الأربعاء 5 يونيو 2024

زينب محمد تكتب: في مجموعة بطلها «الموت».. أميرة بدوي ترصد 6 زوايا جديدة للصلاة

فن19-10-2020 | 06:09

في مجموعة قصصية لا تحدد فيها "ست زوايا للصلاة"، ولا تحمل أي من قصصها هذا العنوان، نكتشف زوايا نجهلها - أو بالأخصّ يجهلها أهل المدن - عن تلك الصلة التي يعقدها أُناسٌ مُهَمَّشُون مع الله، بل مع كل المخلوقات والأحداث التي تحل بهم. تغدو زوايا الصلاة عديدة حين تتجول بين المتن الحكائي وهامشه الروحي.


أبدأ قراءتي من قصة "الغولة"، وهي من القصص الأخيرة في المجموعة، لكنها من القصص التي وضعت المرأة الريفية محل مقهورة وقاهرة، إذ تبدأ الفتيات في الشعور بالخوف والاشمئزاز من "الغولة"، أو القابلة التي تقدم على ذبح الإناث بالختان. لكن دائرية الحياة التي تعيشها القرية سرعان ما تحول الفتيات أنفسهن إلى "الغولة" نفسها، ليمارسن التعدي ذاته على أخريات. 


نعود إلى "البومة"، أول قصص المجموعة، لنجد أن المرأة التي حملت إرث محاسبة بنات جنسها على أجسادهن لا تنفلت من عقاب مجتمعي ذكوري - على جسدها أيضًا - قد ينتهي بقتلها. فالأسطورة تُحَوِّل المرأة إلى غولة تنهش الفتيات، وتحولها إلى بومة جاحظة العينين تراقب قاتلها. لكن الأسطورة تحاول أن تعيد صياغة "مصالحة جديدة" مع المرأة؛ وهذا ما تحدده قصة "الإبريق"، حيث الأسبوع الذي تنتصر فيه الأسطورة للمرأة وسط بيئتها. إلَّا أن مثل هذه الأساطير لا تلبث أن تُقابل بالسخرية من معظم رجال القرية: "لا تصدق حكاية أم قويق، إنها خرافة، ندع نساءنا تفرح وترقص، فينسين وجودنا قليلا". لا تلبث الأسطورة أن تتحقق لتشعل دوائر توارثها بين القهر والانتقام.


يتعامل أهل القرية مع الطبيعة بلا وساطة، فتكلمهم أحيانًا وتحاكمهم أخرى، وتتماهى وتندمج معهم مرات، إلى الحد الذي يتبادلون فيه الأدوار. تنسجم لغة الحكي مع هذه الحالة القصصية إلى الحد الذي تستطيع معه أن تبلور مُعْجَمًا لم تكن لتعلم عنه شيئًا، قد تُرَدِّد بعض كلماته، لكنك لم تزل تجهل مدلولات أعمق وأبعد، لا تفسرها سوى تلك الحكايات التي يتوارثها أهل القرية. 


في قصة "الخضر" نجد أُناسًا يتعاملون مع البيئة من حولهم بمنطق طلب الشفاء، إذْ "تأتي القرية وبناتها لتلحس جلد الضفادع فتفك عقدة اللسان وتعلو الزغاريد بالفرح والسحر. أما الأطفال فيرون إذا ما لمسوا جلدها مقاعدهم في الجنة أو في النار". وحين يشعر إنسان بخطر من اتهام قد يلتصق به، سرعان ما يجد نفسه منسجمًا مع الطبيعة بالطريقة ذاتها التي تتخفى بها، ويبدأ "جلده يخضر مع الوقت، يزحف إلى قدميه ورقبته". ثم سرعان ما جذبته الأسطورة إلى الذوبان معها، فتحول إلى جزء من هذه الطبيعة، إلى أن "صار أخضر مثلهم. قفز على أربع هاربًا حتى وصل إلى النيل. هناك كانت الأغنيات تنتظره".


تعيد الطبيعة نسج نفسها مرات أمام ما يتدبره أهل القرية من مكائد، فتعيد تشكيل مخلوقاتها التي هي أبطال الأساطير. في قصة "الديك" مثلًا، نرى كيف تفرز الطبيعة مناديًا جديدًا للملائكة، بعد أن التهمت أسرة فقيرة ديك القرية المقدس. صحيح أنك تتعاطف مع هؤلاء الفقراء الأذلاء، لكن عالم القرية ينتصر لأسطورة الديك الذي يبعد الشر ويجلب الخيرات، ولا تلبث الطبيعة أن تعيد هذا التشكل وتدعمها أهل القرية فتخلق بطلًا جديدًا / ديكًا جديدًا، "قرقر كالوحي، فتخبطت الغربان، وهرب ملاك الموت. فتحت القرية أبوابها وأعشاشها، حمل الأطفال ألواحهم من جديد، وهرولوا نحو الكُتاب مع ضوء النهار".


لا ترصد الأسطورة دورًا لأي فئة من فئات المجتمع داخل هذه القرية وحسب، ولا تجعل من التماهي مع الطبيعة هدفًا، لكنها تفسر لأهلها معظم الظواهر التي تحيط بهم، إن لم يكن كلها. الأسطورة تصبح مرجعًا وتحتل مكانًا مقدسًا تحت عباءة دينية ظاهرية، وإن لم نفهم علاقتها المباشرة بمنهج حياة أهلها. هذه الهالة الدينية تصبح مرجعًا ومبررًا داخل هذه الجماعة لارتكاب مزيد من المغالطات التي تأخذ من "الكلمة المقدسة" هيبتها دون معناها. نجد مثلا أن قاتلًا يستشهد بأن "الله نور السماوات والأرض"، ليقدم على القتل في رحاب قداسة مغلوطة أمام عدد من قطاع الطرق، وهكذا تصبح هالة الدين مربكة دون أن يتجلى جوهره أمام عادات أهل القرية وأساطيرها.


تجعل المجموعة الموت بطلًا من أبطال القصص جميعها. يردد أحد الأبطال: "على أحد أن يموت"، وهذا الأحد يمكن أن يكون رجلًا أوامرأة أوطفلًا أو حيوانًا، فالموت هو السمة التي تغذي توارث الأسطورة من جيل إلى آخر، حتى إن الموت ينتصر على من يُظَنُّ بهم البطولة أو الشجاعة لمواجهة أي ركن من أركان هذا الموروث. تُرْوَى القصص لتدحض أية بطولات أمام ما أنتجته القرية من هذا المزيج بين المعتقد الديني والشعبي، إلى الحد الذي تقتل فيه من يواجه استمرارية السطوة التي تلقي بها الأساطير عليهم. تنقل لنا قصة "النعش" بطولة مهزومة رغم "كرامات سيد ومناجاته للثعابين والأولياء"، إلَّا أن انهزام فكرة المخلص تغدو أكثر منطقية لأهل القرية من التراجع عن تصديق الموروث، وذلك حين ركع سيد "ثم نفخ في تراب الأرض، فعلنا جميعًا المثل، ولم يرفع أحدنا عينه عندما انقض الثعبان والتهم رأس سيد، ظل جسده واقفا يتمايل قبل أن يهوي. هنا عَدَوْنَا هاربين وراء النخيل".


في عالم قصصي يحوي أكثر من "ست زوايا للصلاة"، سيكتشف القارئ عالمًا نجهل وجوده تمامًا، كما إنه لا يعبأ بما قد نتصوره عنه أو عن أفكاره وأحداث حياته. قد تجد لكل حدث من أحداث القصص أسبابه المنطقية ودوافعه، إلَّا أن المنغمسين بها يفسرون حركة حياتهم على نحو مغاير، تربطه علاقات دائرية بين الكلمة واللون، بين الولادة والموت، بين آيات الله والخروج عليها، بين كل متناقضات حياة يحوطها الفقر والجهل وتغلفها الحكايات والأساطير، ويصلي كل منهم في محرابه منسجمًا مع الكون.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020