مع صدور المجموعة الأولى "الخطوبة " لبهاء
طاهر ظهر هاجس استحالة تحقُّق الحب في مجتمع يرفض الحب
العلني، يلفظ ويقاوم الحب الذي يريد أن يُغَرِّد في الشمس، مجتمع يراقب المحبين في
كل مكان ويرفض أي تعبير من محب يدل على أنه عاشق، تمتد المراقبة للأماكن المظلمة
في السينما، وتتوغل في الحدائق لتشاهد وتراقب وتحاسب المحبين على علاقتهم البريئة،
فالمجتمع لا يعترف إلا بعلاقة واحدة بين الذكر والأنثى، هي علاقة الزواج، ومع ذلك
نجده يضع العراقيل في سبيل إتمام هذه العلاقة بين من تم التوافق بينهم،فتجد أن
متطلبات الزواج تجعل اتصال المحبين مستحيلاً.
بهجة الحب التي توجد في المجتمعات المتفتحةفي الخارج
لا توجد هنا، و يبدو أن بهاء طاهر كان يتلمَّس هذه الاستحالة منذ بداية
كتاباته،فلا يخلو عمل تلى عمله الأول إلا و رأينا فيه استحالة لتحقق الحب الكامل
في هذا المجتمع المريض بالتشنجات الذكورية، ووجود عوائق ما تقف أمام اكتمال
التحقق، دائماً هناك شيء منقوص وعائق في العلاقة بين المحبين، مرة عائق نفسي،
وعائق ديني، وعائق تقاليد، عوائق شتى نكتشفها مع دراسة كل عمل.
ففي مجموعة "الخطوبة" والتي يكشف عنوانها عن
علاقة تبدو في بدايتها شرعية، أو أن بداية
العلاقات تسعى للشرعية، وأن المجتمع لا يؤمن ببداية علاقات خارج الشرعية، فشَرَّعَ
المجتمع الخطوبة كبداية علاقة بين اثنين.
في القصة التي
تحمل عنوان المجموعة "الخطوبة"نجد أنها تدور حول ليلى التي
لم تظهر في القصة، ولم نسمع لها كلمة، القصة حواراً خالصاً بين الراوي العريس
ووالد ليلى، وعدم ظهورها ينبئ أنها بلا كيان، وأن هناك سيطرة ذكورية تمنع وجودها
في المشهد، وأن هناك صعوبة في الارتباط بمن لا رأي لها.
يتقدَّم بطل
القصة لطلب الارتباط بليلى، ونعلم أن هناك استلطافاً بينهما، هناك علاقة ما، لم
تظهر على سطح القصة، نجد أن أشياء أخرى تم الدوران حولها من قبل والد ليلى، يخبرنا
أنتاريخ بطل القصة حافل بالانكسارات مما يجعل مقاومته ودخوله فيهذا الحب مستحيل،
لذلك كان جيداً أن لا يتم ذكر أي إشارة لحميمية العلاقة مع ليلي، حتى ولو لمسة
يد،نحن انتهينا من وجود الحب،والآن نحن أمام الرغبة في تحققها على أرض الواقع
بالارتباط بالزواج، لكن الحوار مع والد ليلى يأخذنا لاستحالة استكمال هذه
العلاقة،والسبب من وجهة نظر والد ليلى هو الماضي المتمثل في تاريخ العريس وعائلته
وسمعة العريس المهزوزة، ونظرة المجتمع له يجعل حجاباً سميكا أمام هذه العلاقة،يجعل
اكتمالها مستحيلاً،وليس لليلى أي رأي في هذه العلاقة،هي محور الحوار ومحور الطلب،
ومحور العلاقة،ومع ذلك فهي ليست موجودة على مستوى الجسد والتواجد الحسي في القصة.
مهما كانت عمق العلاقة التي لا نعرف عنها شيئاً فإن
التقاليد والأعراف والسمعة والمجتمع تقف حائلاً دون إتمام هذه العلاقة، حتى الحبيب،
لم يكن لديه مقاومة للدفاع عن حبه، لقد كَسَرَه العُرف والسمعة والتقاليد كسراً
معنوياً وكسراً مادياً، ففي نهاية القصة نجد أن الحالة التي وصل إليها (رأيت نفسي،
ورأيت تراباً في كمي،وخدشاً كبيراً متورماً فوق حاجبي، تحسَّست الخدش بيدي، كان
الجلد مهترئا ولكن لم يكن هناك أي دماء. ص 30) هذا الجرح في نهاية القصة، سواء كان
ماديا أو معنوياً، يكشف أنه عاد منكسراً مجروحاً، بلا علاقة حب مكتملة.
أيضا نجد أن البداية تشي بنهاية القصة،فعلى الرغم مما
يظهر من نعومة الحدث الذي سندخل فيه إلا أن بعض الألفاظ الموحية تفسر نهاية الحدث،
ولا نلاحظ ذلك إلا بعد ان نصل إلى نهاية قصة الخطوبة، ففي بداية الحدث يقول:(وفي
النهاية عندما وقفت أمام المرآة. ص 9 ) نلاحظ أنه قد تحول وتبدل منذ اللحظة التي
بدأ فيها، وأن تغيراً قد طرأ عليه،صار غريباً عن ذاته،فالحدث القادم ربما يغير منه
شيئاً آخر لا يعرفه، يصف شعره بأنه لامع راكد كأنه ملتصق بجلده،وهذا ليس شاعرياً
وغير متناسب مع طبيعة كونه عريساً،ذقنه محتقنة،والاحتقان معلوم لا يأتي إلا نتيجة لكبت،
حتى إن دبوساً رشقه في عنق قميصه، والرشق يوحي بالعنف،مدخل يحرك داخلناً رغبة أن
نستمر مع الحدث،الذي جعل الراوي يقول للبواب :(عندي موعد مهم في البنك. ص9) وباستمرار
حواره مع والد ليلى نكتشف أنه تم معاملته على أنه متقدم لعمل وليس لخطبة.
كل الوصف يحيلك قبل الدخول في تفاصيل الحدث لحالة من
التوتر والقلق والعَرَق والنسيان،وبدأ دخول الحدث مع طفلة تقوده للجلوس دون كلمه،
وكلمة "قادتني" موحية الدلالة بعدم سيطرته على الموقف الآتي وأول لمسه
ليد الباب كانت يده باردة، والبرود يشي بعواطف غير مبهجة،فالعمل منذ مدخله الأول
يدفعنا للرفض، ويشكل في وعينا أن هناك استحالة وطرد لهذه العلاقة التي سندخل
إليها. وفي النهاية ينتهي العمل كما بدأ أمام المرآة، وكأنها دائرة يدور فيها كل
المحبين.
أما في قصة "الأب"نجد زوج وزوجة كانت أيامهما
الأولى في غاية السعادة،فهي لم تكن سمينة، كانت تنام ورأسها في صدره،يحيطه بذراعه،
ويتكلمان باستمرار طول الليل. ومع مشاكل الحياة،استحال هذا الحب وهذا الجمال إلى
مجموعة من العوائق،فلم يعد هناك أي شاعرية، هل ضغوطات الحياة جعلت الحب مستحيلا؟ هل
الظروف المادية تجعل من استمرار علاقة عاطفية شيئاً مستحيلاً؟ تؤدي أحياناً للطلاق
من أجل بضعة جنيهات.
الحب هنا في قصة " الأب"والذي نشأ
على محطة الأتوبيس، وانتهى بالزواج، هل الزواج هو ما يجعل الحب مستحيلا؟ !لقد شعر
فيما بعد أنه وقع في فخ الزواج،وأنهم اصطادوه، واستحالت أحلامه لسراب، ضاع كل ما
يحلم به من سفر وترحال،يموت الحب ويستحيل
مع وجود حمادة، تضع في تلافيف رأس ابنها نفس الأفعال الأنثوية الاحتفاظ
بالرجل،ويكون البيت هادئاً، لكن يبقى في القلب الحب يسبب الحسرة لاستحالة عودته.
في قصة "بجوار أسماك ملونة" تبدو العلاقة
بين زميل وزميلة في المكتب، تضغط ظروف المجتمع عليهما فلا يستطيع التحدث معها داخل
المكتب ولا يجد وسيلة للبوح بما في أعماقه سوى أن يتصل بها بالتليفون: أجابت عليه :(
لماذا تريد أن تراني؟ فأجابها: لأني أحبك. ص 103)
حب مكتوم في الصدر لا يستطيع أن يخرج،وهى كانت تعلم أن
متطلبات الزواج في هذا المجتمع كبيرة، لأن أخاها مر بتجربة زواج استهلكته،ولم تقل أحبك،ولم
تستطع السير معه،كان المجتمع يراقب كل شيء،حتى وهو جالس معها (و لاحظ الناس ينظرون
له وهو واقف فجلس. ص 109)
هذا حب مستحيل أن يوافق عليه زمن كتابةالقصة، المجتمع
لا يعرف الحب، لا يعرف سوى الزواج علاقة طبيعية بين الرجل والمرأة، ومع ذلك
فالمجتمع يكبل الزواج بالمصاريف والالتزامات، استحالة الحب في هذه القصة يأتي من قِبَل
المجتمع وظروفه، وما يفرضه من شروط،في حين كان عنوان القصة "بجوار أسماك
ملونة"نجد الطبيعة تمارس حريتها بعيداً عن هذه التعقيدات، أنظر للأسماك، وتأمل مدى الحرية التي تمارس بها
علاقاتها بحب وكأنها تتنفس الهواء.
فالمجتمع في هذه القصة يراقب المحبين، ويمنع الحب، نرى
ذلك في ظلام السينما، فإذا وضع أحدهم يده على كتف امرأة يجد تعليقات شاذة، العيون
تترصد المحبين في كل مكان، فهنا لا يوجد حب، يستحيل أن ينمو الحب في هذا الجو
المراقب لتحركات المحبين،الجو المحيط بالحياة غير مهيئ لنشوء حب طبيعي و صحي، هنا
حب مستحيل (عندما كنت في باريس كان الناس يُقَبِّلون بعضهم في الشوارع ولم يكن أحد
يهتم. ص 119) فهنا في السينما، وعلى الرغم من وجود شاغل أمامهم يجب أن يهتم به
الجميع، ووجود حائل من الظلام، إلا أنهم في شغل بحال العاشقين الهائمين.
نرى علاقة
العشق واضحة في المجتمع، إنه يتحدث بصراحة عن رؤية المجتمع للحب، مدى النظرة التي
تقتل الحب ببساطة (كل بنت عرفتها لم تكن تبالي بأن تجد معنى ولا بأن تحب، بل
بالزواج قبل كل شيء وأنا لا أريد ان أتزوج، لا أريد أن أفعل كما فعل أبي، أن أفتح
بيتاً وأنجب أطفالاً وأتشاجر معهم ويتشاجرون مع أمهم ويتشاجرون مع بعضهم ثم .. ثم
أموت أنا. ص 123)
هذه هي الحياة التي لا يريدها، والحب لا يجد متنفسا
وسط مجتمع لا يؤمن إلا بالزواج فقط، لا يهم الحب، المهم أن يكون هناك بيت حتى لو
امتلأ بالشجار والنكد، الحب هنا لا يجد طريقه للظهور، لا يثمر، البيئة هنا في
المجموعة لا تصنع جواً صحياً لحالة من حالات الحب، ولا يوجد حالة من حالات العشق
الصادق، حالة خاصة يمكن أن نقول إننا وجدنا الحب، الحب هنا ضائع تحت تقاليد مجتمع
ومعتقدات ساذجة، لا تؤمن بالعواطف، كل ما يريده هذا المجتمع الظاهر الشرعي للعلاقة،
أما حقيقة العلاقة فهذا لا يهم.