إذا كنتم شلة من الشباب السكندري في فترة ما قبل الألفية الثالثة، تتجمع لتبحث عن مكان يصلح لقضاء سهرة، في ليلة لطيفة الأجواء. أو حتى خروجة نهارية ممتعة، في نهار شتوي لطيف. ولا تملكون المال الكافي للجلوس على المقهى، أو للذهاب إلى السينما، أو شراء تذاكر دخول المنتزه مثلا. لكنكم تملكون المال الكافي للمشاركة فيما بينكم لشراء كرة قدم من أقرب مكتبة، أو محل للألعاب؛ إذن، الأمر مقضي؛ اذهبوا إلى أقرب شاطئ، والعبوا كرة القدم. لا يهم كم عددكم، فطالما الكرة موجودة، والشاطئ موجود، فاللاعبون كذلك موجودون، وهم كثر. ستلاقون على الشاطئ الكثير من الشباب في نفس أعماركم أو في أعمار قريبة، منهم من يلعبون بالفعل ولا يمانعون من زيادة عدد اللاعبين ومشاركتكم. ومنهم من جاء منفردًا أو في جماعات صغيرة العدد، يبحثون عمن يرضون مشاركتهم اللعب؛ وبالتأكيد سيجدون. ويمكن أن تتجمع الأعداد بشكل أكبر وأكبر ليتحول الشاطئ إلى ملعب كرة كبير الحجم يساع مباراة من فريقين متكاملين يضم كل منهما إحدى عشر لاعبًا. الملعب لا ينقصه سوى فقط تحديد المرميين. وهو أمر بالغ السهولة؛ فطالما اللعب على الشاطئ يستلزم خلع الأحذية، فالأحذية ستكون هي القوائم الأربعة التي تحدد المرميين.
كل سكندري في عمري أو أكبر عاش تلك المتعة المجانية. لا يمر أسبوع دون أن نتقابل مرة على الأقل لنلعب الكرة على الشاطئ. وحتى بدون اتفاق، يبقى لعب الكرة على الشاطئ هو أكثر المتع الارتجالية توفرًا ويسرًا. أتذكر هذه الأيام الجميلة الآن وأنا أرى الزحف الكبير لملاعب النجيل الصناعي على كل ركن في المدينة الساحلية. الأمر في مجمله جيد، ويشجع على ممارسة الرياضة، لكن عندما أسمع الأسعار التي يدفعها الشباب إيجارًا لتلك الملاعب، أتذكر فورًا متعتنا المجانية، وأجدني أفكر بحسرة: كيف انقرضت؟ كيف انتهت واحدة من أهم علامات المتعة في الإسكندرية؟ وكيف انتهى الحال بالشباب السكندري للبحث عن ملاعب النجيل الصناعي مثل سكان المدن الحبيسة؟
الأمر بدأ مع أكبر حملة تطوير وتحديث لطريق الكورنيش شهدتها الإسكندرية في التسعينيات، وهي حملة التطوير التي راعت أولا سيارات المدينة قبل أن تراعي أهل المدينة!! فأنا لا أفهم كيف يكون تطوير طريق مثل الكورنيش يفترض أنه طريق سياحي للتنزه، ليصبح حلبة سباق سيارات! اتساع الطريق للسيارات كانت له أهمية قصوى في عملية التطوير تلك حتى أنهم أكلوا من مساحة الشواطئ لزيادة حارات السيارات! الاهتمام بحركة السيارات وسرعة الطريق هي التي دفعتهم لإنفاق الملايين لحفر أنفاق للمشاة على طول الطريق، قبل أن يكتشفوا بعد عشرات الأعوام أن تلك الأنفاق لم تحل الأزمة، وإنما زادتها أزمات أخرى ـ يكفي أزمة غرق الأنفاق في أمطار الشتاء ـ وأن الحل الأسهل والأوفر هو وضع إشارات مرور وتحديد أماكن لعبور المشاة. هذا الحل البسيط والبديهي والأقل تكلفة، غاب عن عملية تطوير الكورنيش في التسعينيات، لأن واضعى الخطط لم يكونوا يريدون تعطيل السيارات بوضع إشارات المرور! وهكذا، ولأجل أن يصبح طريق الكورنيش طريقًا سريعًا مناسبًا للسباقات التي يجريها أولاد الذوات بسياراتهم فيه قبيل الفجر، انتقصت مساحات الشواطئ إلى النصف، وباتت ممارسة الشباب البسيط لمتعتهم أكثر صعوبة. لكنها مازالت ممكنة برغم هذا، حتى أتت الضربة الثانية.
اختراع جديد أتت بها علينا المحافظة يحمل عنوانًا مبهرًا وجذابًا، وهو: الشواطئ المميزة. وهي شواطئ لا تدخلها سوى بتذكرة دخول، وهكذا أصبح ما يزيد عن نصف شواطئ الإسكندرية غير متاحة لممارسة كرة القدم، وبقت وحدها الشواطئ المجانية هي المتاحة. لكن الأمر لم يستمر طويلا، فسرعان ما أتت الضربة القاضية. فالشواطئ إما تم تأجيرها، أو البناء عليها. واليوم اختفت الشواطئ المجانية، حتى تلك التي تحمل كلمة (مجانية) على لافتاتها، فهي ليست أكثر من دعاية كاذبة لجذب البسطاء لشواطئ تم وضع اليد عليها من قبل ما يفترض أنهم يقدمون الخدمات، فهم يجبرونك على دفع ثمن الكراسي والشمسيات وحتى دخول الحمام! وبالطبع فهم يمنعون لعب الكرة. أما باقي الشواطئ فقد احتلت نهارًا وليلا وصيفا وشتاءًا، فهي إما مفروشة بالكراسي والشمسيات لرواد الشواطئ، أو مفروشة بالكراسي والطاولات لتتحول في الأمسيات إلى كافيهات. ناهيك عن الشواطئ التي حاذتها الفنادق والأندية الخاصة، وناهيك عن حركة البناء التي تلتهم كل يوم مساحة جديدة من شواطئ وكورنيش الإسكندرية. ليصبح قضاء يوم على الشاطئ هي النزهة الأعلى تكلفة بالنسبة لأسرة يفترض أنها تعيش في مدينة ساحلية!! فكان من الطبيعي أن تختفي متعة لعب الكرة على الشاطئ، وأن تنقرض دون أن ينتبه لها أحد، أو يبكيها بما تستحق، أو تقام لها مراسم التأبين اللازمة. الأمر مؤلم لمن عاش هذه المتعة، لكنه أقل إيلاما بكثير مما نراه يوميًا من تشوهات تطول وجه مدينتنا، التي تكاد تتحول إلى عروس بحر إسمنتية!