مرسي جميل عزيز هو سيرة الحب التي امتدت لقرابة 59
عاما غنى فيها الشعر حبا والحب شعرًا، تكوين الجمل الشعرية سَلسَل وندى عذب الكلمات،
تتراقص على تشكيل نوتته وتتسلسل روحه الشفافة إلى أرواحنا في بهاء الياقوت.
جسّد أبداع مرسي جميل عزيز نسيج المدينة التي نشأ بها
"الزقازيق" بدلتا مصر ، التي تمثل نقطةَ تقاطعِ الريف والمدن الحضارية، فهي
بالجغرافيا مركز حضري يتوسط "القاهرة" و"مدن القناة" و"دمياط"
و"المنصورة"، ومن ثم يتيح لساكنيها التواصل والتأثير بأنماط فنية متنوعة،
وهي مركز حضري لمدينة تحمل صبغة صناعية تعد مركزاً تقليدياً لصناعات الزيوت والصابون،
ولكنها بنكهة زراعية محاطة بأهم الأراضي لزراعة الأرز والفاكهة في "مصر."
أثر نسيج المدينة على سمات "عزيز" في الكتابة
تأثيرا كبيرا، فالبشر والحجر والمسارات والأبنية، والمسطح الأخضر، والآلات والمصانع
رسمت ملامحه الإبداعية.
يذهب جمال حمدان إلى "وصف شخصية مصر"، بأن
الكلمة المفتاح في شخصية مصر الطبيعية "البساطة"، بساطة تتجلى في بنيتها
و سمات وجهها التضاريسى ممتدة إلى مناخها و قاعدتها الجيولوجية الراسخة القديمة، تتعقد
عملية بنائها، إنما خضعت لإيقاع منتظم يتراوح بين الإضافة والإزالة في علاقة متواترة
بين البحر واليابس، ويأتى أخيرا النهر ليضيف إلى صحراويتها تأثيره المورفولوجى الخاص
على طول مجراه متمثلا في الوادى والدلتا والفيوم، وهو ما يعرف بـ"المورفولجيا
الحضارية"."
البساطة تلك الكلمة التي تسكن أحاديث "عزيز" في كثير من اللقاءات، ففي استضافته
بأحد البرامج سألته المذيعة آنذاك "عن استقباله للفنان "عبدالحليم حافظ،
فقام بالرد عليها: "عندما جاء لي الشاب النحيل عبدالحليم شبانة بصحبة الموسيقار
محمد الموجي، استقبلته في بيتي، وأقمت سهرة فنية كما طلب الموسيقار "الموجي"
وجاء الولد وغنى "ولد الهدي" لأم كلثوم، فأصبت بحالة ذهول، واندهش الحاضرون
من أدائه وصوته السليم في أداء الأغنية.
وأكمل "عزيز" حديثه، وقال: "فطلب مني
"الموجي" كتابة أغانٍ لحليم، فقلت "أتمني أن أكتب له"."
وقام "عزيز" بكتابة أول أغنية للعندليب الأسمر
عبدالحليم حافظ أغنية "مالك ومالي يا أبوقلب خالي" ثم توالت بعد ذلك الأغنيات
التي قام بتأليفها مرسي جميل عزيز ورسمت مشوار العندليب الأسمر، فكان للعندليب الأسمر
النصيب الأكبر من أعمال مرسي جميل عزيز، حيث غنى من كلماته 35 أغنية، ومنها أغاني
"الليالي، اسبقني يا قلبي، نعم يا حبيبي نعم، في يوم في شهر في سنة، أعز الناس،
بأمر الحب، يا خلي القلب، جواب، بتلوموني ليه"، وغيرها الكثير.
أطلق "عزيز" على "حليم " صفتين"
البساطة والألفة" فقال: إنه يشبه كثيرا صوت الشيخ محمد رفعت، فصوت حليم صوت
"ألفة"، فعندما تقابل إنسان في الشارع لأول مرة وانت متعرفهوش، لكن بتشعر
فيه بألفة وونس هو كذلك صوت "حليم"، والشيخ محمد رفعت صوت "بسيط"
يدخل قلبك بسرعة وببساطة، وكذلك كان صوت حليم يحسسك بالمعنى المطلوب مثل صوت الشيخ
محمد رفعت تماما.
هو ذلك الفلاح الفصيح الذي منحه النهر الحياة ومنحته
السماء الوحي ومنحته الأرض التجذر، فأنتج إبداعا مصريا، بغناء متفرد، في رائعته
"سيرة الحب" :
طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب
وظلم الحب لكل اأأصحابه
وأعرف حكايات مليانة آهات ودموع وأنين
والعاشقين ذابوا ما تابوا
يستهل القصيدة بالوصف الشعوري ثم ينتقل إلى نتيجة
"والعاشقين ذابوا ما تابوا، ذابوا ما تابوا" ديمومة الحب.
مرسي جميل عزيز الاسم الثلاثي الأعذب في دنيا الغناء
هو من رسا على مرفأ الحب فعز عليه النوم وظل يقظا ينشر كل جميل حولنا، كالفراشة ظل
يطير من هنا لهناك، كتب أول قصيدة شعرية في سن الثانية عشرة في رثاء أستاذه، وفي عام
1939 أذيعت له أول أغنية في الإذاعة ولم يتجاوز الثامنة عشرة بعنوان "الفراشة"،
ولحنها الموسيقار رياض السنباطي، وفي نفس العام انطلقت شهرته عندما كتب أغنية
"يا مزوق يا ورد في عود" وغناها المطرب عبد العزيز محمود.
عزيز وأم كلثوم
حكاية بدأت بهروبه منها إلى أن كانا على موعد مع القدر
لتغني له ثلاثية، وقال عزيز في أحد البرامج
."ليه اتشعبط في "أم كلثوم" و"عبد الحليم"
و"عبد الوهاب"، خليني بكرامتي طالما أنا بوصل الناس ويكونوا نجوم"
سيطرت على "عزيز" فكرة شريرة منعته من العمل مع أم كلثوم، حيث وجد
أقرانه الشعراء لكل مغنٍ شاعرٌ معين ساهم في نجوميته: "لولا أم كلثوم ما كانش
اتعرف أحمد رامي ولولا فريد الأطرش ما كانش اتعرف محمود الشناوي، ولولا عبد الوهاب
ما كانش اتعرف حسين السيد.
فكر في الأمر، فوجد نفسه يعمل مع النجوم الصغار فيكبرون
بأغانيه بحسب اعترافهم بذلك: "اشتغلت مع عبد الحليم في أول أفلامه وأغانيه، ورشحت
فايزة أحمد للغناء في الإذاعة وكتبت لها أول أغنية على مسؤوليتي، ومحرم فؤاد، وصباح
قالت لولا أغنية مال الهوى كنت بقيت درجة تانية".
عزيز وعبد الحليم حافظ
""على طول الحياة
نقابل ناس ونعرف ناس ونرتاح ويا ناس عن ناس".. مقطع من أغنية "أعز الناس"
للعندليب الأسمر الذي تغنى بها من ألحان الموسيقار بليغ حمدي الـ39، غنى من كلماته
عبد الحليم حافظ، وكان له النصيب الأكبر بـ35 أغنية، بدايةً بـ"مالك ومالي يا
أبو قلب خالي"، مرورًا بـ(نعم يا حبيبي، بأمر الحب، يا خلي القلب، بتلوموني ليه،
في يوم في شهر في سنة)، وغيرها من الأغاني.
عزيز ومحمد عبد الوهاب
جايّين الدنيا ما نعرف ليه
ولا رايحين فين، ولا عايزين إيه
مشاوير، مشاوير مرسومة لخطاوينا
نمشيها في غربة ليالينا
مشاوير نمشيها في غربة ليالينا
يوم تفرحنا ويوم تجرحنا
واحنا ولا احنا عارفين ليه
تجلى التعاون مع عبد الوهاب في أغنية "من غير
ليه" التي كانت آخر ما كتب "عزيز"، استمر العمل فيها لعامين بسبب خلافات
بين "عبد الوهاب" و"عزيز" على بعض كلمات الأغنية، وكان من المقرر
أن يغنيها عبد الحليم لكنه قال لعبد الوهاب هذا "أنا حاسس إن اللحن ده وهابى مش
حليمى يا أستاذ" وكأنه يعرف أنه لن يغنيه، ورحل العندليب قبل غناء "من غير
ليه"، وقام بغنائها عبد الوهاب في 1989 بعد غياب طويل، وحققت نجاحا ساحقا.
عزيز و فيروز
هو الشاعر المعاصر المصري الوحيد الذي غنت له السيدة
فيروز قصيدته "سوف أحيا"، وأصبحت الأغنية بعدها واحدة من أهم الأغنيات في
تراث الإذاعة المصرية، حيث سُجلت في استديوهاتها أثناء زيارة فيروز والرحبانية إلى
القاهرة.
عزيز و فايزة أحمد
وساعد الشاعر في نجاح العديد من المطربين إذ أن أغنياته
ساهمت في شهرة فايزة أحمد، إذ كان أول من آمن بموهبتها وقدّمها في الإذاعة المصرية
بعد أن جاءت من سوريا، ومن أغانيه لها "تمر حنة"، "يا امه القمر ع الباب"،"
ليه يا قلبي ليه"، "حيران"، "بيت العز"."
كذلك محرم فؤاد، الذي ألّف له كلمات فيلمه الأول مع
سعاد حسني "حسن ونعيمة"، كما تعاون مع شادية، في عدة أعمال منها أغاني فيلم
"الزوجة 13"، وقدّمت أجمل أغانيها "على عش الحب"، و"حياة
عينيك"."
أعماله للسينما
مرسي ألّف أغاني لـ25 فيلمًا بدأها بـ"مبروك عليكي"
عام 1949، واختتمها بـ"مولد يا دنيا" عام 1976، وأشهرها أفلام: "حكاية
حب"، "أنا وبناتي"، "المرأة المجهولة"، "أحبك يا حسن"،
"أدهم الشرقاوي"، "الشموع السوداء"، ويوم بلا غد"، وتنوعت
حالات أغانيه بين طابع التفاؤل كـ«ليه تشغل بالك، ضحك ولعب»، والقصيدة الشعرية والأغنية
الإنسانية التأملية مثل "غريبة منسية، وأعز الناس"، وكتب أيضا عدة أغانٍ
وطنية منها "بلدي يا بلدي" لـ"حليم"، و"بلدي أحببتك يا بلدي"
لـ محمد فوزي.
قام بكتابة الأغنية بألوانها المختلفة العاطفية والوطنية
والشعبية والدينية ووصلت لأكثر من ألف أغنية وقصيدة، ولذلك لُقب بشاعر الألف أغنية،
وإلى جانب كتابته للشعر والأغنية كتب الأوبريت الغنائي والقصة القصيرة والسينمائية
وسيناريوهات بعض الأفلام وأيضا كانت له المقالات الأدبية في الصحف والمجلات المصرية
حتى اعتبره النقاد ظاهرة أدبية وفنية بارزة.
التكريم
كرمته الدولة بوسام الجمهورية للآداب والفنون عام
1965 من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ضمن أول مجموعة صغيرة مرموقة تحصل عليها في
مجالات الفكر والفنون والآداب، كما أطلقت محافظة الشرقية اسمه على الشارع الذي كان
يسكن فيه بمدينة الزقازيق
وفاته
في التاسع من شهر فبراير من عام 1980م توفي مرسي جميل
عزيز إثر إصابته بمرض خطير سافر بسببه إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج، وبعد
فترة قضاها في المستشفيات الأمريكية عاد ليموت فوق تراب مصر ودفن في مسقط رأسه.
سنظل نتأمل مُنجَزه الشعري والدرامي بامتنان لتشكيله
لوجداننا بكل بساطة و"طزاجة" كفاكهة روحه.
نستيقظ معه في الصباح بصوت فيروز، لتنفس الحب، ونجالس
في حضرته "حليم"، ونمر في شوارع القاهرة، وندخل إلي مقاهٍ لنأنس به ومعه نركن لزوايا البيت لنشهد عزه، فتتراقص ستائره الحرير من نسمة شوق فنطير زي العصافير
في صوت شادية، ونرقب جرس الباب في انتظار فايزة أحمد لتفتح لذاك "القمر اللي ع
الباب"، ذلك الباب الذي يقاسم الحلوة شباكها الغناء بصوت محرم فؤاد أسمراني اللون
"الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا في البساتين"
لتتشكل
في الذاكرة روايات نجيب محفوظ كمشربية تدخل عبر فتحاتها نور الشمس الذي يلمس المقاعد
بدفء وترتسم على المرايا مزهيرة كريستال بها وردة حمراء بلدية تغني "أكدب عليك
لو قلت بحبك لسة"، إلى أن يأتي المساء لننتظر ظهور "كوكب الحب" أم كلثوم،
لتخشع أضلعنا في حضرة الحب لنعيش أجواء ثلاثية "عزيز" في "ألف ليلة
وليلة"،
" و"سيرة الحب" و"فات الميعاد
وسميت تلك
الأغنية "ألف ليلة وليلة" نسبة لرقمها
١٠٠١، من قائمة ما قدم، فقدم لنا رؤية درامية مغناة من تشكيلات الحب ومقاماته بين الشوق،
والهجر واللقاء، في وصف بليغ حمدي لجمل لحنية وكأن بحور الشعر سيرت مركب الحب في شراع
أم كلثوم لنبحر إلى ما لا نهاية في العشق تلامسنا طيوف الليل لنستكين في ليلة حب حلوة
بألف ليلة وليلة في دنيا الله.