الأربعاء 19 يونيو 2024

الصورة عند "عزيز الأغنية المصرية" مرسي جميل عزيز

فن19-10-2020 | 21:09

كانت الصورة عنصرًا مهمًا في أغلب أغنيات مرسي جميل عزيز، بل إنها أهم ما يتميز به مرسي جميل عزيز عن غيره من شعراء الأغنية، فلم تكن تخلو أغنية من أغانيه من صورة موصوفة أو مرسومة أو متحركة بحركة سينمائية إبداعية في هيئة سيناريو مصغر تقترب فيه الكاميرا وتبتعد لتجسيد المعنى بأعمق عناصر الجمال، كان ذلك يحدث في أبسط أغانيه وأعظمها بـ"شاعرية" رقيقة لا يدرك معها المتلقي أي قدر من التصنع، فتجده في أغنية (فات المعاد) لكوكب الشرق أم كلثوم يعبر عن انتهاء العلاقة وانطفاء جذوة الحب بين الحبيبين قائلا: فات المعاد وبقينا بعاد.. والنار بقت دخان ورماد..فات المعاد، أي تصوير أبلغ من هذا، وأي دلالة فجّرتها هذه الصورة في وجدان المستمع مع كلمات جعلته يسمع ويرى النار وقد أصبحت دخانًا ثم رمادًا مع تجسيد لحني وجد متسعا للتعبير النغمي للعبقري بليغ حمدي مع صورة قالت كل شيء حتى وجد الجمهور نفسه مع انتهاء الشطرين بصوت أم كلثوم يشعل القاعة بالتصفيق.

ونجده في أغنية شعبية بسيطة مثل (الحلوة داير شباكها) لحن محمد الموجي وغناء محرم فؤاد، يداعب العين قبل الأذن بصورة تلو الأخرى منذ بدايتها فيقول (الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا في البساتين)، ثم يقترب بالصورة أكثر ويقول ( الحلوة م الشباك طلة يحرسها الله ست الحلوين)، ثم يقترب بحركة كاميرا سينمائية فيقول( الحلوة حلوة وسنيورة زي الصورة مرسومة تمام)، ثم يقترب من تفاصيل الملامح فيقول (والشفة وردة في عنقودها أما خدودها تفاح الشام)، ثم تتحرك الكاميرا بصورة مكبرة لعينيها فيقول( يا بحور عسلهم رباني عطشان ياني يا بحور العين)، واصفا اللون العسلي للعين ومحولا فيض حسنها لبحور، لتنبض الصورة بالحياة والجمال لكي يكتمل المعنى حين يقول ( دي نظرة واحدة ترويني وتخليني أشبع سنتين)، ثم يعود من شاعريته للحس الشعبي وأدبياته فيقول (يا مين يوصلني لابوها واللا لاخوها وادفع مهرين).

هنا يبرز عشق مرسي جميل عزيز لفن السيناريو ويتخطى الصورة الثابتة إلى الصورة المتحركة، ويتأكد ذلك في أغنية أخرى وطنية لمحرم فؤاد هي أغنية (سلامات يا حبايب) حين يقول:

صورة بلدي وحبايبي..مرسومة جوا قلبي

مواويل.. تحت شجرة توت في ضلاية

سواقي تدور تخلي الشمس ورداية.

أي جمال هذا في التعبير عن إحساسه ببلده وحبايبه وتجسيد صورة مصر بداخله، وأي بلاغة في تصوير عطاء السواقي ودورانها لضخ الخير في الحقول حتى تتلون الأرض بخضرتها وتتلون الشمس بلون الورد فتصبح (ورداية) بفعل انعكاس لون الخير من الأرض للسماء وانعكاس خيال مرسي جميل عزيز ليثري المعنى ويعمّق الإحساس، ونفس الشيء فعله في أغنية (يا نيل يا اسمراني) وأضاف عليه تلك العلاقة العاطفية بين الفنانة نجاة ونهر النيل ومفردات الغزل المحمّل بالعطش للمحبة التي تقول:

عطشان يا اسمراني محبة..عطشان يا اسمراني

إملالي القناني محبة.. إملالي القناني

يا نيل يا اسمراني..يا نيل يا اسمراني يا نيل

يا أعز الحبايب يا اسمر..عطشان والهوى عطشان

شرباتك يا ورد وسكر إملالي القناني كمان

ثم يذهب بخياله لأنسنة العلاقة بين نجاة والنيل لتصبح علاقة بين اثنين وبينهما عزول فيقول (اِسقيني علطول ولا تسأل في عزول.. اِسقيني وأنا أقول يا نيل يا اسمراني) ويعطي المساحة للملحن محمود الشريف ليصيغ لحنا في غاية العذوبة.

وفي أغنية ( يا امه القمر ع الباب) لحن الموجي وغناء فايزة أحمد، يذهب بتوظيف الصورة إلى عنصرين آخرين من أبدع جماليات الشعر وهما، التورية بمفردة القمر ما بين دلالتين ومعنيين في ( يا امه القمر ع الباب.. نوّر قناديله) وهي تورية فتحت مجالا للجرأة والتجديد، والثاني، عنصر الجناس في تكرار مفردة واحدة ومع كل مرة تعطي معنا مغايرًا في ( يا امه القمر ع الباب نوّر قناديله.. يا امه أرد الباب واللا أناديله) ما دفع الأديب الكبير عباس محمود العقاد أن يقول عن هذه الأغنية (إن فيها من البلاغة أضعاف المئات من قصائد الشعر العربي، ودفع عميد الأدب العربي طه حسين للتصدي لمن هاجموها واعتبروها أغنية خادشة للحياء لما فيها من جرأة في التصريح من بنت عن إعجابها، وطالبوا بإيقافها في أواخر الخمسينيات، بل إن الحكومة الأردنية أوقفتها فعلا، وكتب عميد الأدب العربي طه حسين وقتها مقالا عن جمال استخدام مرسي جميل عزيز للتورية في مفردات:

يا امه القمر ع الباب.. نور قناديله

يا امه أرد الباب واللا أناديله

يا امه القمر سهران.. مسكين بقاله زمان..عينه على بيتنا

باين عليه عطشان..وحد م الجيران..وصفله قُلتنا

أسقيه ينوبنا ثواب.. واللا أرد الباب..يا امه أمه.

كان هذا الهجوم، رغم أن مرسي جميل عزيز كان دائما يراعي في الأغنية الشعبية طبع وطبيعة الحارة المصرية، فنجده في نهاية الأغنية يقول:

يا امه القمر ع الباب.. نور وقال يا احباب.. ردوا على الخُطّاب

ماعدش فيها كسوف.. يا امه إعملي معروف.. قومي اِفتحيله الباب.

وقبلها وجدناه في أغنية (الحلوة داير شباكها)، غناء محرم فؤاد، حين قال: يا مين يوصلني لابوها واللا لاخوها وأخطبها أوام.

بل إن مرسي جميل العزيز أبدع من نقل روح وحس ودفء الأسرة المصرية مع نفس الثنائي فايزة أحمد ومحمد الموجي في أغنية مثل ( بيت العز يا بيتنا)، وكانت للصورة أيضا نصيبٌ في تجسيد معانيها التي تقول:

بيت العز يا بيتنا.. على بابك عنبتنا

فيها خضرة وضليلة.. بترفرف ع العيلة

وبتضلل يا حليلة يا حليلة من أول عتبتنا

يا بيت العز.. يا بيت السعد.. يا بيت الفرح يا بيتنا.

وعن دفء عش الزوجية تجلت مفردات مرسي جميل عزيز وصوره مع أغنيات مثل (شباكنا ستايره حرير)،غناء شادية ولحن الموجي، والتي قال فيها:

شباكنا ستايره حرير.. من نسمة شوق بتطير

وبقالي كتير يا حبيبي.. يا حبيبي بقالي كتير

باستني تجيب الفرحة.. والتوب الأبيض والطرحة

ونطير ونطير زي العصافير.

وفي أغنية أخرى لشادية من ألحان منير مراد هي (على عش الحب)، يقول مرسي جميل عزيز:

على عش الحب وطير يا حمام على عش الحب

قول للأحلام أنا جاية أوام على عش الحب

وخطيبي حبيبي معايا.. بشويش بيقول ويايا

عارفين سكتنا سوا وحنوصل بيتنا سوا

وننام ونقوم ونقوم وننام على حب في حب

يا حمام يا ابو جناح وردي.. على عش الحب وهدّي

وافرش لنا فرحة كبيرة على قد حبيبي وقدي.

ومع ذلك لم يتخلَ مرسي جميل عن الجرأة والتجديد، بل زادها بعدما درس فن السيناريو، فها هو يتسع في مساحة الجرأة عند المرأة والتصريح الممزوج بالعذوبة في أغنية ( أما براوة ) مع صوت نجاة ولحن محمد الموجي ويقول:

أما براوة براوة أما براوة.. دوار حبيبي طراوة.. آخر طراوة

قلة حبيبي ملانة وعطشانة يانا.. أروحله واللا أروّح أشرب حدانا

أروحله واللا أروّح وبلاش شقاوة..أما براوة براوة على الشقاوة

حبيبي لما ناداني مريت قُباله.. شال طرف شالي وسقاني وطرف شاله

طرفلي عيني يا عيني بس بهداوة..أما براوة براوة على الهداوة.

وقبل أن تدور دائرة السوء في خيالات بعض العقول، يكشف في نهاية الأغنية أن هذه صورة لم تكن سوى حلم كانت المسكينة تتخيله مع نفسها فتقول:

بحلم وأغني لحبيبي وفين حبيبي

ما ليش حبايب ياعيني وأنا ونصيبي

يمكن زماني يصالحني بعد العداوة

وأقول يا ليلي ياعيني أما براوة

كان مرسي جميل عزيز يهوى تحريك الساكن ويغوى مداعبة وملاعبة الجمهور والنقاد، ولمَ لا وهو الذي امتلك كل أدواته كشاعر غنائي لم يكتف بالموهبة فقط، بل درس في الشعر والأدب والسينما والمسرح، وسخّر كل هذا لكتابة الأغنية التي أصبح فارسها وأديبها.

وعن تطور الصور الإبداعية في أغنيات مرسي جميل عزيز لا أجد أجمل من أغنية عبد المنعم مدبولي ( يا صبر طيب)، التي كانت ضمن أحداث فيلم "مولد يا دنيا"، والتي اجتمعت فيها كل جماليات الشعر وفلسفاته رُغم بساطة مفرداتها على لسان سائق حنطور جار عليه الزمن وتقول:

زمان وكان ياما كان .. كان الزمان إنسان

دلوقتي ليه يازمان .. مابقتش زي زمان

يرحم زمان وليالي زمان.. الناس يا متهني يا فرحان

الدنيا كانت وردة وشمعة.. ولسة ما اخترعوش أحزان

ساعات ألفّ أزفّ عرايس وساعات أدور مع نور عرسان

وياما كان بيجيلي مزاج ألسوع العزال كرباج

ولما أقول شي الزفة تمشي.. ولما أقول هس.. كله سمع هس..ودُقي يا مزيكا.

وفي نهايتها المبكية بلحن كمال الطويل تقول:

آه يا زمان العِبر.. سوق الحلاوة جبر

إحنا اللي كانوا الحبايب بيسافروا بينا القمر

بقينا أنتيكة.. دُقي يا مزيكا

الدنيا فبريكة بتفرم الإنسان..قصدي اللي كان إنسان.

وكانت الفلسفة تستهوي مرسي جميل عزيز، فيستخدمها حتى في الأغنية العاطفية ليضفي عليها عمقا وبعدا آخر، فوجدناه أسقط الفلسفة الوجودية على أغنية (من غير ليه) التي غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب، رغم أنه يتحدث في النهاية عن علاقة عاطفية إلا أنه صورها كـ "قدر" وربط بينها وبين قدره كإنسان في رؤية لم تخلُ من صورة تعبيرية ولم يسبقه إليها أحد ويقول:

جايين الدنيا ما نعرف ليه.. ولا رايحين فين ولا عايزين إيه

مشاوير مرسومة لخطاوينا.. نمشيها في غربة ليالينا

يوم تفرحنا ويوم تجرحنا وإحنا ولا احنا عارفين ليه

وزي ما جينا ومش بإيدينا

زي ما رمشك خد ليالي وحكم وأمر فيها وفيه

ولقيت بيتي بعد الغربة قلبك ده وعيونك ديه

ولقيت روحي في أحضان قلبك.. بحلم واصحى وأعيش على حبك

حتى في عز عذابي بحبك.. عارف ليه.. من غير ليه

هذا هو مرسي جميل عزيز"عزيز الأغنية المصرية"، الذي أحب أن أختم مقالي عنه بصورة رائعة سطّرها في أغنية (جواب)، لحن كمال الطويل، وغناء عبد الحليم حافظ، وأقول ما قاله في آخرها:

وختامًا لك ألف سلام .. ومحبة وأشواق وغرام .. من قلب لا يهدا ولا ينام.. قلب حبيبك

نعم قلب من ملايين القلوب التي عشقت مفرداتك وأغانيك ونبضت بالعشق على ضفافها وعلى ضفاف معانيها وسحرها وسحر ما خرج منها من نغم عذب وألحان طربة لعظماء اللحن وغرّد بها أجمل الأصوات.