الجمعة 24 مايو 2024

مرسي جميل عزيز .. بين الفصحى والعامية

فن19-10-2020 | 19:59

عُرِفَ مرسي جميل عزيز بأنه شاعر غنائي اهتم باللغة العامية في بناء أغانيه، ومع ذلك فقد كتب القصيدة الفصحى المغناة؛ تعد قصيدة "ذات ليلة" لمرسي جميل عزيز من أبرز ما كتب بالفصحى، كتبها مرسي جميل، لحنها كمال الطويل، غناها عبدالحليم حافظ، قُدِّمتْ لأول مرة في الأول من نوفمبر سنة 1959م،  في حفل جريدة الجمهورية الأول لصالح طلبة الجامعات بدار سينما ريفولي بالقاهرة. كما قدمت في حفل آخر في 21 ديسمبر من العام نفسه، في قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، بمناسبة عيد العلم بحضور الزعيم جمال عبدالناصر. قال عنها كمال رمزي: أتاح له سياق الأغنية ذات البنية الدرامية أن يعبر بمساعدة الألحان المسايرة لتطور الأحداث عن العديد من الأحاسيس، ففي البداية يأتي صوته بالشجن يمتزج فيه الحزن مع الخوف، والثلث الثاني تتغلب نبرات الأمل على الحزن والخوف، ثم يتطور الأمل إلى صوت يتدفق بالقوة والثقة مشبعا بالإيمان والعلم والوطن وعبدالناصر والمستقبل. وحرصا من الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز بدأ حياته الفنية بأغان فصيحة لإيمانه التام بأن الأغنية يجب أن تسمو بمشاعر الجمهور لذا فقد راعى الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز الجمهور بشكل مباشر، ومن هنا فالناقد ليس فردا بعينه، بل هو جمهور عريض، ومراعاة الجمهور هنا أمر تفرضه القيود العامة، والذوق العام أيضا؛ لأنه يتعامل مع نص من أهم خصائصه خلق حالة نفسية تشعرك بالرضا أو السخط أو الحب أو إشعال الحماس أو القناعة... يستوي في ذلك الأمير والغفير، العامل والفلاح، المثقف وغير المثقف، فكم من فلاح يعمل في حقله ويترنم بكلمات لا يعرف مدلوها، وطالما ترنم الفلاح بـ"يا حبيبا زرت يوما أيكه" أو بـ"والنواسي عانق الخياما" أو بـ"وعدونا فسبقنا ظلنا" أو بـ"ما ضر لو جعلت كأسي مراشفها، ولو سقتني بصاف من حمياها".  


كما أدرك مرسي جميل عزيز القيمة الحقيقة في القصيدة المغناة، وأنها تساعد على انتشار الشعر والأدب والخلق في أكبر قطاع من الجمهور، وأنها تعمل عمل المدرسة والجامعة، فتؤدي دورهما في القيام بتثقيف الناس، وترقية أذواقهم، وتلبي حاجة نفسية في ضمير المجتمع، ومن جهة أخرى فإنها تحافظ على اللغة من الابتذال والسوقية التي تفشت في المجتمع جراء استعمال كلمات هابطة دون المستوى، وللقصيدة المغناة عنده دور في إثارة الحماس لدى الجمهور، خاصة إذا كانت الكلمات من النوع الوطني الحماسي، كقصيدة ذات ليلة التي غناها عبد الحليم، وتعمل على رقي الذوق لدى الشبيبة والشباب، فتوجهم توجها محافظا. 


لم تكن الفصحى عند مرسي جميل عزيز كالفصحى عند أبناء الجيل الكلاسيكي المحافظ على شيوع الفصحى الكلاسيكية وفخامتها بل جنحت إلى السهولة واليسر في عمق شديد، فتمايزت لغته بجلاء للجمهور العربي، ومالت إلى السهولة الممتنعة، كما أنها لغة شفيفة رقيقة لم تخل من نزعات صوفية واضحة من غير شطحات مقلقة أو لافتة. فكتب سنة 1955م أغنية/قصيدة سوف أحيا وغنتها فيروز. 


يا رفيقى نحن من نور إلى نور مضينا

ومع النجم ذهـبنا و مع الشمس أتينـا

أين ما يدعى ظلاماً، يارفيق الليل أينـا

إن نـور الله في القلب وهـذا ما أراه

سوف أحيا .. سوف أحيا


تميزت القصيدة المغناة عند مرسي جميل عزيز بالجرأة والجسارة، فكتب العامية انطلاقا من محافظته على لغة الواقع المعيش، والحياة اليومية، وجاءت كلماته جريئة حرة، نابعة من أعماق نفسية بعيدة لتصل بسرعة البرق إلى جمهور العرب جميعا، ويتردد صداها في أمكنة مختلفة من أرجاء الوطن العربي بأسره، وخاصة عندما شدت السيدة أم كلثوم ثلاثيته الفذة "سيرة الحب" و"فات المعاد" و"ألف ليلة وليلة" ولا ينقص كلماته تلك إلا وضعها في كتاب معلقات الشعر العربي القديم لتقف جنبا إلى جنب جوارها مزهوة بنفسها، متألقة، مشعة. والخيط الرفيع الواصل في جميع مفرداته هو خيط سحري شفيف يلتقط طرفه من سحر الشارع المصري، وطرفه الآخر من أغوار نفسية عميقة، فتشف كلماته عن روحه وحنينه واشتياقه. 


واستنادا إلى جرأته وجسارته في استخدام مفردات ذات رنين مؤثر وفاعل فقد كان ينتقي مفردات ذات مدلول صوفي بحت، ويضمنها أغانيه في خفة ورشاقة فيقول "الله محبة" وهي جملة محورية في جميع الأديان السماوية ففي المسيحية "الله محبة"، وفي اليهودية "الله محبة"، وفي الإسلام "الله محبة" وقد كتب إحسان عبدالقدوس قصة قصيرة بعنوان "الله محبة" فهي جملة شائعة في الضمير الجمعي، وذات تأثير قوي في متلقي الأغنية بشكل لافت، ثم إن اعتماد مرسي جميل عزيز على لغة سهلة بسيطة عميقة جريئة قوية كان لها مفعول السحر لدى الجمهور، فأقبل الناس يرددون كلماته في المصانع، والغيطان، والشوارع، والمقاهي، والطرقات، والصالونات العامة والخاصة حتى إنها اقتحمت الأبواب المغلقة، وتسللت إلى الناس وإلى غرف معيشتهم، ونومهم كالشمس تملأ المكان كله دون استئذان. تأمل معي قوله:  


يا حبي يا أيامي الهنية

يا قمر ليلي يا ظل نهاري

عندي لك أجمل هدية

كلمة الحب اللي بيها

تملك الدنيا وما فيها واللي تفتح لك

كنوز الدنيا ديّ

 

قولها ليّ

قولها للطير للشجر للناس لكل الدنيا

قول، قول، قول


قول الحب نعمة مش خطية

الله محبة، الخير محبة، النور محبة

الله محبة، الخير محبة، النور محبة

الله محبة، الخير محبة، النور محبة


لا تخلو الألسنة من الدعاء، ولغة الدعاء لغة محببة لدى الناس كافة، ففيها يبتهل الداعي إلى خالقه ومولاه، سائلا وطالبا رضاه، في رقة وعذوبة نادرة، فيلتقط مرسي جميل عزيز طرف الخيط من عوام الناس ويقول: 

يا رب تفضل حلاوة سلام أول لقا في إيدينا

وفرح أول ميعاد منقاد شموع حوالينا

ويفوت علينا الزمان يفرش أمانه علينا يا رب


لا عمر كاس الفراق المر يسقينا

ولا يعرف الحزن مطرحنا ولا يجينا

يا رب، يا رب

وغير شموع الفرح ما تشوف ليالينا، ليالينا، ليالينا

يا رب، يا رب


تكثر مفردات دينية بحتة كالجنة والنار والسماء والنور في لغة مرسي جميل عزيز بوضوح تأكيدا لجسارته وجرأته في انتقاء مفرداته من المعجم الصوفي فكتب "نار يا حبيبي" غناها عبدالحليم حافظ، وكتب أغنية "اسبقني يا قلبي اسبقني .. ع الجنة الحلوة اسبقني"

وكتب "ما انحرمش العمر منك" غناها فريد الأطرش، وهي أغنية عاطفية إلا أنه أراد أن يدخل في مفرداتها لفظة "الجنة" فقال 

فرجيني .. قربي ياعيون ياحلوة فرجيني

واحضنيني .. بالحنان والحب والشوق احضنيني

وان حلفت إني بعيش فى الجنة ياعيون صدقينى

فالمفردات الدينية الشائعة في أغاني مرسي جميل عزيز تشي بعاشق صوفي يترنم ترنيمات الصوفية في وله وعشق خالصين. وفي كتابنا القصيدة المغناة في الشعر العربي مزيد من الإضافات عن النص الشعري المغنى خصائصه وسماته الأسلوبية.