إن المكان الذي ينشأ فيه المبدع أيا كان مجال إبداعه ينعكس بالضرورة على
هذا الإبداع، ويترك ملامحه على تفاصيله
وخصوصيته، ويتجلى هذا التأثير للمكان على السرد بصفة خاصة، سواء القصصي أو
الروائي.
ولأنني ابنة الجنوب، بما له من فرادة في تفاصيل البيئة، فقد أثّر هذا
المكان، ليس على كتابتي فقط، بل على تكويني الثقافي والفكري.، فالانعزال الذي
يفرضه المكان على البنات في هذه البيئة المغلقة وخاصة في وقت الإجازات الصيفية
والتي نبعد فيها عن أماكن التعليم (المدارس والجامعة) وتتقيد فيها خطوات خروجنا،
جعلني ألجأ أكثر للقراءة، لقراءة الأدب والثقافة العامة والتاريخ والفلسفة
والسياسة، ما ساعد على تكوين رؤية للعالم مختلفة عن بنات جيلي واللاتي يقاسمنني
نفس المصير (الانتماء إلى بيئة الجنوب).
طبيعة المكان ومن فيه من شخوص أثرت في حياتي وخاصة أبي الذي كان يؤمن بقيمة العلم في الترقي
الاجتماعي لأب لديه ستة من الأبناء، ويعاني مثله مثل فقراء الصعيد من ضيق العيش
والتهميش، فكان العلم والمعرفة وسيلتين مهمتين من وسائل الحراك الاجتماعية لتلك
الأسرة كثيرة العدد.
لذلك آمن أبي بجمال عبد الناصر ليس لكونه زعيما في بيئة تُقدّر الزعامة
وتؤمن بالزعيم الفرد، بل لأنه أتاح لأبناء الفقراء أن يصلوا إلى مراتب عليا عبر التعليم.
تبني ناصر قيم العدل
الاجتماعي وحاول إنصاف المهمشين
والمضطهدين مما أثر في انحيازي إلى تكوين
شخصياتي من بيئات المهمشين، كل المهمشين،، فكتبت شخصيات عمرة الدار في نطاق هامشين
من الهوامش الاجتماعية، الهامش الأول فقراء قرية من قرى الصعيد، والهامش الثاني
رجالات التصوف، باعتبار أن التصوف هامش في مقابل التصور السني للدين، أما في
"عشق البنات" فاتخذت من الهامش النسوي فضاء سرديا، وفي "ممرات
للفقد" امتدادا لذات الهامش النسوي وفي "جسد ضيق" كان الهامش الديني
المسيحي ودير للراهبات فضاء سرديا لي.
كذلك تأثرت في ذلك في طروحاتي
الفكرية فقدمت رسالة الدكتوراه عن المهمشين والهامش الاجتماعي وكذلك جُل أبحاثي
النقدية أكتبها من نفس زاوية الرؤية ومن نفس المنهج الفكري.
إذن أثّر المكان بتجلياته الزمكانية والاجتماعية
والثقافية على شخصيتي وتكويني وطروحاتي، وإبداعي، فالروائي حين يعمد إلى اختيار
المكان الذي سوف يجعله مسرحا يتحرك فوقه شخصيات رواياته يجب أن يختاره بعين
الفنان، كما يجب أن يتذوّق هذه المكان وتفاصيل العمران فيه، ويتفاعل
معه بذاته وأحاسيسه وتخيلاته وانطباعاته، فالمكان ـ ينصهر في الذات التي تضفي عليه مشاهداتها
وانفعالاتها وتصوراتها، يخلق الكاتب من المكان حيّزاً
متحرّكاً، أي أنـّه يحوّله من مادة صامتة إلى كائن حيّ ديناميكي، فيصبح للمكان
خصوصيته، وتصبح لتفاصيله
هُوية شاعرية خاصة بها، وجمالية متواشجة معها.
والروائي الذي يهتم بالمكان وهو يكتب فضاءه السردي إنما يهتم بالحفر عميقا فيما هو أنثربيولوجي وعجائبي واجتماعي،ساعتها
يصبح المكان بمثابة السينوغرافيا لمسرحة الأحداث.
إن الاهتمام بالمكان وما له من خصوصية يأخذ
أبعادا أخرى لدى الروائيين، فقد يهدف الروائي من خلاله الاشتغال على مفهوم الهوية،
الهوية بمعناها الثقافي ، ويحاول من خلالها الروائي أن يهتم بما هو مبعد ومقصى،
لذا برزت بعد عقد التسعينيات الذي ظهر فيه الاهتمام بروايات المكان قضايا الهامش
والمهمشين، والتفات الروائيين إلى البيئات البينية بين القرى والمدن، ومثلت فرصة
سانحة أمام الروائي أن يعلي من شأن الهامش في مقابل المتن، وخاصة أن جماليات
العولمة ركزت على تفكيك التصورات الكلية للمكان، التي جسدتها الواقعية الكلاسيكية
في سياق الحرب الباردة بين عالمين شرقي وغربي، ومن ثم إعادة توزيع الجغرافيا الثقافية
للعالم على مناطق شتى ذات اختصاص مميز بحسب قضاياها المحلية.
الجنوب في عمرة الدار
في
رواية" عمرة الدار " التي تدور أحداثها في الريف، نلحظ أن تفاصيل المكان
مختلفة، بيئة مكانية جديدة وجب علىّ أن أصورها، ليتعرف القارئ الذي لم يزر
الريف المصري على سمات العمارة هناك.
المكان هنا أصبح أكثر انفتاحا ما بين البيوت
والشوارع ومقامات الأولياء، والحقول. المكان أصبح معادلا لذلك البراح الروحي التي
تسعى الرواية لرصده.
الصوفية أحد أهم تجليات " عمرة الدار"
الصوفية وما تمثله من اتساع وبراح روحي يشمل الكون كله في بنية دائرية، فأي مكان
يتسع لهذا البراح الوجداني المفعم بالوجد والتوق والترقي؟! إنه المكان المفتوح،
إنه القرية وما تمثله عمارتها ومعمارها من اتساع لا نهائي باتساع الأفق الممتد.
إن تشكيل وعي الشخصيات وهُويتهم الثقافية تحدد في
هذا البراح، فكان الريف بكل مفرداته فضاء سرديا لشخوص " عمرة الدار ". وثمة
تباين بين معالجة الروائيين لبيئة الجنوب، فهناك من وقع في شغف الفولكلور وحشد نصه
بموتيفات شعبية لا دور لها في صياغة الدراما السردية، ويقتصر دورها فقط على أن
يقال أنها رواية تُعنى بالفلكلور الشعبي فقط، وهناك من جعل لهذه الموتفيات الشعبية
دورا محوريا في صناعة الدراما في النص. وأتصور أنني في عمرة الدار تمكنت من صنع
ذلك، فالهوية الثقافية للمكان بموتيفاته الشعبية بطل رئيسي من أبطال الرواية، فلم
تكن الحكاية فقط هي البطل، ولا الشخصيات إنما الزمكانية بتقاطعاتها ورصد التغيرات
الاجتماعية التي طرأت على ريف الجنوب مع العناية بما هو شعبي، ورصد اشتغاله في نص
وعلاقته بما هو درامي ودوره في صناعة الفضاء الروائي.
دير الراهبات في "جسد ضيق"
وأعود مجددا
للمكان وكيفية بناء العالم في رواية جسد ضيق التي صدرت قبل ثلاثة أعوام عن دار
الراية بالقاهرة. يتناوب الفضاء الروائي
في النص بين مكانين، الأول كان الصعيد، في نفس القرية التي تمت فيها أحداث
"عمرة الدار"، فألمكان هنا كان امتدادا للمكان في عمرة الدار. والجزء
الثاني من المكان كان دير من أديرة الراهبات، حيث تقرر فردوس الهروب من قصة الحب
الفاشلة مع محمود زميل دراستها وصديق طفولتها، تقرر الهروب فتدخل دير للراهبات،
وهنا ينتقل السرد نقلة نوعية، ليس فقط في تفاصيل المكان المختلفة، بل تأثير المكان
على وعي الشخصيات ورؤيتهن للعالم.تصبح الحياة في الدير مختلفة ومغايرة تماما في
زاوية رؤية العالم والوعي بالذات والوعي بالآخر لدى الشخصيات النسائية وليس فردوس
فقط.
إذن الفضاء المكاني في
جسد ضيق في صعيد مصر، حيث تعيش الطفلة
فردوس حياة مليئة بالتعاسة والألم، لكنها
تمتلك روحا فضفاضة تضيق علي هذا الجسد الذي لا يتسع لكل هذا الفيض الذي تحمله
داخلها رغم كل هذه التعاسة. أعود عبر الفلاش باك لأستعيد طفولة فردوس، أكتب تاريخها الشخصي وعلاقتها بجسدها وعلاقتها
بالعالم وكل ما هو خارج الذات، وحينئذ لا أكتب التاريخ السري لآلام ومعاناة كل
المسيحيين، رجال ونساء، تاريخ الألم المسيحي في تفاصيل مفارقة ومربكة في نفس
الوقت، ففردوس التي تربت في قرية نائية من قري الصعيد والتي تعيش في بيئة "الشعب
المسيحي" المنعزلة، وكلمة الشعب تطلقها الكنيسة علي المواطنين المنتمين لها، وكأن
الكنيسة دولة والمسيحيون شعبها.
وفي طريق الرحلة إلى دير الراهبات تنداح فردوس في شجونها ولا
تفكر إلا في الخلاص الذي ستجده في المكان الجديد "أضواء السيارة التي فزعت
أرنبا في البراري، لم ترها امرأة تجلس في حجرة مظلمة تدعو يسوع أن يستر عرض ابنتها
في الغربة. ورجل يتكور علي جسده بجوار سخونة الفرن يسمع نهنهات الأم المكلومة في
ابنتها ولا يعلق. شهقات المرأة التي ارتفعت وهي تدعو أم المخلص أن يعيد لها ابنتها
ذكره بتفاصيل حياته مع المرأة. وفي ذات اللحظة التي يستعيد فيها الخواجة حنا
تفاصيل حياته مع دميانة كانت فردوس تعيد تركيب مشاهد حياتها قبل أن تتوقف السيارة
أمام باب الدير. كانت الشمس قد غابت منذ ساعة أو يزيد، والأضواء القادمة من الدير
لا تكفي لتبدد وحشة المكان. نزل معها القس وأمر السائق أن ينزل أيضا، فطريق العودة
سيطول وخاصة أنهما سيعودان بعد قليل".
الكنيسة توافق علي ذهابها للدير، فينتقل السرد إلى فضاء مغاير للفضاء الذي تمثلته
في النصف الأول من الرواية :"لاح في فكر فردوس قرار الرهبنة. بدأت الطريق
مستعينة بالأم المباركة وقديس روحها مارجرجس. منذ طفولتها وصورة الراهبات تثير
دهشتها وفضولها. منذ أن كانت تذهب مع أبيها إلي دير الراهبات في الجبل، وهي ترسم
لهن صورة ملائكة بأجنحة بيضاء تجسدت علي الأرض. كانت تراهن في مولد العذراء وقد
وقفن يطبطبن علي أطفال مذعورة من الزحام والصخب. يقفن في شموخ وتسامح يهبن البركات
للنساء الريفيات الراغبات في بركة يسوع. يسقين العجائز اللاتي فرهدهن الحر والعطش،
وقد جئن لأم النور تباركهن. كانت الراهبات تدور بين الصغار والعجائز، تداوي
الأرواح بالابتسامات الحانية، وتهب الصغار الحلوي والحمص والفول السوداني. ولا
ينسين قطع الملبن الطرية علي الأسنان الخربة للعجائز القادمات من القرى النائية".