السبت 6 يوليو 2024

ضد الرئيس

فن20-10-2020 | 20:42

هل يقبل الرئيس أن يعارضه أحد؟..


هل يقبل أن يقف مواطن متحفظاً ورافضاً ما يقدم من خطط وسياسات ويقول: أنا ضد الرئيس؟ وهو لا يرتعد أو يتصبب عرقاً أو ينزف دماً من مصير محتوم بالسجن أو العقاب الشديد؟


بالتأكيد لا أعني المعنى العام لكلمة "ضد" والذي يشير إلى الخلاف والخصومة، وإنما معناها الذي يتضمن ما يخالف آخَر، أو ما يتعارض معه في الرأي أو الموقف أو الاقتناع بشيء ما، فالأصل في كلمة "ضد" أن يكون الشخص مناقضاً لآخر، أو معاكساً، ومعارضاً، ومخالفاً له، ولكن ليس في معنى "ضد" أن يتصيد أو يتربص أو يختلق أو "يفبرك" أو يقبل أن يكون أداة في يد الغير ضد كل شيء من أجل "الضدية" أو "المعارضة" في حد ذاتها.


ولم يقدم قاموس من قواميس اللغة العربية ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن فلاناً ضد فلان تعني أنه عدوه أو خصمه أو المخالف له أو من على خلاف وتصادم معه، أو ما يشير أيضا إلى أن المعارض كالخصم يستحق الوصم بكل ما هو سييء، وحتى لو كان معارضاً أو خصماً، فله حقوق فكل شخص له ما له وعليه ما عليه.

وفي السياسة نجد أن "ضد" تتضمن معنى المعارضة، والمعارضة في اللغة هي الْمخالفة، والممانعة، والمعارضة السياسية لا تخرج عن كونها انتقاد سياسة ما أو تصرف مسئول أو حزب أو فئة برلمانية لأعمال الحكومة وتقديم البديل الأفضل لها بإظهار وتبيان عيوب ما سبق طرحه؛ وصولا إلى قمة الهرم السياسي تنفيذيا بمعارضة وتفنيد قرار أو خطة أو برنامج أو سياسة لرئيس الدولة.


ومن يقبل المعارضة يفتح أبوابه دوما للعدالة، ولم يكن ما تضمنه كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرانسيس فوكوياما بأنه لابد من توفر العدالة وسط أية مجموعة حتى لو كانت من اللصوص إلا مجرد توصيف دقيق لصورة المسئول الذي يترك الباب مفتوحا أمام الديمقراطية الليبرالية دون أن يغلقه بيد واحدة، بينما يمسك في يده الأخرى سلاحه الذي يمنحه بقوة الاستبداد والقهر أن يجعل دماء المعارض مجالا مستباحا، وهنا يختلف الأمر تماما عما طرحه فوكوياما فمن نقول إننا نخالفه شريف ووطني ويسعى للأفضل ويأخذ على عاتقه –مخلصا- أن يخلص المجتمع من معاناته ومواجعه.


ورغم أن أجدادنا الفراعين كانوا يقدسون الملك أو الفرعون ويرون أنه ضمان استقرار الكون واتزانه واستمرار الحياة، فهو من يقيم عبادة الآلهة ويحرس البلاد ويكفل رخاء أهلها، فكان إن ظهر في مناسبة قال العامة "أشرق الملك"، وإن مات قالوا صعد الملك إلى السماء ليشارك موكب آلهتها" إلا أن هؤلاء الفراعين انتقدوا حكامهم برسوم على جدران المعابد تشير إلى معارضة بلا خروج عن الآداب العامة بل كان بعضها يلقى قبولا لدى الملك الذي يتعرض للسخرية والانتقاد، كما عرف الفراعين انتقادات ما يسمى بـ"شقفات القط والفأر" في انتقد ملوكهم على جدران المعابد. ويعتد غالبية علماء المصريات بـ"الشقفات" ويعتبرونها نوعا من أنواع الفن غير الرسمي، وغير الموجود والمنحوت على جدران المعابد، إلا أنها كانت تمثل حيزا من الحرية للفنان الذي يعبر عن رأيه دون إساءة للغير من الحكام أو المحكومين.


وفي تاريخ البشرية والمصريين، وقائع وأحداث تتضمن أنه لم يكن أحد يجرأ على الظهور ضد الملك أو القائد أو الرئيس وأن مجرد المعارضة تلميحا أو إشارة أو تصريحا، فإن ذلك لا يكون له من معان إلا قطع الرقاب وسفك الدماء وتقطيع الأعضاء،والنفي ليس من مكان بعينه وإنما قد يكون النفي إلى خارج الدنيا.


وأكاد أجزم بأنني لو خرجت لإعلان موقفي ضد الرئيس في وجوده، لوجدت آذاناً صاغية، لما أقدمه من حجة وبرهان وتوصيف واستدلال ووعي بما أرى، حتى لو بدا مخالفاً أو معاكساً لرأي السيد الرئيس، لأنني لن أكون في تلك الحالة معارضاً من أجل المعارضة، وإنما أقدم بديلا مخالفاً ومعاكساً في غير خصومة، ولا تصيد، ولا مكيدة أو مكايدة، كما أنني سوف أظل أدافع عن رأيي وموقفي دون ادعاء أن ما أقدمه لا بديل له، غهو مثل كل طرح يحتاج إلى بحث ومناقشة، ومثلما عارضت غيري لابد من قبول المعارضة لما أقدمه.


ولا يكون بديل طرحي حث الناس وحشدهم ودعوتهم إلى العصيان والفوضى والدمار والتخريب، وما يستتبع ذلك من تشكيك فيمن أعارضه وتشويهه ونسج قصص من خيال وحكايات من عدم للنيل منه، بل احتفظ بشرف الخلاف ونبل المعارضة وأخلاقيات تقديم البديل من منصات داخل الوطن لا تجد صداها لدى خصوم من خارج الحدود وأعداء يتحينون الفرصة للانقضاض على كل ما عداهم باعتباره غنيمة لهم تهيئ السبيل لوصولهم إلى سدة الحكم التي فقدوها حينما رفضوا الرأي الآخر.


وأرى أن مصر تحتاج في الوقت الحالي إلى معارضة رشيدة تقدم البديل المقبول للمشاركة في تحقيق المزيد من الإصلاح، شريطة ألا تكون معارضة من أجل المعارضة تحت قيادة زائفة غير واعية نرجسية الهوى، محبة لذاتها، لا ترى إلا تفردها، وألا يرى المشارك فيها بمعارضته مجرد شهادة بجدارته في عالم الشهرة والبحث عن الذات وأمجادها، أو أن تكون تلك القيادة الوهمية، شخصية هيستيرية تعبد وتعشق الاستعراض، وجذب الاهتمام، وتسليط الضوء والبحث عن "مهاويس" لرصاصاته الطائشة وأوهامه التي لا حدود لها.


 أو أن يكون المعارض من المحبطين الذين يعيشون أسرى مخاوف الانعزال عن الناس ورفض المجتمع فيرفع من سقف إحباطه وتهميشه؛ بحثا عن محاولة احتواء المريدين دون وعي أو بسوء تقدير لما يحيط بالمجتمع من معاناة واقعية؛ لأن العالم يتحول أمام هؤلاء ممن يجعلون أنفسهم، ويتصورون ذواتهم ضحايا التهميش والإحباط، إلى مرآة كبيرة لا يرون فيها إلا أنفسهم وأحلامهم، التي ينظرون إليها بعدسة محدبة تكبر ما يرونه من أوهام وأكاذيب، بينما ينظرون إلى ما ينبغي أن يصل إلى الآخرين بعدسة مقعرة، تعدم حقوقهم وتحكم على مستحقاتهم بالإبادة والنسف التام.


هنا تكون "المعارضة من أجل المعارضة" بمثابة تعبير غير صادق عن غضب مؤقت، وسخط غير مبرر، وهروب من الواقع، وعادة ما يكون أصحاب تلك الرؤى ممن يفشلون في الاندماج في المجتمع، فيفرون إلى تلك الصورة من المعارضة التي عادة ما تكون سطحية ودون نضج أو وعي، ومشتتة ويمكن شراؤها من الداخل أو الخارج أو ترويضها وتأجيرها لصالح الغير، فالمهم لدى أعداء الوطن أن يبحثوا عن أبواق للإيجار وحناجر مسبوقة الدفع لتوجيهها ضد المجتمع وقوة دولته وصولا إلى تفتيت تلك الدولة وتشويهها وتدميرها وإسقاطها أيضا.


 كما يمكن أيضا استخدامها في الابتزاز واحتوائها من جانب قوى الشر وأعداء الدولة بالداخل والخارج أو حتى من قبل السلطة ذاتها لأن المعيار يكون في "الدفع" تمليكاً أو إيجاراً أو حتى مفروشاً، وصولا إلى احتلال مقعد "السلطة" رئيساً وحكومة ولا يكون لدى هؤلاء قبول إلا بالرئيس من بينهم والقائد من أهلهم والحاكم من عشيرتهم فإن لم يتمكنوا فليكن هذا الحاكم من الشياطين ولكن لا يكون للرئيس الحالي أو أي رئيس من غيرهم.


ولا أريد بمعارضتي للرئيس ذلك النوع من المعارضة الذي يرفع شعار إسقاط السلطة حتى ولو سقط معها المجتمع كله، وتحول إلى حالة من الفوضى والخراب والدمار التي يقف وسطها أصحاب الصوت العالي ليتاجروا بأوهام لا علاقة لها بالحرية، ولا تمت بصلة للديمقراطية، ولا تقترب من الليبرالية، وإنما تستبدل هدف إسقاط السلطة بالوصول إليها بأي ثمن وبأي تنازل؛ لأن إسقاط السلطة لدى هؤلاء يكون شبيها بالوصول إليها عبر أية وسيلة لتصبح؛ تلك السلطة بمثابة غاية تبرر أية وسيلة تأخذ أيديهم إلى تحقيق هدفهم المنشود.


ولا يوجد نظام سياسي في العالم لا يعترف بالمعارضة من أجل الوصول إلى الحكم، فهذا أمر لا تستبعده أقوى الديمقراطيات، ولا ترفضه أكبر قوى الاستبداد؛ لأن هدف الوصول إلى الحكم يكون محط اهتمام وأولوية كل ممارس للسياسة، وهذا الأمر هو سيد الموقف لدى الأحزاب السياسية بمفهومها العام، وقد كرر الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارا وتكرارا مقولات تتضمن مثل ذلك وحسم الأمر بقوله: "لست ضد المعارضة ولم اتخذ أي إجراءات إقصائية بشأنها" وهو أيضا يكرر دوما أنه يرحب بالمعارضة البناءة ويفتح الباب أمام مشاركة الأحزاب في تقديم أطروحات في الحوارات المجتمعية حول العديد من القوانين والتشريعات والمشروعات التنموية.


لهذا فإنني أعلن صراحة أنني ضد الرئيس، معارضاً من أجل الإصلاح وبحثا عن التوازن والتكامل، لا هادما ولا مخربا، ولا متعاونا مع أعداء بلادي من قوى الشر، ولا أعتقد أن هناك من سيرفض معارضتي سواء الرئيس أو الذين معه، أو ضده، حتى ولو كان هدفي من المعارضة -ضمن كيان حزبي شرعي- الوصول إلى الحكم بداية من النقابات مرورا بالمحليات ومجلسي النواب والشيوخ وصولا إلى الانتخابات الرئاسية.


وأميل إلى المعارضة من أجل الإصلاح، وهو مفهوم متعارف عليه في العلوم السياسية، ولا يثنيني في إيماني بها ما يردده أصحاب الأفق المحدود والرؤية الضيقة بأن من يرددون مثل ما أقول بأنهم يلعبون سراً مع السلطة، أو أن أصحاب تلك السلوكيات المعارضة من صناعة النظم الحاكمة وأجهزها، وأنها تعيش في ظل الرئيس وتمثل دور المعارضة ضحكا على الذقون وسعيا للعب دور المحلل السياسي.


والمعارضة من أجل الإصلاح تركز في رؤيتها السياسية وما تقدمه من آليات على تقديم انتقادات ومقترحات وملاحظات تستهدف تطوير وتعديل وتحسين الأداء أكثر من الوصول إلى السلطة بأية وسيلة، ولا أرى الرئيس عبد الفتاح السياسي رافضاً للإصلاح، أو غير قابل لرؤى تعديل مسارات إصلاحية للغير، بل أنه في أحد مؤتمرات الشباب خاطب إحدى المشاركات المعارضات بعبارات يقبل فيها ملاحظاتها ويرحب بتنفيذها بل ودعاها للمشاركة في تنفيذ تعديلات المسار الذي كانت تتحدث فيه.


 واللافت للنظر أن قبول المعارضة من أجل الإصلاح، لا يستبعد هدف "إسقاط السلطة" إلا في حالة يأسها بشكل تام وغير مبرر من قبول السلطة الحاكمة لملاحظات وانتقادات المعارضين لتعديل المسار وإصلاح الحال السياسي، مادامت تلك الانتقادات والملاحظات قائمة على عقيدة إصلاحية توجه عينا على مصلحة المجتمع والأخرى على المساهمة في بنائه وتنميته وإصلاحه، والمشاركة في كل جهد مخلص يستهدف وضع المجتمع في مصاف البلدان الجديرة بالأفضلية والبقاء.


وفي معارضتي للرئيس عبد الفتاح السيسي، وفي رفع شعار: "أنا ضد الرئيس" لا أرفض ما يردده أصحاب الرؤى المثالية للمعارضة السياسية التي تقبل بما يسمى بمعارضة التوازن والتكامل، والتي يقدم أصحابها ملاحظات وانتقادات ورؤى بقصد تحقيق التوازن للسياسات والسلطة القائمة.


فهؤلاء لا يتوقفون عند من يديرون عجلة الإصلاح، بل إن أصحاب ذلك التوجه المعارض يكون لديهم القدرة على احترام ما تقوم به السلطة الحاكمة من إيجابيات، وفي ذات الوقت ينتقدون ما يبدو لها من سلبيات بحثا عن الإصلاح بما يحقق توازنا وتكاملا مع السلطة الحاكمة وطرح البدائل والاقتراحات التي تحقق المصلحة العامة بدرجات عالية من الفهم للظروف الحالية وأيضا تقدير الأخطار التي تهدد المجتمع والعمل على تشكيل رأي عام أكثر وعيا بضرورة الحفاظ على قوة الدولة وحمايتها من السقوط مهما كانت إغراءات الوصول إلى الحكم.


لهذا، فإنني حينما أكون ضد الرئيس، فإنني أثق أن معارضتي له هي لمزيد من الإصلاح، وتقديم الرؤى والاقتراحات التي تحقق التوازن والتكامل، وتدعم كل إصلاح وتقدم البديل الذي يجعل الرئيس يأخذ بها؛ وصولا للأفضل من أجل المصلحة العامة؛ وليس لتدمير الدولة وخرابها وإدخالها في سلسلة من الفوضى التي تأخذنا إلى السقوط، وهنا لا تكون المعارضة مثالية أو مسيسة وإنما تكون مرهونة ببقاء الدولة واستمرار قوتها، والتصدي لكل ما يهددها، حتى لو استمر وضعي ضد الرئيس.