقص مسؤول خرائط الخام
نظرت استفانيا إلى رشاد وهي تراقص صديقها مسؤول خرائط الخام في شركة التعدين الأهلية. تتذكر كيف عرفته مصادفة وهي تسأل موظف العلاقات العامة بشركة التعدين كيف يمكن أن تتعاقد لاستخراج الفوسفات الذي رد عليها متجهما بأن هذه منطقة أبحاث أجرتها الشركة ببعثة من روسيا في الستينيات، وبالتالي لابد من طرح مزاد عام بين كل الناس. نظرت إليه نظرة وآلهة مثل نظرة سعاد حسني في فيلم القاهرة 30 إلا أن النظرة أخطأته ووجدت خلفه مدحت يخرج من تحت الأرض الذي تعامل معها كجنتلمان وقال لها "ياهانم تفضلي في مكتبي ."
دلفت إلى مكتبه الذي كان حجرة متوسطة الحجم.
لاحظت في مكتبه كمية كبيرة من الملفات والخرائط وعدد الموظفين الذين يدخلون ويخرجون في كل دقيقة، ولفت نظرها أشخاصا يبدون كفلاحين بجلاليب زرقاء وحين سألته قال لها " هؤلاء مليونيرات الاستكشاف." واستطرد " كل واحد من هؤلاء تقدم طلب بخمسة جنيهات للبحث عن المعدن. ويقدم طلبا للاستخراج بعشرة جنيهات ثم يصير كمن حف البئر وأصبح ينزح منه.فهمت استفانيا الفكرة وكانت كقائد الاستطلاع الذي اسقطه رشاد خلف الخطوط ليعرف الخطط.
قامت استفانيا وقالت لمدحت " شكرا لك وتبادلا أرقام الهواتف."
كان يعرف أنها ستتصل به وبالفعل اتصلت به فرد عليها بترحاب شديد وقال " إنها تشبه الروسيات." وكان هذا طرف خيط يعرف أنه يتركها تمسك به ليفتح خطا للكلام ولتعرف أنه قد عرف أوروبيات قبلا عرفهن حال سفره للتدريب في موسكو على الرحلات الاستكشافية عن المعدن وحال اصطحابهن ضمن البعثات في صحراء مصر.
تقابلا في فندق انتظرها في بهو الفندق وصعدا معا إلى سطح الفندق حتى تكون الجلسة سرية كالجالسين في مقهي راق يشربان البيرة المثلجة ويتناقشان. امتد حبل الكلام لساعات طويلة حكت فيه حكايتها منذ رحيل آندرو وقدومها إلى مصر وافتتاح مركز الموضة وصناعة الجلود، ولم تنس أن تعرج على حكايتها مع رشاد وكأن مدحت يعرف ولا يعرف. . كانت تتلامس مع الحكاية كأنه يعرف محيطها ولا يعرف تفاصيلها فإذا سأل أحدا عنها وقيل له " إن لها علاقة مع رشاد" ردت عليه بانها كانت لها علاقة سابقة مع رشاد تحولت إلى صداقة كعادة الأوروبيين فيتأكد صدقها ولايشك مدحت في تصرفاتها.
لم يحك لها مدحت إلا قليلا عن حياته الخاصة فقد تزوج زميلته الجيولوجية التي تعمل بالشركة نهارا وتدير كل الأمور في المنزل بدءا من قبض راتبه حتى الإشراف على إعطاء الدروس الخصوصية للولد والبنت اللذين أنجبتهما منه في سنين زواجهما الأولى. وتنازل لها طائعا مختارا عن إدارة كل الأمورحتى يتفرغ لعمله الذي يقتضي منه رحلات دورية إلى الصحراء.
فوجيء مدحت صباح اليوم التالي باتصالها الهاتفي تدعوه إلى منزلها وقالت له في نهاية المكالمة " من فضلك اشتر لي وردة."
اصطحب الورود وذهب إليها وبعد أن تناول وجبة السمك والمكرونة على الطريقة الإيطالية، وسمع الموسيقى ودار في حجرة الاستقبال في منزلها وشاهد صورا للأماكن السياحية الإيطالية المعلقة على جدران الحجرة اصطحبته إلى غرفة ملحقة بغرفة الاستقبال وكأنها غرفة المعيشة تضم أريكتين متقابلتين بينهما منضدة عليها ويسكي وكوكا كولا وإلى الحائط يستند جهاز التلفزيون وقالت له " تفضل بالشراب إن أردت."
دعاها إلى رحلة استكشاف مع صديقها رشاد للتغطية كأنها جاءت برفقة رشاد ويبقى مدحت مجرد موظف يدير أعمال الرحلة إلا أنه كان يستطيع أن يختلس الوقت لكي يخلو إليها حين يشترك رشاد في حلقات نقاشية موسعة مع أعضاء رحلة السفاري حول وجود الخام في هذه المنطقة أو تلك.
صار مدحت حادي العير يدلها على الأماكن يقول لها "هنا منطقة (د) منطقة بحثتها الشركة ومعروف أن فيها الخام ممنوع الاقتراب أو التصوير وهنا في هذه المناطق لاتوجد أبحاث."
اتفقت استفانيا معه أن تتقدم بطلب للبحث يستغرق شهرا في منطقة خالية ثم منطقة أخرى وبعد عدة أشهر تضم هذه المنطقة إلى جزء صغير من المنطقة (د) قال لها مدحت " لكنها منطقة تمت ابحاث من الهيئة عليها."
ـ لا يا حبيبي ستكتب علي الطلب إنها ليست منطقة سبق بحثها
ـ ولكنها مدونة بالخريطة والألبوم " أبحاث روسية في الستينيات "
ـ ياحبيبي ستختفي الخريطة
ـ ولكن هذا خطأ
ـ القلم يخطئ " ولوت فمها ثم غامت عينها بدموع ولم تتركه إلا بعد أن قال لها " موافق يامجرمة"