الخميس 26 سبتمبر 2024

الأيام الحلوة فقط: المهندس أحمد عفت

فن22-10-2020 | 14:45

هو أول رئيس مجلس إدارة لشركة الترسانة البحرية في الإسكندرية . الشركة التي تقرر إنشاؤها في إطار الخطة الخمسية الأولي في بداية الستينيات من القرن الماضي . كان حظي أن أعمل فيها عام 1965 . بالضبط في شهر مارس من ذلك العام وكان رقم تعييني 532 . كانت في بدايتها . لقد تقرر إنشاؤها عام 1960 في الميناء الغربي من الإسكندرية في المنطقة التي تمتد من الخارج من حي المفروزة إلي حي الورديان . مساحتها كبيرة تصل إلى حوالي أربعمائة ألف متر مربع شملت جزءا كبيرا من الأراضي حول الميناء وجزءا كبيرا من المياه التي تم ردمها . لماذا عملت بها في هذه السن المبكرة؟  كنت حصلت علي دبلوم الصنايع عام 1964 وفي نيتي أن أكمل التعليم والتحق بكلية الآداب وهذا ما فعلته . الذي جعلني ألتحق بالصنايع هو أني حصلت علي الإعدادية عام 1961 ولم يكن عبد الناصر قد أعلن مجانية التعليم بعد وكان والدي سيخرج إلي المعاش في العام التالي .

لم تكن مصروفات الدراسة الثانوية مشكلة لكنها مصروفات الجامعة هي التي كانت مشكلة . قررت أن أختصر الطريق علي العائلة . وبعد أن تقدمت بأوراقي إلي مدرسة محرم بك الصناعية وكانت جديدة وكنا أول دفعة فيها أعلن عبد الناصر في شهر يوليو التالي لتقديم أوراقي مجانية التعليم ولم يكن ممكن سحب أوراقي والالتحاق بالثانوي العام . ضاعت الفرصة فأكملت . المدهش أني كنت في قسم الكهرباء معي سبعة وعشرين طالبا كلهم حصلوا علي مجموع أكثر مني وبينهم طالب كان السابع علي الجمهورية . كلهم تقريبا كانوا يخشون مصروفات الجامعة وأكثرهم فعل مثلي بعد التخرج والتحق بالكلية التي يريدها . اشتغلت في شركة الترام ثم عرفت أن الترسانة كمشروع جديد يدفع راتبا قدره خمسة عشر جنيها . يعني ثلاثة جنيهات زيادة عن السائد وكان اثنيّ عشر جنيها كما كان خريج الجامعة يحصل على عشرين جنيها وكان السائد ثمانية عشر جنيها . التحقت بالترسانة وتركت شركة الترام . لم تكن الترسانة غير أرض ومياه البحر التي يتم ردمها لبناء الورش فوقها . كنا فيما أذكر ثمانية فنيين من تخصصات مختلفة ومعنا مهندسون الأقدم اسمه نبيل  وخبير سوفييتي مهمته أن يساعدنا في وضع الآلات فوق القواعد الخرسانية علي الأرض داخل الورشة . كانت الآلات تأتي في طرود خشبية كبيرة وكنا نحن ننشئ الورشة الرئيسية التي أمامها ما يسمي بــ  "القَزَق " وهو منحدر خرساني ستبني عليه السفن فيما بعد . كانت هناك ورش أخرى للحدادة والخراطة وغيرها لكن هذه كانت الورشة الرئيسية التي سيتم تشكيل ألواح جسد السفينة علي ماكيناتها ثم تنقلها الأوناش العالية إلي القزق ليقوم الفنيون والمهندسون بصناعة السفينة .

لم تكن هناك طبعا سفن قد تم إنشاؤها لكن كنا ننشئ الورشة الرئيسية  التي بها سيتم تشكيل ألواح جسم السفينة . كانت الآلات كبيرة تأتي في طرود خشبية وبعضها يصل إلى ستة أمتار طولا ومترين عرضا ومترين وأكثر ارتفاعا . كنا نحن مختلفي التخصصات نقوم بشيء واحد هو فك هذه الطرود الخشبية المحزمة بالسيور ثم توصيل الآلة أو أجزائها بالأوناش العالية لنقلها إلى قاعدتها الخرسانية وتركيبها مع الخبير السوفييتي .

كان المهندس أحمد عفت الرجل الأنيق الجميل الطلعة المهاب الشكل الذي يحمل ملامح البكوية يدور في كل أنحاء الورش التي يتم إنشاؤها يتابع العمل . في أحد الأيام كان يقف مع المهندس نبيل الذي للأسف نسيت اسمه الكامل بينما لا أنسى اسم المهندس الشاب الجديد وقتها أحمد عبد السميع . كان أحمد عفت رئيس مجلس الإدارة يقف يتابعنا وكان هناك طرد كبير جدا رآني أسرع وفي يدي عتلة كبيرة , لم يكن وزني يزيد على خمسة وستين كيلو جراما , ثم أقفز فأصعد فوق الطرد الخشبي وبسرعة فائقة أفك الأحزمة من السيور التي تحيط بالطرد وألقي بالخشب إلي كل جانب في دقائق ثم أقفز إلي الأرض .

 وجدته يتأملني ثم يشير إلي لأتقدم ناحيته . قال لي " أنت تعلمت العتالة فين ؟" وقفت مبتسما وقال له المهندس نبيل " إبراهيم يا فندم مش عتال . إبرهيم دبلوم كهربا وكل من معه دبلومات في تخصصات أخرى لكن كما تعرف كلهم يعملون في تركيب الآلات كما أن إبراهيم يحب القراءة جدا في ساعة الغداء بينما يأكل الجميع يجلس يقرأ " سألني " ماذا تقرأ ؟" قلت " آداب " قال " وريني الكتب " أحضرت له كتابين كنت أحتفظ بهما في دولاب ملابسي حيث كنا نغير ملابسنا ونرتدي أفرول أثناء العمل . 

كان الكتابان في الأدب الفرنسي . قال لي "  الورشة ليست مكانك . غدا تنتقل إلى مركز تدريب الترسانة لتدريب الطلاب على الكهرباء وتدريس اللغة العربية " كان مركز التدريب  يمنح الطالب دبلوما ولكنه مخصص للطلبة الذين سيعملون في الترسانة لا للعمل في مكان آخر وكان خريجوه يتم إعفاؤهم من الجيش لسن الثمانية والعشرين تقديرا لهذا المشروع . تم إلغاء هذه الميزة بعد مظاهرات يناير عام 1977 لأن الترسانة قادت المظاهرات من الورديان إلى المنشية وكنت أنا غادرت الإسكندرية منذ أربع سنوات بعد أن أنهيت دراستي الجامعية .

انتقلت إلى مركز التدريب وقمت بالتدريب والتدريس . كان ذلك عام 1966، المهم في عام 1969 فزت بالجائزة الأولى في القصة القصيرة على مستوى الجمهورية في مسابقة أقامها نادي القصة بالإسكندرية وكان مؤسسه الصحفي الراحل فتحي الإبياري، نُشرت القصة كاملة علي صفحة من أخبار اليوم يوم السبت مع مقدمة لمحمود تيمور عنوانها "هذا قصاص موهوب " .

 فوجئت بالمهنس أحمد عفت الذي تدخل إليه الصحف باعتباره رئيس مجلس الإدارة يطلبني ويأمر بوضع القصة في لوحة الشرف على باب الإدارة ويأمر بصرف مكافأة مالية رائعة لي . ولم يكن ذلك كل شيء صار إذا حضر إليه من القاهرة أحد رؤساء مجالس إدارات شركات أخرى يدعوني للتعرف إليه ويقول لهم هذا الشاب سيكون أديبا كبيرا يوما ما . وإذا حضر إليه صحفيون يفعل الأمر نفسه وأخذني معه في مؤتمر للقاهرة خاص برؤساء مجالس الإدارات وقدمني لأكثر من أحد، صار بعد ذلك بعام أو عامين وزيرا للنقل البحري وترك الترسانة وكان مقر الوزارة بالإسكندرية .

 كنا أصدرنا كتابا عبارة عن مجموعة قصص لي وبعض الزملاء علي نفقتنا فذهبت به إليه في الوزارة فأخذ مني عددا من النسخ مما كان من نصيبي وصرف لي مبلغا كان هدية للتشجيع أكثر منه ثمنا للكتب، جئت القاهرة عام 1974 مغادرا الترسانة والاسكندرية وتباعدت بيننا الحياة لكني لا أنسى له هذا الكرم وهذه الثقافة أبدا . ولا أنسى وقاره وأناقته وطلته الرائعة . لقد قابلت بشرا عظماء جعلوني أثق بنفسي وأحب ما اخترته أن أكون أديبا . منهم المهندس أحمد عفت رحمه الله.