السبت 28 سبتمبر 2024

هدير ماء حر على ضفاف الشعر

فن19-10-2020 | 21:05

في روايته (كانكان  العوام الذي مات مرتين) يضعنا الكاتب البرتغالي العظيم (جورجي أمادو) أمام بطل من نوع خاص وفريد يبتكر أمادو شخصيته (كانكان) أو (كينكاس) ليضع لها نهايتين أو ميتتين بحسب النص ، فما بين الموت التقليدي، والذي يجسده التصور الأول الذي يطرح صورة لشخص يموت وهو في كامل أبهته فنراه يرتدي الإسموكين الفاخر والحذاء الغالي والعطر العابر للحدود، وهي أشياء يرفضها بطل أمادو إذا كانت من قبيل التصنُع والتمثيل، التكلف الذي يقتل الروح والفن معاً، فالبطل الحقيقي لدى أمادو هو الذي ينتصر للحياة حتى ولو اختار موته وهو يحمل لقب ملك البسطاء ودليلهم في الحياة كما اختار الشاعر (مرسي جميل عزيز) أن يكون قصيدة لا ينتهي أثرها أو أغنية اختارت أن تتمرد على قدرها الجاهز، لتخلق عالمها الخاص والحقيقي من آلام عشاقها النادرين حيث الطبيعة والبحر جنة الصيادين عند منحدر السفن، فيختار أن يتمرد على الحياة الضيقة والصيغ المقررة سلفاً، ليصنع صيغته الفنية الكبيرة والملهمة لينتصر لمعنى الحياة الأكبر كما فعل أمادو فترك بطله يفر من الرواية ليصنع قدره، أن تختار موتك كما تختار حياتك.

ضرب (مرسي جميل عزيز) كل الصيغ المُفتعلة والأشكال الثابتة كما ضرب (أمادو) صورة الموظف الأنيق الذي يرتدي الإسموكين ليضعنا أمام بطل من لحم ودم، وهو ما فعله (مرسي جميل عزيز) الذي قدم أغنياته كأنها نسيج لبشر سيناريوهات كاملة لحياتهم بتفاصيلها الممتدة، لدرجة تكاد تصل إلى أن الأغنيات لها أبطال تمثلها تقدم صورتها الحية إلى جمهور المتلقين، وهذا ما يجعلني أقول إن أغنيات الشاعر ابنة شرعية للحياة ، لذا ظلت حية وحاضرة ظلت مقاومتها تنمو في مواجهة أي جديد لتصبح هي الجديد ذاته، إن المتأمل فى تجربة الشاعر(مرسي جميل عزيز) يمكنه أن يعرف بسهولة أنه هو من رسم خريطة الأغنية المصرية بأقاليمها المتعددة، وإذا أردنا أن نرجع ذلك فستكون الأسباب كثيرة، يأتي أول هذه الأسباب الدقة المتناهية في اختيار الأفكار وتنوعها، فمثلاً الشاعر هو أكثر الشعراء كتابة عن الحب، إلا أنه في كل مرة بمنطق مختلف وصورة مرجعيتها تعود إليه وحده، إضافة إلى مناقشته للحكم كمفهوم يجعلنا أن نعجز أمام مصادره المتعددة والجديدة في كل مرة، فالحب الذي تتناوله أغنية كأغنية (نار) مثلاً مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ والتي تصور حالة البطل الذي يواجه نار محبه لدرجة إذابته، فأوصلته إلى الإقرار بأنه يتعذب من فرط حبه له وهي درجة أقرب إلى الصوفية في سرها (يا مدوبني في أحلى عذاب / ببعتلك بعنيا جواب / مش لوم يا حبيبي ولا عتاب / مش أكتر من كلمة آه يا حبيبي بحبك) النار هنا ظل المحب وروحه وطريقه الذي ينشد (حبك نار مش عايز اطفيها / ولا اخليها دقيقة تفوتني ماحسش بيها) الاختيار كما أشرت يختار البطل هاويته كما في النص ، إن الحب هنا ابن البكارة ابن الحياة إن أهم ما يميز أغنيات الشاعر (مرسي جميل عزيز) والتي تصل في جمالها إلى حد الشعرية المذهلة، أنها اختلفت في تناولها وعرضها للمفاهيم الأساسية للفن، فالحب لديه يخرج من متحف البلاغة والجمود ليكتشف ذاته كبطل حقيقي وحي، يمكننا أن نلمحه في الشوارع وفي عيون المارة، نعم يمكنني أن أقول إن الحب اكتسب طزاجة جديدة في أغنيات (مرسي جميل عزيز) هذا بالإضافة إلى التنوع الذي أشرت إليه في السابق، ويمكننا أن نتأمل أغنيات أخرى لـ (عبد الحليم حافظ) (بأمر الحب – اسبقني يا قلبي – الليالي – راح – أعز الناس – يا خلي القلب) ومن هذا الشكل لمفهوم الحب ننتقل إلى صورة أخرى للحب هي في الحقيقة من أكثر الصور عذوبة ورقة وهي الصورة التي قدمتها أغنية (أما براوة) الرائعة مع الرائعة (نجاة) ووضع لها اللحن المتفرد (محمد الموجي) ليقدموا جميعا صورة تستفيد من القاموس الشعبي منذ البداية (أما براوة) وهي جملة تشي بالدهشة والإشارة إلى عنصر المفاجأة كنتيجة لفعل أيده البطل الأول في الحكاية (دوار حبيبي طراوة آخر طراوة) المكان في القصة يتبع البداية (قُلة حبيبي مليانة وعطشانة يانا) التفاصيل التي تدفع راوي الحكاية إلى السؤال المنطقي (أروحله ولا أروح أشرب حدانا) ففي كل جملة نكتشف أهم عناصر الدراما، ألا وهي الحركة إن الجملة لدى (مرسي جميل عزيز) تتحرك كدلالة على الحدث، من هنا لابد أن أشير إلى ملمح آخر في ظاهرة (مرسي جميل عزيز) الفنية والكبيرة، أنه استطاع أن يحقق شرطاً ليس من السهل تحقيقه، إلا إذا كان يمتلك شاعرية مرعبة وجبارة  وهو ما قد حدث، لقد استطاع الشاعر أن يكون الأغنية الجميلة لكل من تعامل معهم، لدرجة تصل في حالات كثيرة أن تكون أجمل أغنيات المطرب أو المطربة هي من شعره ومن روحه الخاصة ويمكننا أن نقول مثلاً المطرب الكبير (محمد قنديل) (يا حلو صبح) و (3سلامات) وغيرها كذلك يكفي أن نقول (فايزة أحمد) نكتشف (يا اما القمر ع الباب) أو (حيران) أو (ليه يا قلبي ليه) وغيرها من الأغنيات المهمة، وهل من الممكن أن ننسى ثلاثيته الخالدة مع كوكب الشرق (أم كلثوم) (سيرة الحب) (فات الميعاد) و(ألف ليلة وليلة) وهي الثلاثية التي وضع ألحانها الراحل العظيم (بليغ حميد) لتكون أيقونة في تجربة (أم كلثوم) والتي منحتها تجربتها لقب (سيدة الغناء العربي)، كذلك تأتي تجربة (محرم فؤاد) الفنية والتي قدمها (مرسي جميل عزيز) منذ ميلادها حين كتب له أغنيات فيلمه الأول (حسن ونعيمة) أمام السندريلا (سعاد حسني) وهي تجربتهما الأولى، وهل من السهل أن ننسى (الحلوة داير شباكها) التي كانت تطرح صوراً كانت جديدة على الغناء آنذاك، وهي أيضا ً تنتمي إلى أغنية الدراما التي تستند إلى الحركة كأساس في تكوينها الفني، أضف إلى ذلك أغنيات (رمش عينه) وتحفته (يا غزال إسكندراني) – (وإنتا عني بعيد) وغيرها من الأغنيات الناجحة والأساسية في تجربة (محرم فؤاد)، ومن خلال تجارب كثيرة سنكتشف أن الصورة والحركة شريكان أساسيان في شعرية (مرسي جميل عزيز) وهي الشعرية التي تفوق التصور، وهي أيضا شعرية خبيثة وخادعة من حيث بساطتها فإذا أردنا أن نسميها فليس أمامنا سوى تسميتها (البساطة المعجزة)، إن بساطة شاعرية (مرسي جميل عزيز) المدهشة والخادعة هي نفسها بساطة (محمد فوزي) الخادعة في ألحانه المتطورة إلى حد الإعجاز، وأود أن أشير هنا إلى أن الدخول إلى عالم (مرسي جميل عزيز) أشبه بالدخول إلى متحف كبير لا تنتهي لوحاته أو لقطاته الحسية البالغة الإثارة، إن أول إحساس ينتابني وأنا أستمع إلى أغنياته هو أنني في مرسم أو معرض فني متكامل، وهو ما تحقق في أغلب أعماله الفنية، ولنا في تجربة (من غير ليه) مع الموسيقار الكبير وأجمل من غنى (محمد عبد الوهاب) دليل كاف على ذلك، (خايف طيور الحب تهجر عشها وترحل بعيد / خايف على بحر الدفا ليلة شتا يصبح الجليد)، أود أيضا أن أشير إلى ميزة أخرى في أغنيات (مرسي جميل عزيز) إنها أغنيات يمكنها أن تعيش كتجارب شعرية بمفردها، وذلك يرجع إلى أنه يقدم بورتريهات لا يمكن لأي لحن مهما كانت درجة جماله أن يُمحي شخصيتها، لذا تظل حية وحاضرة، لأنها نصوص كفيلة بتحقيق المتعة إذا ما قرأناها بعيداً عن الألحان التي وضعت لها، نعم أستطيع أن أقول إن نصوص (مرسي جميل عزيز) قادرة على صنع المتعة بانفراد تام، فبالإضافة إلى شاعريتها، تأتي حداثة أفكارها ومعانيها واكتشافها لمناطق في الكتابة لم تكن مُكتشفة من قبل، من هنا يمكنني أن أقول بعد 40 عاماً على رحيل فارس الأغنية العربية، أو شاعر الألف أغنية، أو موسيقار الكلمات، أو الرسام، أو عملاق الأغنية الشعبية، أو الجواهرجي، أياً كان اللقب كلها أسماء لشخص واحد هو الشاعر (مرسي جميل عزيز)، إن تجربته عصية على النسيان كما أعترف أن الحديث عن شاعر مثله أو تجربة كتجربته يُعد خطراً داهما ً يحل بصاحبه، إذ يخشى أن يقصر في حقه وكثيرا ما يحدث، فالمكتبة العربية مثلاً ليس فيها كتاب يمكنه أن يعبر عن القيمة الحقيقية لـــ (مرسي جميل عزيز) الذي صنع بالأغنية ما لم يصنعه أحد قبله، لذا سيظل اسمه نغمة من الصعب تخطؤها أذن، وكيف وهي النغمة التي أصرت أن تحيا كما قال هو في رائعته الكبرى مع جارة القمر السيدة (فيروز) وهي قصيدة (سوف أحيا) والذي يطرح فيها سؤاله المهم والأثير (لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه) إن اسم (مرسي جميل عزيز) سيظل معنى كبير في ذاكرتنا الفنية وشلال ماء حر على ضفاف فننا العربي.