الثلاثاء 21 مايو 2024

الأوبئة وتأثيرها على الأخلاق المجتمعية

فن20-10-2020 | 20:50

إن العادات والتقاليد المتوارثة من الحضارة المصرية القديمة كانت هى طوق النجاة والمقاوم الأول ضد الأمراض والأوبئة التى تعرضت لها مصر والعالم كله فالأوبئة والأمراض ما هى إلا مرآة لحالة المعيشة الصحية والاجتماعية والأخلاقية لمجتمعا ما .


فيحدثنا التاريخ عن وباء أثينا عام 430 ق . م والذى أدى إلى القضاء على الآلاف من البشر حيث انتشر وباء الجدرى وأصاب الكثير من الناس وكان الأطباء أول من تعرضوا لهذا الوباء وانتشرت الجثث فى الطرق والميادين.

ويقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبى إن الحيوانات المفترسة والطيور أكلة الجيف كانت لا تقرب من تلك الجثث ولا تأكلها حيث فطنت أنها إن تقدمت إليها وأكلتها ماتت هى الأخرى.


لقد دمر الوباء كل مقومات المجتمع . انعدمت الأحاسيس والروادع حتى التي كان يتحلى بها بعض من تبقى فيه أثر للخلق الكريم  ذابت وتضاءلت رويدا رويدا في مناظر حياة متقلبة بين موت فريق وثراء فريق آخر حيث ترك الأغنياء ثرواتهم وفارقوا الحياه فى لحظة فانتقلت ثرواتهم إلى ذویهم فأثروا ثراء فاحشا في طرفة عين أخرى.


فعندما يحل الوباء ويتساقط الموتى فى كل مكان يخيم الرعب يعجز الجميع على معرفة وسيلة  لمقاومة الوباء، فيبدأ الجميع بفقد الثقة في كل شيء. فيفقدونها في المقدس کما يفقدونها في الإنسان، انعدمت الطقوس الدينية في دفن الموتى، وانعدم الحياء لكثرة ما توفي من أفراد العائلات. كان الأشخاص يجمعون الخشب للنار ليحرقوا عليها الجثث تباعا فما لبثوا أن أصبحوا هم أنفسهم حطبا لتلك النيران، وما أكثر الجثث التي ألقاها أهلوها على جثث أخرى لم يتم حرقها ثم فروا هربا من هول المنظر.


لقد ساد الجشع وانعدمت الأخلاق والرحمة  فزال خوف الله من قلوبهم  وبطلت القوانين الاجتماعية الرادعة وذلك  عندما شاهدوا الموت ينقض على خيارهم، كما ينقض على أشرارهم ولم يترك صالحا ولا طالحا إلا التهمه و لم يتضح أمامهم طريق الإيمان من طريق الكفر، فتساوی حینئذ الخبيث بالطيب. حتى المجرمون تأكدوا أنهم سيموتون بالوباء قبل إعدامهم فشعروا بأن حكم الإعدام أوقف وأن الحياة تتطلب بعض السرور قبل حلول الطامة الكبرى.


وأنفق الألوف من الناس ما عندهم على الملذات والشهوات، لأن الحياة لم تعد لها قيمة ولأن الثروة لم يعد لها قيمة فى العمر الذى ينفى فى لحظات، فانعدمت الرغبة في الاقتصاد الشريف لأن الموت أقرب اليهم من ذلك الكسب  ولقد انعدمت قیم الشرف ورعاية الضعفاء وصارت الرحمة تتلاشى من المجتمع وصارت الرعاية عديمة القيمة فالقوم لا يعرفون إلا الساعة التي كانوا فيها  ولا يهمهم إلا ما يدخل عليهم نوعا من أنواع السرور.


وعرف المجتمع المصرى الأوبئة وكانت من تلك الأوبئة الأمراض الفيروسية التى كانت تصيب الإنسان المصرى القديم وكانت تسبب له بعض العناء والآلام النفسية، فالاضطرابات السلوكية النفسية كانت تنعكس على تصرفاتهم وأخلاقهم فى المجتمع المصرى القديم.  


وتوضح لنا البرديات الطبية أن المصرى القديم عرف الأمراض النفسية مثل الخوف والهستيريا والاكتئاب وحاول علاجها كما تشير البرديات الطبية ومن أشهر هذه البرديات الأكثر صلة بالطب النفسى بردية إيدون سميث وبردية إيبرس، ولكن لم يصنفها الطبيب المصرى القديم ولم يطلق عليها أسمائها الحالية ولكن طرق عرضها ووصفها تتفق مع وقتنا الحاضر.


فكان لتلك الأمراض أثر كبير على الاضطراب السلوكى الذى يؤثر على أخلاق المجتمع المصرى ولكن كان للوعظ الدينى الذى تمثل فى علاج تلك الاضطرابات حيث كان دور الساحر والكاهن يفوق دور الطبيب المصرى فى علاج هذه الأمراض الاضطرابات النفسية فكلاهما كان قادرا على جعل المريض فى حالة نفسية يمكن من خلالها الإيحاء بالشفاء عن طريق الرقية السحرية ومن خلال الشعور بالأمان الذى يستشعره المريض من أداء الطقوس والشعائر الدينية وبث الأمل وتجديد الطاقة والشعور بالأمان لتجنب الانزلاق إلى فقدان الأخلاق والأمل التى يتمتع بها المجتمع المصرى القديم.


 وسوف نستعرض بعض تلك الأمراض مثل الخوف والاكتئاب والهستيريا وعرض كيفية علاجها فى مصر القديمة. 


الخوف 


هو حالة مرضية تتصف بخوف شديد من موقف ما أو شىء ما ويصاحب الخوف شعور بالإنهاك قد يصل إلى الإغماء وسرعة فى نبضات القلب وعرق وأحيانا ميل إلى القىء ورعشة ويؤدى الخوف إلى اضطرابات أفعال الفرد  فالخوف الشديد يسبب مشاعر رهبة ولعل الخوف من المجهول والمرض الذى يؤدى إلى الموت جعل الإنسان المصرى القديم يعرف الخوف ويجعل سلوكه مضطربا مما يؤثر على تعاملة بين أفراد المجتمع .


ورغم ترقب المصرى القديم الموت والاستعداد له إلا أنه خاف منه حيث خاف من الموت الذى اعتبره فناء للجسد فتخبرنا نصوص الأهرام بأن المصرى القديم لم يتمن الموت لأحد إلا لأعدائة  فكان دائم التاكيد على حياة المتوفى ومثال على ذلك ما ورد فى نصوص الأهرام حيث أكد على (  لن يموت هذا الملك ).

الاكتئاب 


هو حالة من الهم والحزن والانصراف عن الاستمتاع بمباهج الحياة ، الرغبة فى العزلة والتخلص من الحياة ونقص الحماس للعمل وفتور الشهوة للطعام والجنس ويصاحب كل ذلك أرق واضطراب فى النوم.


وعلى الرغم من أن المصريين القدماء لم يعطوا للاكتئاب اسما طبيا مناسبا إلا أنهم وصفوه فى بردية إيبرس فى الوصفة رقم 855حيث تصف البردية بعض الاضطرابات العقلية وفيها وصف لأعراض الاكتئاب وذكر أيضا فى وصفة 626 ووصفة 694 التى عملتا على وصف بعض العقاقير لتحسين الحالة النفسية.


وذكر مرض الاكتئاب فى الكثير من الروايات الأدبية مثل بردية ( شجار اليائس من الحياة مع روحه) حيث تجسد اليأس فى أظلم أشكاله وتعود هذه البردية إلى عهد الملك إمنمحات الثالث فى الأسرة الثانية عشر وهى عبارة عن حوار بين رجل وروحه والتى تعبر عن مؤشرا قويا عن الحالة النفسية للمريض حيث تروى الروح لصاحبها قصتين تهون عليه ما حل به من يأس واكتئاب وكيفية أن أبطال القصتين قد مروا بأصعب المواقف وحملوا ما حل بهم.

الهستيريا


تعرف الهستيريا على أنها مرض نفسى يتميز بظهور أعراض مرضية بطريقة لا شعورية ويكون الدافع فى هذه الحالة هو جلب الاهتمام أو الهروب من موقف خطر وعادة يظهر هذا المرض فى الشخصية الهستيرية التى تتميز بعدم النضج الانفعالى.


وعرف المصريون القدماء الاضطراب العاطفى الذى أطلق عليه الإغريق اسم ( الهستيريا) واعتقدوا بأن أعراض الهستيريا ناجمة عن سوء وضع الرحم وتحركه من مكانه حيث ورد فى بردية إيبرس فى الوصفة رقم 356 التى تتحدث عن المريضة المصابة بعمى هستيرى واستخدموا بعض التعاويذ السحرية. 


ومما سبق يتضح بأن المجتمع المصرى لم يتأثر بما تأثر به المجتمع اليونانى أثناء الإصابة بالوباء حيث أن طبيعة وعقيدة الإنسان المصرى وحبه للخير وللغير جعلته يقاوم تلك الاضطرابات السلوكية التى تحدث أثناء الأزمات والأوبئة فستظل مصرنا الحبيبة محفوظة عبر التاريخ وإلى يوم الدين.