البيت ... تلك الحجرات الضيقة الفسيحة فى قلبى ... هذا البناء الواهن السامق المتناه فى الصغر ... والشاهق فى ذاكرتى الطفلة ... كل شق فى جدرانه وكل حجرة فيه ...كل بيت بجواره يتكئ عليه ... بيوت الشارع كلها تذكرنى بلحظات النجاح والانكسار ... هنا كلنا ... أصحاب مكان عندما تنفست هواء القرية مساءً عند عودة الأغنام والأبقار من الحقول ورائحة أوراق البرسيم الأخضر المحمل بالأكسجين النقى مع نسمة العصر ... جلساتنا قبيل المغرب أمام المنزل مع الأصدقاء وشاى العصر ... صوت عبد الوهاب الخارج خلسة من راديو قديم على رف متهالك على جدار يستر عرى المنازل الفقيرة ... من هذه المفردات الدقيقة .. والكبيرة فى داخلى تشكلت ذائقتى الشعريه فى الكتابة العاميه
تعلقت بداية بكتابات بيرم التونسى وشعره الذى يكتبه ببساطة تدخل قلبك
.. ثم صلاح جاهين هذا الرسام الكاتب السيناريست المبدع .. شعره ورباعياته الذى يتهكم عليك شعرا فتحبه .. فؤاد حداد وشعره الذى عبأ كيانى كله برائحة الأرض والناس .. حتى التقيت فى منتصف الثمانينيات بالراحل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى .. كنت متأثرا به كثيرا لدرجة أنى كتبت قصيدة ألقيتها بين يديه وشكرنى وقال لى .. هاتبجى شاعر كبير .. بس ما تقلدنيش .. انت موهوب .. لكن انك مش ام عبد الرحمن وعنتك مش فاطمه .. وبلدكم مش ابنود .. اكتب نفسك انت .. كنت أقول فى القصيده
أحلى ما فيكى ان قلبك لسه طاهر ..
لسه ماعرفشى المظاهر
لسه أخضر لون عنين كل الولاد المرتاحين
يسألونى فى غربتى من فين سمارك
هيه ساكنه الشمس جارك ؟؟
منذ هذا اليوم وأنا أكتب نفسى
تصدرت ديوان "حكاوى الضل" ثم كتبت أشعار مسرحيات كثيرة أكثر من 20 مسرحية ثم كتبت لإذاعة أغنيات للفنانة فاطمة عيد ألبوم طمع النفوس.. ثم للفنانة غادة رجب من ألحان الموسيقار محمد على سليمان.
ثم كتبت أوبريتات غنائيه، ونشرت فى معظم المجلات المعنية بشعر العامية
صدر لى فى شعر العامية ..غناوى الضل .. وتحت الطبع "قعدة شاى"
.. وكتاب للأطفال بعنوان الرسم بالألوان.
ثم كتبت لمجلات الأطفال مثل قطر الندى وغيرها تبسيطا للمهن والحرف اليدوية كالخياط والمنجد والحداد والصياد والترزى .. إلخ وكانت تنشر شهريا بشكل مستمر ..
منحدرات النهر / لانك ارضى ولانى نيلك / العصفور / تداعيات إلى النهر / هذه العناوين وغيرها هى لبعض إصدارتى الشعرية والتى لم تأت صدفة .. وإنما صاغتها داخل عقلى اللا واعى تلك المفردات التى عشتها وأعيشها منذ طفولتى والتى رسمت دون وعى منى ودون إرادة سلوكا ومنهجا وطريقا أسير به وعليه حتى الآن ... البائعون والحدادون والنجارون وتجارالأثاث والموبيليا .. الموظفون البسطاء الخياطون ... الترعة التى كانت تمتد من منبع النيل جنوبا هى وبحر يوسف ثم يفترقان عند مدخل مدينتى
" أهناسيا المدينة " تلك البلدة التى قدر لها أن تحكم مصر فى الأسرتين التاسعة والعاشرة ... 3005ق م
كيف لهذا الصبى الذى حلمت أمه أن يصير وليا من الأولياء أن يصبح كاتبا ... وشاعرا ...
هذا الصبي ... الذي
لم يكن
قد أتى الحلم بعد
الذي
حينما كان يومئ ....
لا تستجيب البيوت
الصبي الذي ...
كان يحلم أن تستفيق الشوارع
حين يغنى لهم
أصبح الآن كهلا ... ومازال يحلم أن
تستقيم على راحتيه البيوت
وترقص بين يديه العرائس
شكلت برديات أو "شكاوى الفلاح الفصيح" حالة وجدانية لازمتنى طوال فترة صبايا المبكر .. كنت أجلس أسفل شجرة الصفصاف المائلة إلى الماء والتى تواجه منزلنا القديم، وأصنع عالمى الأدبى وحالتى الشعرية، وأستحضر الوحى ليصب فى أذنى وعلى الورق قصائدى الأولى .. من شعر العاميه والفصحى معا.
النهر إذن هو معلمى الأول .. وبعده شعراء العاميه الكبار كما ذكرت
البائعون وأصحاب المهن الحرة الذين يجاورون منزلى "المنجد" و "الحداد" هذا يسارا وهذا يمينا .. كنت أستيقظ فى الصباح على أصوات الزبائن وهم ينادون على أصحاب الورش الملاصقة تماما لمنزلى ومن شرفة المنزل الصغير أرى جموعا من الناس وقد حضروا لشراء أثاثات العروس وعمل الوسائد والأغطية القطنية .. شكلت هذه الحالة بمفردات أصحاب المهن قاموسا متفردا فى عقلي ليخرج تباعا قصائد وكتابات شعرية ..
عندما زارنى صديقى وأستاذى دكتور مصطفى رجب فى منزلى بداية التسعينيات سألنى : أين النهر الذى تكتبه فى شعرك ؟؟؟ والذى يكتبك
أشرت إلى الترعة الصغيرة التى تمر من أمام منزلى ..
هكذا تشكلت ذائقتى ووجدانى الشعرى
هكذا كتبت وأكتب وسأكتب إن شاء الله ما دامت الحياه