الأربعاء 26 يونيو 2024

أغاني رمضان

فن21-10-2020 | 10:48

كلما هل شهر رمضان الكريم لا نتخيل أن نستقبله دون أن نردد هذه الأغانى منذ كنا أطفالا صغارا: (وحوى ياوحوى ايوحة)  و ( حالو ياحالو رمضان كريم ياحلو)  و ( مرحب شهر الصوم مرحب)  و ( رمضان جانا أهلا رمضان )، ألم نتساءل لماذا سكنت هذه الأغنيات فى الوجدان ليحفظها الأجيال جيلا بعد جيل ولتعيش سنوات وسنوات، بل وستظل آلاف السنين باقية وكأنها كلمات كتب لها الخلود؟ ..  

رغم أن الكثيرين منا لم يعرف معنى كلمات (وحوى يا وحوى ايوحه) ولم يفهم معانيها، فلم يكن الهدف منها توصيل معنى أكثر من أنها تواصل وتوحد لمشاعر وأحاسيس وروحانيات صادقة اجتمعنا واتفقنا عليها جميعا دون قصد لتتدفق من جيل إلى جيل، ويرجع أصل هذه الكلمات إلى العهد الفرعونى القديم حيث كان يرددها أجدادنا الفراعنه على ضفاف النيل منذ آلاف السنين وكان أصلها (قحوى ياقحوى احع) وهذه الكلمات الفرعونية ترجمتها بالعربية تعنى: (أشرقت أشرقت يا قمر) وكانت تطلق للاحتفال بظهور القمر فى الليالى القمرية !.. وهذا البقاء لهذه الكلمات كل هذه السنين له  تفسيراته وأسبابه حيث إن هناك علماً من العلوم الإنسانية يسمى بعلم الجمال، وهو فرع من فروع الفلسفة مجاله دراسة كل ماهو جميل وواقعة على النفس البشرية، باحثا عن جماليات الفنون وتأثيرها الخلاب فى النفس ، وقد وضع علماء هذا العلم وفلاسفته الكثير من التفسيرات والقواعد وقد كان من فلاسفته الفيلسوف (بيرجسون) الذى قال "إن الفن الصادق والخالد هو الذى يعبر عن انفعالات البشر" فقد اعتبر أن الفن وسيلة لتوصيل كل ما تشعر به النفس البشرية لتوصلها من جيل لآخر، فما قاله "بيرجسون" بالفعل ينطبق على مثل هذه الأغانى الرمضانية التى عبرت عن أحاسيس صادقة نبعت من القلب فسكنت القلوب، وليصبح لشهر رمضان نسمات وروحانيات خاصة به، ولتكن تلك الأغانى من معالم هذا الشهر المبارك، وكأنها ولدت معنا بالفطرة لتصبح جزء من تراثنا وثقافتنا، هذا الجزء الجميل الذى نعتز ونفخر به، نردده حتى وإن لم ندرك معانيه أو نعرف منشديه ، فهو جزء من التراث الخالد لأنه صادق، لم يتأثر بما يقدمه الجيل الحالي من تشويه لتراثه أو تقليد أو سرقة كما يحدث فى أغانى هذه الأيام!..

وعندما نريد أن  نشعر بالروحانية وبالحب وبالأمل وبالصدق نرجع إلى هذا الماضى الجميل فنجده هو الأقرب إلى مشاعرنا ونجده جزءا منا و نجده  يعبر عنا مثلما عبر عن أجدادنا وآباءنا ، لذلك ستظل العشرات من الأغانى الرمضانية باقية والتى من أشهرها (وحوى يا وحوى) غناء المطرب أحمد عبد القادر، والذى لم يحقق شهرة واسعة ولكنه ترك أشهر أغنية رمضانية على الإطلاق.

 كذلك أغنية (مرحب شهر الصوم مرحب) من ألحان وغناء عبد العزيز محمود، وكلمات محمد على أحمد ، وأغنية (رمضان جانا)  لعبد المطلب، من كلمات حسين طنطاوي وألحان محمود الشريف، وأغنية (هاتو الفوانيس يا ولاد) غناء وألحان محمد فوزي وكلمات عبد العزيز سلام، وأغنية الثلاثي المرح (أهو جه يا ولاد) كلمات نبيلة قنديل وألحان زوجها الموسيقار الكبير على إسماعيل، وأغنية (تم البدر بدري) التى تؤثر فينا وتعبر عن قرب انتهاء شهر رمضان الكريم وهي من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وألحان عبد العظيم محمد, وغيرها من الأغانى التى ستظل فى ذاكرة التاريخ الغنائي ووجدان كل جيل.

فمن منا لم يتأثر بصوت الشيخ محمد رفعت، وخاصة عندما نستمع إلى الآذان بصوته والذى أصبح جزءا من الروحانيات والأجواء الرمضانية التى حفرت بالفعل فى نفوس ووجدان كثير من الأجيال، وكذلك ابتهالات وتواشيح الشيخ النقشبندي مثل (رمضان أهلا مرحبا)، والشيخ نصر الدين طوبار مثل (رمضان أشرق)، ولم يأت إلى الآن من الأغاني أو الابتهالات ما هو بنفس هذا التأثير، لأنها جاءت بمنتهى الصدق والروحانية، فأصبحت نغمات وألحان حفرت فى الوجدان.

الغناء الديني

وللغناء الديني فى شهر رمضان طابع خاص عند عمالقة الغناء مثل أم كلثوم وعبد الحليم ومحمد فوزي، قبل ذلك كان الأداء الديني ما هو إلا تواشيح وإنشاد وكان يصاحب المنشد ما يسمى بالبطانة وهم الكورال الذى يقوم بترديد المذهب وهو الجزء الذي يتم إعادته من آن لآخر خلف الشيخ، فكنا دائما نسمع عن الشيخ النقشبندي وبطانته والشيخ طه الفشني وبطانته والشيخ محمد الفيومي وبطانته والشيخ محمد عمران وبطانته ...، وهنا الإنشاد والابتهال كان يعتمد فى المقام الأول على الارتجال لتتجلى قدرات كل شيخ فى الانتقالات المقامية والإمكانات الصوتية ومساحة وقوة صوته، بالإضافة إلى ذلك هناك ما يعرف بالغناء الديني المُلحن والذى يكون فيه مصاحبه بالآلات الموسيقية وليس الشيخ وبطانته فقط، حيث يقوم أحد الملحنين الموسيقيين بتلحين الكلمات الدينية ليغنيها المطرب أو الشيخ ويكون هناك التزام باللحن بشكل ثابت، وكان من هؤلاء الملحنين الشيخ أبو العلا محمد فكان قارئا ومنشدا لقصائد المديح النبوى والتواشيح الدينية، وهو المعلم الأول لأم كلثوم حيث غنت قصائدة فى بداية مشوارها الفني.

القصيدة الدينية

 وكان لأم كلثوم دور كبير فى الإنشاد الديني الذى جعل صوتها يتسم بالقوة والتطريب وهذه السمة التى لا نجدها إلا لدى المشايخ والمنشدين، وكان لهذه التجربة عند أم كلثوم أثر كبير فى أن تصبح فيما بعد أعظم مطربة قامت بتقديم ما يسمى بالقصائد الدينية وشاركها فى ذلك عبقري النغم رياض السنباطي والذى كان يمتلك أيضا نفس التجربة الدينية فى بداية مشواره الفني من إنشاد وغناء ديني مع والده ، لذلك كان لهذا الثنائي الفضل فى إدخال ما يعرف بالقصيدة الدينية الملحنه  ومن هذه الأعمال الدينية الخالدة "ولد الهدي" و "نهج البردة" من كلمات أحمد شوقي، و "حديث الروح" كلمات محمد إقبال، و "الثلاثية المقدسة" كلمات صالح جودت، و "القلب يعشق" كلمات بيرم التونسي و "عرفت الهوى" كلمات طاهر أبو فاشا، وجاءت كل هذه الروائع من ألحان رياض السنباطي، وقد قدم السبناطي خلال هذه القصائد الدينية أشكالا مختلفة من الموسيقى الدينية فنجده على سبيل المثال فى لحن "ولد الهوى" يتبع أسلوب المشايخ حيث الجانب التطريبي الأقرب إلى التواشيح الدينية فلم يكن للموسيقى دور كبير داخل اللحن سوى المصاحبة البسيطة وليصبح صوت أم كلثوم هو الأساس داخل اللحن فليس هناك لزم موسيقية طويلة كما نجده مثلا فى القصائد الدينية الأخرى، وأدخل التوزيعات الأوركسترالية وأصوات الآذان وأجراس الكنائس وكورال الأطفال فى قصيدة الثلاثية المقدسة، ونجد الإيقاع الصوفى الحركي أو المقسوم فى مقدمة (القلب يعشق)، لذلك يعد السنباطي أول من أدخل ما يعرف بالقصيدة الدينية الملحنة ووصل بها إلى أقصى درجة من التطور، بالمقابل يؤخذ على الفنان الكبير محمد عبد الوهاب أنه لم يترك أعمالا دينية سوى لحن واحد فقط وهو "أغثنا أدركنا يارسول الله"، وهنا يكون للبيئة التى عاشها عبد الوهاب خاصة مع أمير الشعراء أحمد شوقي ليستمع أكثر إلى الأعمال الموسيقية العالمية أثره بخلاف السنباطي المشبع بتراث نغمي موروث ومن هنا اختلف ما قدمه الاثنان.

جاءت معظم أغانى أم كلثوم الدينية من ألحان السنباطي لكنها تركت أيضا روائع دينية لملحنين آخرين وإن كانت قليلة إلا أنها لها بصماتها فى الغناء الديني وخاصة أغاني فيلم رابعة العدوية مثل "الرضا والنور" ألحان محمد الموجي، و "لغيرك ما مددت يدا" من ألحان كمال الطويل، وجاءت الكلمات لطاهر أبو فاشا.

أدعية عبد الحليم

وكان للفنان عبد الحليم حافظ دور كبير فى تقديم نوع جديد تماما من الغناء الديني حيث بلغ رصيدة الغنائي فى هذا المجال 11 دعاء دينيا، فلم يقدم القصيدة الدينية مثل أم كلثوم ولم يقدم الأغنية الدينية المعتادة مثل أغاني محمد فوزي والمطربين الآخرين، ولكن أدخل عبد الحليم ما يعرف بالدعاء الوصفي الذى يصف الطبيعة ليبين قدرة الله سبحانه وتعالى فى خلقه، كما يصف الكون والشجر والزهور وجمال ما صنعه الخالق عز وجل، لتأتى جميع هذه الأدعية من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان محمد الموجي، والجديد فى هذه الأعمال من الناحية الموسيقية أن بداية الدعاء ونهايتة هى تيمة موسيقية ثابته لجميع الأدعية فى مقام الهزام، ولكن عند بداية الغناء يقوم عبد الحليم فى كل دعاء بالغناء فى مقامات مختلفة، وهذا تجديد فى القالب الغنائي الديني بتوحيد المقدمة والنهاية، فعندما نستمع إلى بداية أى منها أصبحت مثل الأيقونة المعروفة سلفا .

النقشبندي وبليغ حمدي

أيضا غنى الشيخ النقشبندي مع الفرقة الموسيقية رغم أنه رفض ذلك فى البداية باعتبار أنه منشد ومبتهل ولم يكن فى حسبانه أن يغني مع فرقة موسيقية ، ففي حفل خطبة ابنة الرئيس السادات، كان النقشبندي ضيفًا، فاقترح السادات على الإذاعي وجدي الحكيم أن يتم التعاون بين صوت النقشبندي وألحان بليغ حمدي فى أعمال دينية. ولكن النقشبندي وجه كلامه لوجدي الحكيم قائلا "على آخر الزمن يا وجدي، يلحن لي بليغ"، حيث اعتقد أن بليغ سيصنع له لحنًا راقصًا ولن يتناسب مع جلال الكلمات التي ينطق بها في الأدعية والابتهالات، وفكر في الاعتذار، إلا أنه  اتفق مع الحكيم على الاستماع لبليغ وإذا لم يُعجب باللحن الذي سيصنعه، سيرفض الاستمرار. ليظل النقشبندي طيلة الوقت ممتعضًا، وبعد نصف ساعة من جلوسه مع بليغ في الاستوديو، دخل الحكيم ليجد الشيخ يصفق قائلا: "بليغ ده عفريت من الجن". وهنا الذكاء الفني لدى بليغ بأن جعل الكورال فى رائعته "مولاى إنى ببابك" يقوم بترديد المذهب كخلفية أثناء الابتهال كما أعطى للنقشبندي مساحة من الارتجال على هذه الخلفية ليجد النقشبندي أنه ليس ببعيد عن الابتهال الذى يتسم بالوقار والهيبة بل إن الموسيقى أعطت لصوته الصداح جمالا وعمقا أكثر.

    الاكثر قراءة