السبت 4 مايو 2024

طه حسين في "أيّامه": أسئلة الفنّ والتغيير

فن23-10-2020 | 14:00

مثّل كتاب "الأيّام" لطه حسين مدوّنة مميّزة للدارسين في مجال السيرة الذاتيّة بقضاياه الفنية والجماليّة ودلالاته الثقافيّة والاجتماعيّة. فقد طرح طه حسين في «الأيّام»مشكلة الجنس الذي ينتمي إليه بسبب غياب العقد السيرذاتي منه وتمنّعه هو نفسه عن ضبطه على نحو صريح. فقد أجاب عن سؤال غالي شكري مرّة:"دعكمنالأيامفلاأعدّهقصّة" وحين سأله عن مشكلة التصنيف الأجناسيّ للكتاب قال: "لاأدريهلترونهامشكلةحقّا؟روايةأمسيرةذاتيّة؟وماالفرق؟الأدبكلّهسيرةذاتيّةحتّىحينيؤرّخالأدبلأحداثمضتأوحينيرمزبالأساطيرلفكرةمعاصرة".

لذلك طفق الدارسون يقلّبون النظر في هذا النصّ التأسيسيّ متسائلين عن هذا الجانب الفنّيّ باحثين فيه عن إجابات تنطلق من النصّ في مقاربة محايثة لا تعوّل كثيرا عن الخارج النصّيّ رغم أنّ المعيار الأساسيّ هو عتبات النصّ التي تحلّي الغلاف خصوصا منها الاسم العلم والتحديد الجناسيّ. وقد كان هذا السؤال الفنّيّ الذي طرحه طه حسين في نصّه مدعاة إلى الإصرار على مكافحة النظريّة بالكتاب والعكس بالعكس. فالأدب أيضا وبالخصوص يتحدّد فنّيّا بما يثيره من أسئلة جماليّة وبخروجه عن السنن المسطورة. فهو في جدل مستمرّ بين ما يمكن للوضوح النظري أن يخصبه من أسئلة ومناهج ونتائج في مقاربة الأدب وقضاياه عموما وبين ما يتضمنه النصّ من خطير الأسئلة الجماليّة وألاعيب السرد. وقد كان طه حسين بارعا فيها خصوصا في «الأيّام»براعة تدلّ على وعي نظريّ قويّ. فعلى قدر العمق النظري يمكن توليد القضايا الفكريّة والفنّية في هذا المجال.

وقد كشفت لنا تجربتنا مع «الأيّام»في كتابنا "سيرة الغائب، سيرة الآتي"، ونحن ننظر في الكيفيّة التي صنع بها طه حسين سيرته الذاتيّة ونسّق أجزاءها تتابعا وتوازيا وتقابلا، وجوها من إضافته الفنيّة اللاّفتة في هذا الجانب بما مهّد لتأويل البنية تأويلا أفصح عن الإيديولوجية الكامنة وراء الشكل استنادا إلى دلالات الذكرى الأولى (ذكرى السياج في الفصل الأوّل) وخصائص العالم السرديّ الذي ابتناه وما يعتمل فيه من صراع قوامه الاتصال والانفصال والمنع والإصرار على التجاوز.

وهو ما يسّر كذلك وبالقدر نفسه دراسة لعبة الأزمنة وصور الترابط بين زمن الخبر وزمن الخطاب السرديّ، تعاقبا ولواحق وسوابق وسوابق مكرّرة وأزمنة مؤلّفة وغير هذا ممّا قام عليه الكتاب من توتّر زمنيّ اتصالا وانفصالا وتشتّتا وانتظاما بسبب تشغيل مبدأ الانتقاء والاعتماد على التحوّلات الدالّة في مسيرة الشخصيّة الرئيسيّة.

وكانت مسألة كتابة السيرة الذاتيّة بضمير الغائب ووظائفه النصّيّة والفنّيّة الجماليّة والإيديولوجيّة (ونقصد بالخصوص مسألة الهوّيّة) واسطة العقد في الأسئلة الجماليّة التي طرحها طه حسين. فوراء لعبة الضمائر هذه نجد الشبكة المعقّدة للراوي وهو يتقلّب داخل الحكاية في الفصل العشرين الأخير وخارجها في بقيّة الفصول كاشفا عن مستويات مختلفة من السرد وعن هويّة مزدوجة بين الراوي والبطل ووظائف متنوّعة سردا وتفهيما وتعليقا يتضمّن المواقف الإيديولوجيّة المختلفة. فلعبة "الأيّام" الأساسيّة التي نتجت عن استخدام ضمير الغائب تكمن أساسا في خاصّيّتين هما التمييز بين الصبيّ والكهل من جهة والراوي من جهة أخرى في الرؤية أوّلا وفي الصوت السرديّ ثانيا تنافرا حدّ القطيعة وتقاربا حدّ التطابق.

بيد أنّ ما اعتبرناه المشروع السيرذاتي لطه حسين وما نعتقد أنّه المقصد الأسنى في "الأيام" من خلال النصّ ذاته وتحليل استراتيجيّاته الخطابيّة ينهض على التأثير بالقول وتداوليّة السخرية لتحديد البنية الحجاجيّة الإقناعيّة في النصّ من خلال صيغ التعبير فيه ضمن لعبة فنّيّة مدوّخة قوامها العلاقات المتنوّعة بين القارئ الضمنيّ والقارئ الصريح وما وضعه طه حسين من مسافات بينهما.

ونشير هنا إلى مسألة أدبيّة وثقافيّة أساسيّة. فقد كانت «الأيّام» على تقدّمها الزمنيّ شهادة على أنّ الفنّ الروائيّ عمومايعرض سوسيولوجيّة المجتمعات العربيّة التي تعبّر عن الحالات المختلفة التي يعيشها الإنسان العربيّ وحيرته وتمزّقاته وطموحاته وتردّداته ونزعاته الجديدة المتمرّدة الرافضة الحالمة. لذلك لا يمكن فصل مدوّنة طه حسين السرديّة عموما و"الأيّام" تحديدا عن مجمل مواقفه الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. 

وإذا سلّمنا بأنّ المشروع الفكري الأوسع لطه حسين هو مشروع تغيير وتأثير لتفكيك الأبنية التقليديّة جميعا وبناء إنسان المستقبل فقد أدرك على نحو مبكّر دور الرواية في تغيير الذهنيّات بما تقدّمه من معرفة أدبيّة عن الإنسان والعالم وما تغرسه في القارئ من حساسيّات جديدة ونظرة متعدّدة إلى الكون بفضل تحقيق درجة عالية من المشاركة الوجدانيّة والمعرفيّة والجماليّة.

واعتقادنا أنّ السيرة الذاتيّة من وجهة نظر القارئ أكثر الأشكال الروائيّة قدرة على شدّ القارئ وتشريكه في لعبة الحوار بين الذوات وذلك بسبب ما تقدّمه من قصص النجاح في الأغلب ومن نماذج إنسانيّة يرى فيها القارئ بعض ملامحه تشابها أو اختلافا. فالمظهر البطولي في السير الذاتيّة التي تقدّم قصص نجاح متنوّعة يمنح طاقة على الحلم رغم أنّنا في عصر لا بطولات فيه إذ الإنسان نفسه صار دون صفات مميّزة له. أمّا ذكر المخازي والعيوب والنقائص التي قد يبوح بها المؤلّف في سياق البوح بأسراره يستحيل مرآةً يرى فيها القارئ ذنوبه أو بعضها فيتطهّر منها مردّدا في نفسه : "لست وحدي مذنبا".

وفي هذا الصدد كانت «الأيّام»سيرة ذاتيّة تأسيسيّة بقوّتها وفتنتها وبراعة صاحبها فحدّدت الجزء الأكبر من أنموذج الكتابة السيرذاتيّة العربيّة. فقد غاب منها الحميميّ الفرديّ الكاشف عن المعايب والمحظور وما يعسر البوح به. فأقصى ما نجده في "الأيّام" من هذا البوح حديث غائم عن الحميميّ الخاصّ (في الجزء الثاني من الكتاب الفصل 11، عند الحديث عن "أبو طرطور"). أمّا النصّ كلّه فقام على نحت أنموذج لبطل إيجابيّ يعبّر عن عقيدة صاحبه. وعقيدته التي سعى إلى إقناع القارئ بها هي كما قال الناقد التونسي المرحوم عبد الله صولة تقوم على مفهوم "الإنسان المنتظر الذي يملأ الأرض علما وعملا وإرادة" فيكون الأيام "كتاب حلم أو بالأحرى كتاب دفع إلى الحلم" من خلال تقديم مثال حيّ عن صبيّ مكفوف نحت كيانه وغالب الصعاب مقاوما مصرّا بقوّة عقله على المعرفة المغيّرة للواقع الفرديّ والجماعيّ.

وهذه السيرة، حين نتأمّلها في عمقها، أقرب إلى قصّتي عقل ونفس (بعبارتي زكي نجيب محمود في سيرتين من سيره الذاتيّة والفكريّة الثلاث) منها إلى ما يُنتظر من السيرة الذاتيّة المعهودة. لذلك كانت السيرة الذاتيّة الفكريّة الإطار الأرحب الذي تتنزّل فيه السيرة الذاتيّة العربيّة أو جلّ ما كتب فيها. وتستند هذه السير،حين ندقّق ونحقّق، إلى أسطورة برومثيوس ونظيره المعاصر فاوست. فهي تبني هويّات سرديّة لا تخلو من نمطيّة مأتاها صورة الإنسان الجديد رغم تنوّع المسارات الفرديّة والاختلافات بينها. وعماد هذه السيرة البرومثيوسيّة التمرّدُ على المنظومة الاجتماعيّة والفكريّة القائمة والتشكيك فيها والتبرّم منها. ويكون هذا التمرّد منطلقا لصاحب السيرة للبحث عن معنى الوجود اعتمادا على المعرفة والثقافة والعقل فيختزل مسار التحوّلات السرديّة في الفكر فتصبح الحياة كلّها هامشيّة وينفصل المؤلّف الراوي الشخصيّة عن عالم الناس بعض الانفصال مجنّحا في سماء الفكر والمثل والمعاني الكبرى دون أن ينغمس فيها كلّيّا. بيد أنّ معنى الوجود الذي يبحث عنه صاحب السيرة الفكريّة أو السيرة الذاتيّة على النمط الذي نجده في «الأيّام»لا ينفصل عن تعطّش دائم إلى المعرفة وطموح فيّاض لبناء رؤية فرديّة. وتقتضي خطاطة هذه السيرة ن ينتهي صاحبها مظفّرا متبصّرا بذاته وبمجتمعه وبالعالم مؤمنا بفكرة التقدّم والترقّي الإنسانيّ والحرّية والعمل.

وقد اختبرنا ذلك في مجموعة من السير الفكريّة العربيّة مشرقا ومغربا فوجدناها متشابهة شبه الماء بالماء لما تعرّضنا إليه في كتاب "الأيّام" من إيمان عميق بإنسان عربيّ حديث منشود، إنسان العقل والمعرفة والعلم والحريّة والتقدّم. وذلك من خلال تقديم أنموذج فرديّ للنجاح والترقّي بالجهد والكدّ والطموح.

وعلى سبيل تفسير هذا التوجّه العام الفكري الذي يميّز جل السير الذاتيّة العربيّة، وقد كان لطه حسين الدور البارز في رسم خطاطته العامّة، علينا أن ننتبه إلى أمر ديموغرافيّ وتاريخي واجتماعيّ أساسيّ هنا. فمن كتبوا سيرهم الذاتيّة من العرب أعلام مشهورونمن فئة الكتاب والأدباء والجامعيّين الذين لا نتوقّع منهم في مقام الكتابة أن يتجاوزوا الأعراف والضوابط الأخلاقيّة أو يصطدموا بالمجتمع ونواميسه. فمعاركهم هي من جنس شواغلهم ذاتُ طابع فكري ثقافيّ كمعركة طه حسين مع الأزهر أو معركة زكي نجيب محمود مع الفكر ما قبل العلميّ.

وعلاوة على ذلك كان هؤلاء المؤلّفون من أبناء الجامعات الدينيّة (الأزهر بالنسبة إلى طه حسين) المتبرّمين بالعلم التقليديّ الطامحين إلى العلم الحديث ثمّ عرفوا المدارس الحديثة. وقد انتموا إلى جيل كانت فيه المدرسة مصعدا اجتماعيّا حقّا يخرج المرء من براثن الفقر والجهل والتخلّف والتقاليد ويحقق له الارتقاء الاجتماعيّ ويفتح له أبواب المعرفة ويكشف له نسبيّة ما في الثقافة الاجتماعيّة من معايير ومفاهيم. لذلك فإنّ النهل من القاع الأسطوريّ لبرومثيوس يبدو لنا أمرا طبيعيّا لا تزيده التربية التقليديّة التي نشأوا عليها إلاّ إخفاء باسم الحياء الاجتماعيّ والأخلاقي.

وإذا صحّ ما قدّمناه فإنّ ملامح السيرة الذاتيّة العربيّة موافقة لخصائص الأجيال التي انتمى إليها كتّابها ومعاركهم من أجل تحرير العقل والمجتمع وبناء إنسان جديد. لذلك كانت قراءة "الأيّام" عند طه حسين دعوة وتحريضا على الفعل في التاريخ والإيمان بالتقدّم والتمسك بالعقل. ومن هنا لم نره في سيرته كما في أدبه يخرج عن مشروعه الفكري الذي قاله بالمفاهيم والمصطلحات بل وظّف التخييل وأفانين السرد لتأكيده.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa