الخميس 20 يونيو 2024

الإسكندرية.. كيف صارت عروس البحر

فن21-10-2020 | 13:25

أصوات خفية حبيبة ، أصوات أولئك الذين ماتوا ، أو أولئك الذين هم بالنسبة إلينا ضائعون مثل الموتي ، تتكلم في أحلامنا أحيانا ، وأحيانا في الفكر يسمعها العقل ، ومع أصدائها تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى مثل موسيقى بعيدة في الليل تخبو

                                                                         " كفافيس … "

عروس دائمة للبحر :-

هل كان ذلك الفتى النبيل ، الإسكندر ، تلميذ أرسطو النابه ، يعلم أنه لا يقيم فقط مدينة تحمل اسمه خالدا علي الزمان ، وإنما يقيم عالما بأسرة وتاريخا كاملا . أغلب الظن أنه كان يعرف .. هو لم يكن معنيا بالخلود فقط ، بل بتغيير الدنيا ..

المسافة من جزيرة فاروس – الأنفوشي حاليا – إلي راقودة – كرموز الآن – يقطعها السائر علي قدميه في أقل من ساعة ، ولا بد أنه كان يفعل ذلك قبل الميلاد في وقت أقل أيضا ، ذلك أنه لم تكن هناك بنايات يدور حولها ولا طرق محددة ، كانت الأرض مسطحا من رمال وماء . لقد وقف الإسكندر بفرسه في راقودة فرأى آخر نقطة عند البحر – فاروس – فقرر أن يصل بينهما . لكنه مات قبل أن يتم ذلك.

 

لقد كان بطلميوس الأول ، وخلفه الثاني ، هما اللذان أتما بناء الإسكندرية . لذلك أنا لا أصدق أن الإسكندر الأكبر مدفون في الإسكندرية . أعلم أن هناك دراسات كثيرة جادة تؤكد دفنه في مدينته ، وأحترم كل هذه الدراسات ، وكل المحاولات التي تمت لاكتشاف مقبرته ، والتي اشترك فيها علماء كبار وجرسونات أيضا ! أعلم كل ذلك ولا أصدق أن الإسكندر مدفون بالإسكندرية . لقد وضع الإسكندر حجر أساس المدينة العالمية عام 331 ق . م وأوكل مهمة تخطيطها إلى دنيوكراتيس البارع في الهندسة وانتهى الأمر عند ذلك.

 

قام دنيوكراتيس البارع في الهندسة بتخطيط المدينة مثل رقعة من الشطرنح . شوارع مستقيمة من الشمال إلى الجنوب تقطعها شوارع مستقيمة من الشرق إلى الغرب . والعكس صحيح طبعا وبين هذه الشوارع شارعان كبيران أحدهما من الشمال إلى الجنوب أغلب الدراسات تؤكد أنه شارع النبي دانيال الحالي ، والثاني من الشرق إلي الغرب هو طريق كانوب القديمة أو طريق أبو قير حديثا أو طريق الحرية ثم طريق جمال عبد الناصر الذي نسي السادات أن يغير اسمه .

الشارع الأول الذي يحمل اسم النبي دانيال الآن شارع صغير مريح للأعصاب تكسر مبانيه العتيقة المتوسطة الارتفاع غالبا حدة ضوء الشمس فتجعله ظليلا طول النهار أو علي الأقل محتمل الحرارة ، وهو شارع به مجموعة من الآثار الرومانية مثل حمامات كوم الدكة القريبة  أو صهريج مسجد النبي دانيال أو آثار البرديسي الواقعة بشارع البرديسي المجاور لسيدي عبد الرازق الوفائي المقابل للنبي دانيال .

إذن نعود للنبي دانيال كلما ابتعدنا ، ووجب أن نقول إنه ليس بالنبي دانيال المذكور في التوراة لكنه الشيخ محمد بن دانيال الموصلي أحد شيوخ المذهب الشافعي الذي قدم إلى الإسكندرية في نهاية القرن الثامن الهجري واتخذ مسجد الإسكندر – هكذا كان اسم المسجد – مكانا له يلقي فيه دروسه حتي توفي عام 810هـ  فحمل المسجد اسمه ونسي الناس اسم الإسكندر .

هذه أعجوبة كاملة لأن الدراسات التي قالت بوجود قبر الإسكندر تحت الجامع ثبت عدم صحتها ، وأولاد البلد قبل الدراسات بقرون أزالوا اسم الإسكندر غير الموجود من فوق الجامع ووضعوا اسم ابن دانيال الموجود . أما تحور الاسم إلي النبي دانيال فربما لقرب المكان من حي العطارين حيث تجارة اليهود والجاليات الأجنبية والأغلب أن الحس الشعبي لا يفرق مع الوقت بين ولي ونبي.

هذا الشارع شبع حفرا في سنوات الستينيات والخمسينيات بسبب جرسون مجنون كان اسمه " استيليوس " كان يونانيا يزعم أنه عثر علي مخطوطات تحدد وجود قبر الإسكندر . وفي أوائل السبعينيات أظن عام 1972 ، أشيع أن شابا كان يمشي مع خطيبته بالشارع وعند التقاء الشارع بطريق الحرية غارت الأرض وسقطت خطيبته فيها وضاعت . لقد رأيت أنا هذه الحادثة ، ورأيت فرق الإنقاذ وهي تحفر الأرض بحثا عن الفتاة التي ابتلعتها الأرض كان أهل الإسكندرية يخرجون جماعات يحيطون بعمال الإنقاذ في انتظار العثور علي الفتاه وأعلن عمال الإنقاذ أن الأرض تحت الشارع مليئة بالآثار والغرف والطرق السحرية لقد ضاعت " ميرفت " إلي الأبد . هكذا كان اسم الفتاة.

لقد أحيطت الإسكندرية القديمة بسور كبير زال واندثر مع الأيام . سور وقف أمامه أنطيوخوس الرابع ملك سوريا حين أراد غزو مصر عام 170-168ق.م ولم يدخل الإسكندرية لكن الذي دخلها كان دقلديانوس . الإمبراطور الروماني الشهير الذي تفنن في تعذيب المسيحيين والذي سمي عصره بعصر الشهداء وبإحدي مذابحه بدأ التقويم القبطي لقد استطاع دقلديانوس دخول الإسكندرية التي كانت قد أعلنت الثورة عليه وخلعته من حكم روما ، وأعلنت قائد ثورتها لوكيوس دويمتيوس امبراطورا ووقف دقلديانوس ثمانية أشهر أمام السور بين عامي 265-266 ميلادية ثم نجح في دخول المدينة وحولها إلي حمامات دم .

[ يقال أن أهل الإسكندرية علي طول التاريخ كانت لهم حرفة واحدة رئيسية هي السخرية من حكامهم بقول الشعر والانشغال بمصارعة الديكة لذلك لم يكن هناك صفاء أبدا بين أهل الإسكندرية وأي من الحكام الذين لم يتوقفوا  عن اضطهادهم حتي كاد الشعب يباد ] .

أنا أصدق هذه المقولة حينما أتذكر أن محمد علي باشا تولي أمر البلاد المصرية عام 1805 وكان تعداد أهل الإسكندرية ثمانية آلاف ، هي التي بلغ تعداد سكانها في العصر الروماني إلي ثلاثمائه ألف حر ، ونستطيع أن نضيف مثلهم من العبيد .

نعود إلي دقلديانوس هذا لنعرف أن أهل الإسكندرية هم أنفسهم فيما بعد ، بعد أن استقرت الأوضاع ، ورفع عنهم جزية القمح ، التي كانوا مضطرين لدفعها إلي روما ، قاموا بتخليد ذكري دقلديانوس الرهيب بإقامة نصب تذكارية من أجمل ما حفظته لنا المدينة من آثار ألا وهو عمود السواري الذي يقف شامخا علي ربوة السرابيوم بكوم الشقافة برقودة القديمة ، أو كرموز الحالية .

سكان حي كرموز  يتصفون بالجسارة والقوة حتي الآن رغم أن الحي الشعبي العريق عشش فيه الفقر والمخدرات . في هذا الحي عشت طفولتي وصباي . في صباي كنت أنظر إلي عمود السواري الشامخ مندهشا لا أعرف عنه  أكثر من كونه أثرا جميلا . فيما بعد عرفت أن الموقع الذي أقيم فوقه من أهم الآثار وكان فوق نفس الهضبة معبد السيرابيوم الذي أسماه العرب قصر الإسكندرية ، وكان عمود السواري يتوسط أربعمائة عمود ترفع القصر الذي تهدم . الأعمدة نفسها حملها الجنود أيام صلاح الدين الأيوبي وألقوا بها في البحر لتحصين الإسكندرية الآن . من يغطس في الميناء الشرقية بالإسكندرية يرى هذه الأعمدة الغارقة.

 

أسفل هضبة كوم الشقافة . هذه توجد جبانات أثرية خالية الآن كنا ندخلها في صبانا باعتبارها مغارات . نحمل في أيدينا شعلا من نار علي طريقة المستكشفين ونطارد الخفافيش . كان يسكن الهضبة جماعات فقيرة من النوبيين يبيعون الفول السوداني واللب في القراطيس يجوبون بها شوارع الإسكندرية ، وبعض من الغجر الذين كنت أحب رقصهم وغناءهم والحلقان في أنوفهم والوشم الأخضر علي كل جزء عارٍ من  أجسادهم. عمود السواري حقيقة لكن مثل كل حقيقة كبيرة دارت حوله الأساطير . ومن أبرز ما قيل من خرافات أن أكثر من عشرين شخصا تناولوا غداءهم مرة فوق تاج العمود ، أو أن رأس " بومبي " موجود في جرة فوق تاج العمود ، لكن المؤكد أنه جرت محاولة لإقناع كل من لويس الرابع عشر ، ومن بعده الخامس عشر ، بنقل العمود إلى فرنسا ليكون قاعدة لتمثال كل منهما علي التوالي . والحمد لله أن أحدهما لم يقتنع بالفكرة .

عمود السواري قطعة واحدة من الجرانيت الأحمر طولها 20.75 متر  وقطرها عند القاعدة 2.70  متر وعند التاج 2.30 متر قطعت من جبال أسوان ونقلت سليمة إلي الإسكندرية لينقش عليها بالهيروغليفية واليونانية ما يؤكد أنه أقيم تخليدا لذكري الإمبراطور المتوحش .. أنا لا أصدق . لا بد أن أتباع هذا الإمبراطور هم الذين فعلوا ذلك والصقوة بأهل الإسكندرية . لم تكن الإسكندرية تعتبر جزءا من مصر . كان اليونانيون ومن بعدهم الرومان يقولون عنها الإسكندرية المجاورة لمصر . ولدت من يومها تاريخا مستقلا . صارت سيدة العصر الهليني. كان طولها في بدايتها خمسة كيلو مترات وعرضها حوالي كيلو مترا ونصف الكيلو، طولها ازداد مع الزمن . عرضها لم يزد كثيرا بسبب بحيرة مريوط التي تضغط علي جنوبها ، وبحيرة إدكو والصحراء . لذلك مكتوب علي الإسكندرية أن تستطيل مع البحر . أن تنام حتى القيامة في حضن الموج . هي عروس دائم للبحر المتوسط. هكذا أرادتها الطبيعة رغم  ما يقذفه بها بنو الإنسان من تلوث وتخبط واستبداد.

حكاية الترعة :

من أهم أسباب ازدهار الإسكندرية قديما وجود الفنار الشهير ، أحد عجائب الدنيا السبع القديمة ، الذي شيده المهندس سوسترا توس بن ديكسيانس في عهد بطليموس الأول لينتهي منه في عد بطليموس فيلادلفوس حوالي عام 280ق.م . لقد كان الفنار يرتفع إلى 135 مترا يهدي السفن إلي الميناء . وكان أيضا يستخدم في حرق سفن الأعداء بالمرايا الضخمة تعكس حزما من أشعة الشمس مركزة عند اللزوم . لقد أباد الزلزال الفنار العجيب .

 

السبب الثاني الهام لازدهار الإسكندرية قديما كان وجود ترعة من المياه العذبة هي ترعة " شيديا " مكانها الآن سوق شيديا ، أو علي الأقل مكان جزء منها . كانت الترعة تربط بين النيل والميناء . أي بين الإسكندرية وأعماق القارة الأفريقية .

اندثرت الترعة واضمحل شأن الإسكندرية واحتاجت إلي ترعة أخرى في العصر الحديث شيدها الباني من الأناضول ، هو محمد علي باشا . هذه الترعة حملت اسم السلطان العثماني هذه المرة . أقصد بها ترعة المحمودية . أجل . ترعة المحمودية هي سبب ازدهار الإسكندرية في العصر الحديث . لقد مضى زمن طويل علي الإسكندرية وهي مقطوعة الصلة بالقاهرة وإبان العصر التركي والمملوكي كانت قلعة قايتباي التي أقيمت مكان الفنار القديمة تستخدم كسجن ومنفى للخصوم .

لقد صدرت أوامر محمد علي باشا السنية  ببدء حفر الترعة عام 1233هـ – 1819 م وأن تعمق حتى تجري فيها المياه صيفا وشتاء ، وأمر حكام الجهات بجمع الفلاحين للعمل والكلام هنا للجبرتي – فكانوا يربطونهم بقطارات بالحبال وينزلون بهم في المراكب ومات الكثيرون منهم من البرد والتعب وكل من سقط أهالوا عليه تراب الحفر ولو فيه روح … يا ساتر يا رب.

لقد انتهت الترعة ، وانتهى حفرها عام 1840  ، وبلغ سكان الإسكندرية ستين ألفا وفي عام 1848 بلغو مائة وثلاثة وأربعين ألفا . من هذا الإحصاء تعرف ما الذي أضافته الترعة إلى المدينة التي تسلمها محمد علي وسكانها لا يزيدون على الثمانية آلاف.

لقد شاهدت في صباي ترعة المحمودية هذه وهي عروس جميلة نظيفة تمشي فيها السفن الكبيرة علي مهل حاملة بضائع الصعيد والدلتا إلي الميناء وإلي الإسكندرية عموماً ، وكان أكثر ما تحمله القطن والقصب والقمح . واستمتعت إلى غناء النوتية المعذب، وشاهدت جماعات السمار من الشباب والفتيات في الأماسي وقبل المغيب وهم ينطلقون فوق الماء في الفلائك الصغيرة الملونة يمرحون ويتحابون . كانت متنـزها للفقراء والمحبين الفقراء . كتبت رواية قصيرة هي " ليلة العشق والدم " تجري مجمل أحداثها علي هذه الترعة . كتبتها فيما بعد .

لقد صارت الترعة مكانا كريها لما ألقي فيها من فضلات المصانع ، صارت بؤرة للتلوث جنوب الإسكندرية ، يقولون إنهم يعيدون تنظيفها الآن . لعل ذلك يكون صحيحا . أنا لم أجد في البلاد أمة تتخلص مما لديها من مسطحات مائية مثل أمتي التي برع أهل عصرها الحديث في ردم أجزاء كبيرة من البحيرات  بدءا من بحيرة مريوط بالإسكندرية حتي بحيرة البردويل في سيناء . علي أي حال ، أبناء جيلي من الأحياء الشعبية الجنوبية يحتفظون لهذه الترعة التي أعلت من شأن المدينة بذكريات جميلة . قفزت هذه الذكريات لتستحوذ بأسطورتها على جانب كبير من روايتي ، لا أحد ينام في الإسكندرية ، وأكثر منها في رواية طيور العنبر . الأبرياء واللصوص التي كانت تطارد بحارة السفن وتسرق بعض بضائعها . لازلت اذكر براعة أولئك اللصوص في السباحة والغطس لوقت طويل تحت الماء حين  يداهمهم البوليس بالرصاص . أجل كانت تحدث معارك حقيقية لم تكن بالنسبة لي وأصحابي في صبانا تختلف عن المعارك السينمائية فكنا نجري بين الفريقين بلا خوف من رصاص . كنا نطلق على اللصوص أسماء الأبطال السينمائيين حميدو وطرزان وغيرهما . كانت السينما هي العالم الساحر الذي أدين له بالكثير من المعارف إلى جانب مكتبة الإسكندرية العريقة ، مكتبة البلدية ، ومكتبات قصور الثقافة التي أنشأتها الثورة ومكتبات المدارس أيام كانت هناك مدارس ومكتبات .. أحب أن أقف قليلا عند السينما لكني أوجل ذلك حتي انتهي من الحديث عن الشمال والجنوب في الإسكندرية ما دمت تحدثت عن المحمودية فلا بأس أن أتحدث عن البحر . الأولي ملمح الجنوب الرئيسي والثاني وجه الشمال الثابت إلي يوم الدين  وقبل أن أخرج من هنا أحب أن أقول أن الترعة سلبتني العقل والقلب وأنني أقمتها من جديد في أعمالي.  لقد منحتني أسرارا للوجود فمنحتها وجودا أبديا وأقمت عليها حارسا للزمان والمكان في رواية  طيور العنبر.

 

الشمال والجنوب:

 

شمال الإسكندرية منذ نشأتها هو الحي الملكي . تغيرت المسميات والوجوه لكنه ظل حي الصفوة ، الملوك والغرباء.

قديما كانت المساحة المطلة علي الميناء الكبير  هي حي القصور الملكية الممتدة حتي السلسلة " . في هذا الحي الملكي شيدت أروع معالم العاصمة ، عاصمة العصر الهليني، الإسكندرية . فإلى جانب القصور شيدت الحدائق والنافورات والمتاحف ودار الحكمة ومعبد بوسايدون إله البحار ومعبد قيصرون ابن كليوباترا ويوليوس قيصر التعيس الذي قتله أوكتافيوس مكتفيا بوجود قيصر واحد ، هو نفسه . مسكين قيصرون هذا ولد بسبب الفتنة ، فتنة أمه ليوليوس قيصر ، ومات بسبب الفتنة ، فتنة أمه لأنطونيوس وفشلهما في الحرب مع روما .

في هذا الحي الملكي شيدت أيضا مكتبة الإسكندرية الشهيرة ودار القضاء ، والجيمانزيوم والبانيون ذلك التل الكبير الذي أقامه أهل الإسكندرية تكريما للإله " بان " بحيث يطل من يقف فوقه علي المدينة كلها . إن بقايا هذا التل هي ما يعرف بكوم الدكة الآن . تلك التي نصب عليها نابليون مدافعه . والتي كان علي سطحها معسكرات قوات " بلوك النظام " قبل الثورة ينطلقون منها لمقاومة المظاهرات . كان من بين هذه القوات عام 1951 م ضابط اسمه سعد الدين وهبة سيأخذ قواته من الجنود لإنهاء إضراب عمال مصنع " سباهي "  للنسيج القائم شرق المدينة عند كوبري صغير علي ترعة المحمودية اسمه كوبري الناموس . سيمضي هذا الضابط الشاب وقته فوق الكوبري منتظراً أحداثاً لا تقع سيكتبها فيما بعد في واحدة من أجمل المسرحيات العربية ، مسرحية " كوبري الناموس " وعلي هذا التل الصناعي ، ومع تقدم الأيام سينمو حي شعبي كتب عليه النسيان دائما هو حي " كوم الدكة " الذي لا يذكر إلا إذا ذكر سيد درويش سيد الموسيقي وشهيدها غريب أمر حي كوم الدكة هذا ،  فالذي يمشي في طريق الحرية قادما من باب شرق سيكون الحي علي يساره دائما ينفذ إليه من أي زقاق جانبي لكن نادرا ما  يلتفت شخص إلي وجود هذا الحي علي اليسار ، ليس من المعقول أن يكون خلف هذه العمارات الجميلة تل كبير عليه بيوت متزاحمة فقيرة . والذي يمشي مجاورا للسكة الحديد لا يدرك أن خلف المشرحة العامة والأبنية الحكومية المختلفة يوجد تل فوقه بيوت مزدحمة هو كوم الدكة . لقد ولدت وعشت في الإسكندرية حتي الخامسة والعشرين من عمري بشكل متصل ولم أدخل هذا الحي غير مرتين أو ثلاثة لزيارة بعض زملاء الدراسة الذين نسيتهم أيضا الآن .

حي كوم الدكة هو الحد الفاصل بين الشمال والجنوب . بعده يترامى الجنوب بأحيائه الفقيرة كلها الممتدة حتي المحمودية كرموز – راغب –غربال – وتمتد بالطول ، تماما كالإسكندرية ، تشمل مينا البصل وباب الكراستة والقباري حتي المكس الآن . بعد أن طالت المدينة واتصلت بالصحراء في الغرب حتي منطقة العامرية ، وبالزراعة في الشرق حتي منطقة أبو قير .

وكما امتد الجنوب بأثر زحف أبناء الريف امتد الشمال بأثر ازدياد الأجانب في الإسكندرية منذ تولي محمد علي باشا ومع ازدهار المدينة المستمر . يقول علي مبارك في الخطط . " ولما كثرت الإفرنج والأغراب في مدينة الإسكندرية واستوطنوها واستحوذوا على كثير من الفضاء الذي كان بداخل المدينة وضواحيها رغبوا في سكنى الرمل وهي قرية شرق المدينة ، بينها وبين أبي قير ، وأكثروا من شراء الأملاك لقلة ثمن الأرض آنذاك" .

وفي موضع آخر يقول " في آخر زمن المرحوم سعيد باشا ابتدأ الناس في سكنى جهة الرمل خارج المناطق العسكرية ، فاتسعت المدينة وكثر سكانها حتي بلغ عددهم سنة 1872 ميلادية " 430 212  نفسا من ضمنها 316 47 أغراب من ملل مختلفة ".

إن أسماء المحطات والشوارع في الشمال والجنوب تريك إلي أي حد كانت إسكندرية مدينة كوزموبوليتية  مدينة العالم الحقيقية ابتداء من " باكوس "  إلي سوتر " وشوتس و " جيليمونونوبلو "  و " ستانلي " و " فيكتوريا " وكامب شيزار وغيرها وغيرها من أسماء الشوارع أيضا ، في المناطق الشمالية أو في الجنوبية القديمة وبصفة خاصة منطقة كرموز – رقودة أصل الإسكندرية حيث كنت تجد علي رأس كل شارع لافتة تحمل اسمه اليوناني القديمة ثم اسمه العربي الحديث.

في جنوب الإسكندرية يتكدس الفقراء وتتكدس المصانع أيضا. الشمال والجنوب قسمة ضيزى في كل الدنيا ، الشمال يعيش دائما علي حساب الجنوب في كل العالم.