الخميس 23 مايو 2024

تدافع الشاعروالمثقف.. قراءة في (تفاصيل حلم مكملش) لـ سمير الأمير

فن22-10-2020 | 13:49

تعتبر الرؤية الشعرية رؤية خاصة جدا للعالم ومفرداته ؛ إنها التفكيك لوحدات الواقع المنظور وإعادة تشكيل بنية مختلفة ؛يهدف الشاعر المثقف من خلالها إلى تنوير وتثوير المجتمع . والخطاب الشعري بهذا المفهوم موجه لا إلى المثقفين وحدهم في حالة تعال لغوي ورؤيوي بل إلى طبقات المجتمع كافة وفي مقدمتها الكادحون والمهمشون .وذلك في اعتقادي هو مقصد سمير الأمير الأسمى.

وفي الطريق الضيق لتحقيق ذلك يحدث أن ينفصل الشاعر عن المثقف فيتقدم المثقف خطوة ليتحول الخطاب فلسفيا جافا بعض الشيء ؛ كما يحدث أن ينفصل الاثنان ويتقدم الشاعر خطوة ليتحول الخطاب غنائيا وربما يفتقد العمق الرؤيوي : الفلسفي أو الثقافي ـ وفي حالات الإبداع العليا يتحد الشاعر بالمثقف ليقدم لنا ذلك الكيان الموحد /النص المبدع الذي ينتظره القارئ/ المتلقي أيا كانت درجته / قدرته على التلقي . وذلك النص الذي ينتجه الشاعر المثقف هو القادر على التنوير والتثوير وإعادة تشكيل مفردات البنى الآنية لإنتاج بنية مغايرة يتشكل منها العالم / الحلم الذي يطمح إليه الشاعر المثقف .

لا يتركنا سمير الأمير ننتظر فيبدأ من اللحظة الأولى في فك الطلاسم عندما يهدي مجموعته الشعرية " تفاصيل حلم ماكملش"للذين " شقوا ترعها ورفعوا جسورها ودافعوا عن حدودها " ..وبالطبع يعود الضمير على مصر / الوطن في استدعاء واضح لتاريخ الكدح والكفاح ؛ فالذين / هذا الاسم الموصول يشير إلى " الفقراء الأغنياء" الذين ينحني سمير أمام عزتهم . الفقراء الكادحون هم الذين شقوا قناة السويس وماتوا وهم يحفرون وهم الذين حفروا الترع وهم الجنود الذين خاضوا حروب الوطن المتعددة . وهم أغنياء .. ليس الغنى المعروف بالمال بل بكرامتهم وعشقهم للوطن وتضحيتهم من أجله .

منذ اللحظة الأولى يفتح الأمير الباب أمام تكهنات المتلقي بوجهة الخطاب وماهية الحلم الذي (ماكملش) ولنقف أمام المقطع الأول من القصيدة الأولى " طالع لأمى"

يقول الأمير : زهقان من صوتي الغضبان

                قلبي الموجوع اتهد

                 نفسي بجد أرخي حبالي

                وابطل شد

تصور البداية حالة الصراع الداخلي والأزمة النفسية التي يعيشها الشاعر . هناك شد وجذب ؛ تدافع شديد بين المثقف الثوري متمثلا في الصوت الغضبان والشاعر المغني الرقيق والهش متمثلا في ( زهقان / قلبي الموجوع اتهد / نفسي بجد أرخي حبالي / وابطل شد ).

هذه الحبال المشدودة هى حبال الثائر الغاضب الذي طال غضبه وطالت ثورته وطال طلبه للتغيير حتى تعب وكلّ وملّ, وتؤكد / نِفسي/ على أنه غير قادر على حسم هذه المعركة بين نفسه الشاعرة التي تعبت ونفسه الثائرة التي لا تطاوعه .

يحاور الأمير نفسه ويغريها بالاستكانة ثم يتحسر على الحلم الضائع ( ليه كل حاجة أحسها جيالي..تطلع أوهام) هذه الجملة الشعرية الصادقة تتلاقى مع عنوان المجموعة (حلم ماكملش) لتبلور مبكرا تفاصيل البكائية التي نحن بصددها .

والتساؤلات العديدة في القصيدة هي في الواقع جمل تقريرية فالشاعر الثائر ليس ( لطيف وخفيف وموالي ) وليس ( طبال ) . لقد ولد من سلالة ثورية رمزها الأول آمال التي ربما تكون رمزا دلاليا سنكتشف ماهيته أكثر فأكثر مع مرور الوقت .

والثورية التي ورِثها ورّثها لأبنائه ؛ لكنهم لا يملون . هذا الشاعر الثائر هو صوت الكادحين " دمعة عين المشتاقين / بحة هتاف المؤمنين "

وهي / مصر / الأم / آمال / الوطن ( سر شدة قامتي ورفضي لخضوعي المؤجل من سنين )

هذا التدافع بين الثبات والخضوع ربما سيلاحقنا إلى الكلمة الأخيرة في المجموعة . وستلاحقنا أحلام ومعاناة ( اللي جابوا الرمل للوادي / على أكتاف الشجر والطين) الأمير ليس صوتا منفردا ؛ وليس شخصية دونكيشوتية ؛ إنه جندي في جيش كبير ، سبقه في الجهاد ثائر / شاعر آخر يعده الكثيرون من جيل الأمير قائدهم وأستاذهم ؛ إنه فؤاد حداد الأسد( عمر الأسد ماينام في فرو خروف )

وتعالت في هذه القصيدة " حضرة فؤاد حداد " الغنائية فقد جاءت على شكل رباعيات عالية الموسيقى التى انهمرت من روافد عدة / الوزن/ القافية / الموسيقى الداخلية / مثل السين والهاء في / سهل الهضم ع الأسوار / واللام والياء في / ولى على أوليا / . والتاء في / انت تلبس شكلها مشحوت/.

قدرات الأمير بلا حدود كما يبدو .. يغني عندما يريد ويثور ويثوّر النص من الحرف إلى الجملة أيضا عندما يريد .. إنه شاعرالكادحين ؛ يخاطب الدهماء ؛المطحونين . لكنه في هذه الغنائية التى استحضر فيها أستاذه فؤاد حداد يثور على الشعراء أنفسهم ويضرب بقوة على أيدي الأدعياء الذين خربوا الحياة الأدبية في عنف لا يقل عن ذلك الذي يواجه به الاستبداد , وفي مرارة لا تقل عن تلك التي واجه بها ضياع أحلامه / زاطت ليالي الشعر والتهريج / والقلة واقفة تقلد الصهريج / وشعرا صيني وشعرا خرج بيوت / جدر النجيل طمعان يطول النخل . يدعوالأمير المهموم دائما بقضايا الوطن ؛ بتنوير وتثوير الضعفاء والمهمشين يصرخ فيهم / يابن الذين اصنع سفينتك / ؛ إنها دعوة للعمل والاعتماد على الذات في القيام بأعباء القضية ونهي عن ركوب سفن الآخرين التي ستأخذهم إلى غير الطريق.

ويستكمل ثورته على أدعياء الشعر في نبرة عالية في " شاعر بيشكي دخول جنته في الظروف " فيصرخ : وإذا الشعر غاية وسباق / أو الدنيا هامش نفاق لمتن القرف والغواية / فقول ع الرجولة السلام .  إنه يكره أن يكون الشعر تافها (خيابة) وأن يكون ( مجرد كلام) واقرأ :

إذا الشعر تحت الموائد قطط

وفوق الموائد غيلان

زحام فوق وتحت وحواليك زحام

قدوس فوق رقابهم

وفي نفس القصيدة الغاضبة :

ولما استهان الغباء بالرفاق

وفرق عليهم حصص الاتفاق

لقينا الكلام في الفنادق ريالة ورياء

لقد استحضرت وأنا أقرأ هذه القصيدة الملتهبة قصة أروي صالح مؤلفة " المبتسرون " والتي انتحرت بإلقاء نفسها من الطابق العاشر في صيف 1997م بسبب تحول الكثير من رفاقها عن سيرة النضال ، والانبطاح أمام مكاسب فردية فضحتها في كتابها قبل أن تقدم على الانتحار .

لكأني بسمير الأمير يكتب هذه القصيدة في رثاء أروى صالح ؛فاضحا أولئك الذين يتاجرون بالكلمة.

ضاع حلم الثورة ( كما كنت يابو سفيان / لف التاريخ تاني ورجعت الأوثان / رجعت جحافل الكدب واحتلت الميادين / وف شِعب هبة يناير الشعب متحاصرلا ثورة بتحصله ولا خوف بيتاخر) .  الحلم اللي ماكملش/ إذن هو حلم الثورة التي بدأت ولم تكتمل لأن الأمور اختلطت واختلط الصادق بالكاذب والثائر بالمحتال ؛ ضاعت الثورة وضاع الدم المسفوك و(ما عدش لينا وليك غير انتظار الجحيم )

إن استحضار شخصية " أبو سفيان " وسورة التوبة والورث والسلطان والأوثان والشِعب وشريعة / باسم الإله الرحيم / الأنبيا / دار الأمان / دار الفتح / هو استحضار لمشهد تاريخى وهو مشهد فتح مكة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن " .

ومقابلة هذه الصورة بصورة الثورة التي افتقد فيها أبو سفيان الجديد تلك الميزة التي أعطاها له النبي (ص) فلم يعد ثمة مكان آمن . وفي القصيدة تعريض واضح بالإسلاميين( ربما يسميهم الأمير بالمتأسلمين) الذين يرى سمير الأمير وكثيرون غيره أنهم قفزوا على الثورة التي لم تكن ثورتهم / والثورة ثورة مين ؟/ الثورة ثورة مين يا خلق ما تقولو ؟/ الثورة إذا ضاعت وضاع الحلم /

 في الأول لم الشارع كل

 مشاعر الثورة وطلق الحلم في صرخة رفض

في الآخر لم الغربان والدود

ووسط هذا الانهزام يتذكر الأمير/ الشاعر / المثقف/الثوري ، يتذكر جمال عبد الناصر الذي كان مؤازرا لثورة اليمن في واحدة من غنائياته ذات الإيقاع الموسيقي العالي.

ما كانتش حرب لا سنة ولا شيعة

ولا خمسميت دولة ف تربيعة

الحرب كانت ع الملوك والضلام

الشاعر التنويري المثقف الثوري لن يترك الدرب الذي سار عليه منذ نعومة أظفاره ؛ حرية مع الظلام والسلطة الكهنوتية .وقضيته هى العمال والكادحون والحرية والثورة . واستدعاء عبد الناصر ضرورى ؛أليس عبد الناصر أحد الذين شنوا حربا لاهوادة فيها على الإخوان ؛الذين اختطفوا الثورة ؛الآن يشن عليهم الأمير حربا شعواء فهم يمثلون الكره /التكفير/الظلم/حرموا التفكير/ الجهل /تزويج البنات في سن التاسعة ( تسع سنين البنت تركب الحنطور) / اللي قتلو السادات / كدابين / أغبياء / أوباش/ عملاء أمريكا (الست أمريكا مرضعاهم جاز) / رباية استبداد / خونة/ الخرفان/ دراويش / الأنجاس

الأمير لا يريد وطن يحكمه تجار الدين ؛ يريد وطن / إدريس وطه ونجيب :حيوحشوني بجد

عواميد وطن عبقري لو وقعوا الوطن يتهد

إنها حسرة على وطن ضاع وثورة انتهت وحلم ماكملش / دي الوقت بعد المسخرة بتقول " يا ريتني ما ثورت " / راحت سنين الفرح والجى مش مضمون / .

وفي ( رباعيات لا إخوانية) واحد وستون رباعية تعكس مرارة الشاعر الثائر وحزنه على ضياع حلمه وحلم الملايين . وتعكس رؤيته للفترة من بداية 2012 وحتى 30 يونيو 2013 في تاريخ مصر .

الشعر دار ع الشعرا شاعر شاعر

لقى اللى فيهم أصيل واللي عويل داعر /

ثورة على شعراء التكسب وبيع الكلمة / الشعر مش إلحق وحلق حوش

ما جالاكش على مهله ما تكتبهوش

" وقالتلي أمي إياك تتغر بالمظهر"

يعود الأمير إلى أمه التي يبدو أنها من علمته صغيرا وغرست فيه القيم التي ظل متمسكا بها إلى الآن . إنها آمال/ الأم / الوطن / مصر/ القضية.