السبت 8 يونيو 2024

وطن الصالحين

فن22-10-2020 | 11:44

"أنت من بلد الصالحين" مقولة والد زميلي الصحفي المحترم إبراهيم سليم سفيرنا الرائع في صحافة الخليج عندما أخبر والده بأنني من المطاعنة، اندهشت ورجل الاندهاش عندما قال لي الأقصر وقنا تحرسهما قبور أولياء الله الصالحين، وبلادكم - ويقصد قرى المطاعنة - أحبها الصالحون، خطت أقدامهم آلاف الكيلو مترات لتكون نهاية حياتهم في جنوب الأقصر وشمالها.

وحسب الإحصائيات إنه من إسنا حتى آخر قرية في محافظة قنا شمالا يوجد بها أكثر من 300 ضريح لمشاهير أولياء الله الصالحين، روى الناس كثيرا عن كراماتهم، ولكن هناك أولياء لم يجدوا من يتحدث عن كراماتهم ولم يجدوا إعلاما   مرئيا أو مكتوبا يتكلم عنهم.

كلمات والد صديقي إبراهيم كانت سببا في إبحاري بهذا الملف ولم يشغلني عدد أولياء الله، الذين جعلوا من الجنوب وطنا لهم.. ما عرفته وسمعته أسعدني، تماسك الجنوب سببه التفاف الناس حول كلام أولياء الله.

الجنوب عاش 14 قرنا في كنف الصالحين ولم تعرف القرى الإرهاب والفتاوى المدمرة إلا عندما تخلى أهله عن محبة أولياء الله وتسامحهم ومحبتهم للغير فظهر الوجه القبيح للإرهاب.

وليس الجنوب  فقط من به قبورا للصالحين  بل  معظم  محافظات  مصر بها أضرحة  للصالحين الذين وفدا إليها  لأنها أكثر  البلاد  مصدرا للأمن والأمان

سوربون الصعيد

في مركز إسنا يوجد عدد كبير من أضرحة أولياء الله معظمها في القرى المجاورة للمركز، الذي يبعد عن محافظة الأقصر 55 كيلو جنوبا، وارتبط المواطن الإسناوي بأولياء الله وأضرحتهم الموجودة منذ قرون كبيرة بعضهم له سيرة ذاتية يعرفها الصغار قبل الكبار، وآخرون يتبارك الناس بذكر اسمه رغم أنهم  لا يعرفون عنه أي شيء، وأحاديث الناس في ليالي الشتاء يقص فيها كرامات الأولياء في حكايات بعضها يعد من الأساطير، ولكن يصعب نفيها، فأولياء الله لهم صلات ربانية مع الخالق.

في قرى المطاعنة الممتدة  15  كيلو مترا طولا غرب النيل يوجد بها عدد من  الأضرحة وقبور الصالحين الأغلبية في قرية أصفون أكبر القرى، التي يطلق عليها سوربون الجنوب لاهتمام أهلها بالتعليم منذ عهد محمد علي مؤسس مصر الحديثة.

يردد العامة أن أولياء الله وفدوا من بلاد المغرب واستقروا في الجنوب، حيث الأمان والخير، وزهدوا الحياة مع العزلة عن العباد، وأشهر ضريح في قرية أصفون ضريح القطب الأمير غانم، الذي يقام له مولد سنوي معتمد من وزارة الداخلية يبدأ في الأول من شعبان وليلة الختام في النصف من نفس الشهر وطقوس الاحتفال بمولد الأمير غانم أشبه بالعيد، يصوم أهل البلاد نهارا وتنحر الذبائح وتعد وجبات إفطار لكل زائر للقرية، ولم تؤثر الظروف الاقتصادية على معدل الكرم، الذي لم يختف ، فيرجع نسب قبائل المطاعنة لخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق.

لا توجد سيرة مكتوبة عن الأمير غانم الموجود قبره وضريحه في مقابر أصفون، وما يردده الناس أنه قطب مغربي جاء إلى البلاد من سبعمائة عام مر على مدينة قوص والأقصر ولكنه استقر في أصفون إلى أن مات بها.

اهتمام الناس بإقامة مولد له منذ زمن طويل وأصبحت عادة حرصت عليها الأجيال، وأحيانا تروى حكايات عنه بأنه شهيد حرب ونظرا لشجاعته تمت إقامة ضريح له.

في نفس القرية، توجد عدة أضرحة للشيخ الحساني الموجود ضريحه أقصى جنوبها وجاوره الشيخ أبوعوف، الذي نال شهرة عريضة في كل قرى المطاعنة وهو وفد إليها في سبعينيات القرن الماضي واستقر بأصفون حتى وفاته وأوصى بأن يدفن مجاورا للشيخ الحساني. ومن كراماته أنه دعا لبعض الشباب فأصبحوا لاحقا من اهل الستر والمال والبركة في الذرية.

والشيخ أبوعوف كان مصلحا اجتماعيا ومعمرا للمشروعات وكان سببا في إقامة أول بذرة للمشروعات التعليمية في أصفون واستلم الراية منه الراحل حسن ماجد  رئيس الوحدة المحلية الذي من خلال جهوده مع الناس كانت المعاهد الأزهرية  للبنين والبنات حتى مراحل الثانوي.

وفي قريه طفنيس، أبناء العمومة مع أصفون يوجد مقام للشيخ أبوالعدب وعدد آخر من قبور الصالحين، في قرية الجلبين التي يحف النيل حدودها أعلى جبلها يوجد مقام الشيخ موسى، اعتلى المقابر ودفن فوق هضبة الجبل البالغ ارتفاعه أكثر من 500 متر، زائره من يزور المقابر يصعد إلى ضريحه ليقرأ الفاتحة على روحه ويتأمل في المنظر الساحر من جوار ضريحه.

في بندر إسنا، يوجد عدد لأضرحة الأولياء منهم الشيخ الضوي، الذي أصبح اسمه مرتبطا بسلوكيات الناس هناك، المواطن إذا رغب في التهرب من واجب الكرم يمزح مع ضيفه قائلا شاي أم تذهب للشيخ الضوي، ويوجد في بندر إسنا ضريح  الشيخ كوكو ولا يعرف متى جاء ولماذا دفن بالمدينة.

في قرية الدير أكبر القرى بالمركز ذات الكثافة السكانية العالية، يوجد ضريح الشيخ عبدالدايم، الذي له مولد سنوي ليلة الختام تكون 27 رجب.. والدير استوطن به الشيخ الإدرايسي مؤسس الطريقة الإدرايسية وهو من الطرق الصوفية.

رؤيا أبوالحجاج

في الأقصر يوجد عدد كبير من أضرحة الأولياء في القرى المجاورة لها المعرفة تحققت للعارف بالله ابوالحجاج، الذي يعد أشهر المشاهير من أولياء الله في الأقصر وجنوب الصعيد.

يوسف بن عبدالرحيم بن يوسف، ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسين، من مواليد العراق،وأطلق عليه اسم أبوالحجاج لأنه كان ساقي حجاج بيت الله الحرام قبل سفرهم في مدينة قوص ثم تبدل الاسم إلى سيدي أبوالحجاج.

وأبوالحجاج مثل كل أقرانه العلماء وأهل الخطوة أتم حفظ القرآن قبل أن يصل عمره للعاشرة، ودرس الحديث والفقه على خيرة علماء بغداد منارة العلم في ذلك الوقت، وبعد أن شرب من أنهار علماء العراق وبسبب عدم استقرار الأوضاع للاضطرابات التي شهدتها البلاد في أوائل القرن الثالث عشر بسبب حروب السنة والشيعة، أخذ ما يكفيه من المال وقصد السفر إلى مصر وقبلته كانت الأقصر، بعد أن رأى رؤيا تفسيرها يقول له اتجه جنوبا إلى مدينة العجائب والأساطير.

لم يكذب العارف بالله أبوالحجاج تفسير الرؤيا واتجه إلى الأقصر بعد أن زار مدينة الرسول - صلى لله عليه وسلم- ومنها إلى مكة، وعند وصوله للأقصر كان الاستقبال الحافل له، سكانها أهل كرم حتى قبل دخولهم للإسلام، فقد كانت تعيش فيها القبائل العربية قبل وصول الفتح الإسلامي وربما دخل الإسلام معظمهم في القرن الرابع الهجري.

ولم يقض أبوالحجاج سوى أسابيع قليلة، وأصبح مسجده مزارا لكبار العلماء في جنوب مصر، درسه الأسبوعي كامل العدد، ومسجده يزدحم بالمئات من البشر، كانت كلماته فيه أشبه بالدواء الشافي، وكان روحانيا يطلب ممن يسمعه أن يترك أمره للخالق.. سمعت بحلاوة حديثه الراهبة المسيحية، التي كانت تقيم بالدير القريب من مسجده فطلبت أن تسمع له، واندهشت بسبب الرقي في خطابه ولم يكن متعصبا ويتحدث بآيات القرآن الكريم عن معجزات المسيح - عليه السلام - ووصف مريم بأنها سيدة نساء العالمين البتول والعذراء، ولم تجد راهبة الدير من حلاوة حديثه مقاومة في أن تدخل الإسلام.

وبعد سنوات قليلة من الاستقرار خرج في رحلة علم شمالا إلى أن وصل الإسكندرية وكانت قدماه تقوداه لكل مدينة يسكنها عالم أو عارف بالله وخلال عودته للأقصر التقى  مع أمير الكرامات عبدالرحيم القناوي قبل وفاته.. تسعون عاما هي عمر أبي الحجاج مع الحياة قضى نصفها تقريبا بالأقصر حتى وفاته ودفن بها ليتحول مسجده ومقامه إلى مزار لأجانب وفدوا لمحافظة يعشقها سكان الكون لاحتواء أراضيها على ثلث عجائب الكون، وعلى حواف نيلها زراعات تشفى من يشم هواءها أو ينظر إليها وربما كانت المنطقة يكثر بها أهل الخطوة ومَنْ يجلس على النيل والمتطلع إلى حوافه لا يملك إلا أن يسبح لخالق الكون، أضف إلى ذلك أن مقامه صار مقصدا لكل مهموم ومظلوم لم يجد له حظا مع الدنيا.

 ورغم رحيل أبوالحجاج منذ تسعة قرون عن عالمنا إلا أن سيرته وكراماته لا تزالان تُرويان في أحاديث الناس بالجنوب، ويقسم الناس بحياته، وفي ليلة النصف من شعبان من كل عام يكون الاحتفال بمولده، الذي يعد عيدا للمحافظة وسكانها.

وطقوس الاحتفال به لا تختلف كثيرا عن عيد الأضحى، نهارا الكل صائم لأنها ليلة مباركة تغفر فيها الذنوب وتنحر الذبائح أول النهار لإعداد طعام الإفطار لكل زائر وغريب داست قدماه المحافظة، فهو ضيف أبوالحجاج الذي أجهد قدميه طلبا للعلم..

ويوجد في الأقصر ضريح لعالم شهير من مواليد القرن الثالث عشر(علي بن دقيق) بالقرب من معبد الكرنك وهو واحد من علماء الأزهر كان قاضي قضاة مصر من مواليد مدينة قوص أكثر المدن ازدحاما بالعلماء يطلق عليها أزهر الصعيد.. ورغم شهرة أبوالحجاح إلا أن زوار الكرنك دائما في سؤال عن صاحب الضريح.

وسابقا كان هناك ضريح للشيخ بعيش ويتردد أنه لا يوجد جسد مدفون أسفل الضريح.

في البر الغربي بعيدا عن شهرة أبوالحجاج في أرمنت يوجد ضريح أبوحطب صاحب كرامة التماسيح لأنها أيام ما كانت تسبح في النيل قبل إنشاء السد العالي كانت عند مدينة أرمنت تنقلب على ظهرها، وفسر علميا أن اندفاع التيار سبب سلوك التماسيح.. أبوحطب لا يزال العامة من أبناء أرمنت يحلفون بحياته وهو حسب المعلومات المتوافرة عنه أنه من أهل الخطوة.