الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

"أيامى بعد الأهرام".. فصل جديد من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"

  • 24-10-2020 | 11:02

طباعة

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل..المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي "محمد الباز"، والفصل جاء بعنوان "أيامى بعد الأهرام".

العبور إلى السماء السابعة

 (1)

كانت لى طوال حياتى فلسفة بسيطة للغاية، وهى أن كل إنسان ميسر لما يقوم به من دور.

 أنا أعتقد أنه كان مرسوم لى أن أؤدى دور الجورنالجى، وأنا أصر على كلمة " جورنالجى" لأنى أشعر برائحة حبر المطبعة فيه وأراه مناسبا لأحلامى ، كنت دائما أريد أن أكون مجرد مخبر صحفى بالدرجة الأولى.

سعيت إلى تحقيق هذه الفلسفة خلال عملى الصحفى المنتظم عبر مؤسسات صحفية، وخلال عملى الحر من خلال مكتبى الذى حررنى من جدران المؤسسات وأطلقنى محلقا حتى وصلت إلى السماء السابعة.

صدر قرار ابعادى عن الأهرام وتعيينى مستشارا لرئيس الجمهورية يوم الجمعة الأول من فبراير سنة 1974، ونشر الخبر صباح يوم السبت 2 فبراير.

 فى نفس اليوم قررت أن أذهب إلى الأهرام وأسلم بنفسى كل أموره إلى الدكتور عبد القادر حاتم الذى عين رئيسا له خلفا لى، وكان ذلك مثار دهشة ولعلها كانت ظاهرة غير مسبوقة وغير ملحوقة أن يذهب مسئول عن عمل أبعد عنه إلى المسئول الذى تلاه، ليقضى معه ساعات طويلة يسلمه فيها كل خيوط المسئولية ويضع تحت تصرفه حقائقها وأدواتها.

تصور كثيرون أننى أتصرف بهذا الإنضباط من باب الحرص على إبقاء الصلات وثيقة والأبواب مفتوحة، وهكذا توقعوا أننى سوف أخرج من الأهرام حيث مكتبى القديم لأذهب إلى قصر عابدين حيث أعد لى مكتب جديد، وربما من هنا أيضا اتصل بى وزير شئون رئاسة الجمهورية وقتها يخطرنى بعدد حجرات الجناح الذى أعد لى فى عابدين، ويسألنى إذا كنت أرغب فى انتداب أحد من سكرتاريتى الخاصة معى من الأهرام.

فوجئ الرجل الكريم السيد عبد الفتاح عبد الله حينما قلت له إننى لا أنوى الذهاب إلى قصر عابدين وإنما أنا خارج من الأهرام إلى بيتى حتى أعثر على مكتب اعمل منه كصحفى وكاتب مستقل.

ثم تأكد موقفى حين أدليت بتصريح لكل وكالات الأنباء ومندوبى الصحافة العالمية الذين أحاطوا بى يسألوننى تعليقا على ما حدث، وكان ردى وهو مسجل على أجهزة عشرات الوكالات ومنشور بنصه فى الصفحة الأولى من جريدة التيمس وفيه قلت: إننى استعملت حقى فى التعبير عن آرائى بصراحة، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته فى إخراجى من الأهرام، وهذا هو كل شئ، وفى كل الأحوال فلقد تركت منصبا ولم أترك مهنة.

بعد ظهر هذا اليوم جاء إلى بيتى عدد من الأصدقاء المتصلين وقتها بالرئيس السادات وبى، وضمنهم المهندس سيد مرعى والسيد إسماعيل فهمى والسيد أشرف مروان، وكان رأيهم جميعا أنه من الضرورى أن أنفذ قرار الرئيس وأن أتسلم العمل مستشارا له فى قصر عابدين، ولم يكن هذا رأيى.

لم تمض غير أسابيع حتى بدأت محاولات اقناعى بالود أن ابتعد عن مصر ولو شهور قليلة، وكان من بين ما طرحوه على فى تلك الأيام منصب السفير المصرى فى لندن، وقال لى الشخص الذى حاول اقناعى بالقبول حرصا فى ذلك الوقت – كما أظن – وكرما إن العلاقات بينى وبين الرئيس السادات عائدة إلى مجاريها فى يوم من الأيام، والمشكلة هى عنادى وأننى أضع رأسى برأسه.

حاولت أن أشرح بصدق أن اقتناعى برأيى فى قضايا مصير مثل فك الارتباط مع إسرائيل والتحرك نحو صلح منفرد معها لا يمكن أن يكون عنادا وإنما قصاره أن يكون موقفا تؤكد الحوادث صحته أو خطأه.

 فإذا ثبتت صحته فقد قلت كلمتى وإذا كان خاطئا فالتبعة على وحدى، وفى كل الأحوال فإننى أفضل أن أقول رأيى حتى ولو ثبت خطأه، على أن أساير كل قرار يصدر عن السلطة بصرف النظر عن اقتناعى أو عدم اقتناعى به.

 وأما أننى أضع رأسى برأس الرئيس، فهذا تجن على الحقيقة، فأنا رجل طوف بالدنيا وبالحياة طولا وعرضا، وهذا وحده كاف ليظهر أمام كل ذى عينين أن هناك حدودا لابد من احترامها، وإن كان لابد أن اقول إن رؤية الحدود واحترامها ليس معناه الوقوف أمامها بالعجز أو الخضوع لها بالتسليم.

وقيل لى والقائل لطيف ورقيق أن الرئيس يعتقد أننى أريد أن أفرض عليه آرائى.

 وقلت إننى لا أعرف كيف يستطيع صحفى لا يملك غير قلمه وما يستطيع هذا القلم أن يقنع به أن يفرض رأيا على رئيس الدولة، إن القلم ليس جيشا ولا بوليسا ولا حزبا ولا تنظيما حتى يستطيع أن يزعم رئيس دولة على أن يقبل كرها بما لم يكن مستعدا للقبول به طوعا.

تمسك القائل بفكرة سفارة لندن موجها كلامه لى: لك فى العاصمة البريطانية أصدقاء كثيرون والناشرون الدوليون لكتبك هناك، ثم إن لندن عاصمة حافلة وحية وتستطيع أن تختار معك وزيرا مفوضا يحمل عنك عبء الأعمال الرسمية والاستقبالات والذهاب إلى المطارات.

 وأتذكر أننى قلت: إننى مضطر للدفاع عن تمثيلنا فى لندن، سفارتنا لدى بلاط سان جيمس، لقد أصبحنا نعامل هذا البلاط بطريقة لا تليق، أصبحنا نرسل إليه سفراء من رجال وضعناهم فى منطقة الظلال بين الرضا والغضب، أعنى هؤلاء الذين انقلب الأمير عليهم لكنه لا يريدهم أن ينقبلوا عليه.

كانت المحاولة لابعادى عن مصر فى ذلك الوقت ودية بل وأظن أن الباعث إليها كان حرصا وتعاطفا، لكن كان هناك آخرون فى ذلك الوقت وجدوها فرصة، وكان بينهم من حاول بوسائل متعددة منها التخويف أن يقنعنى بالخروج ولم تجد الوسائل كلها، ولعلى أقول أننى لم أخرج ليس عن شجاعة بقدر ما كان عن تمسك بالحياة لأننى كنت أعتقد ولا أزال أن حياتى هنا.

 

(2)

كان الموقف واضحا بالنسبة لى.

لقد اختلفت مع السياسة الرسمية للحكومة المصرية بعد حرب أكتوبر، وكان إختلافى بالتحديد فى موضوع فك الإرتباط الأول الذى وجدته من وجهة نظرى مؤديا بالحركة الذاتية للمواقف إلى صلح منفرد مع إسرائيل.

 كذلك كان اختلافى مع مجمل توجهات سياسة مصر العربية والخارجية، بما فيها الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة الأمريكية.

 وإلى جانب ذلك فقد كنت واثقا أن هذه التوجهات جميعا سوف تكون لها على نحو أو آخر تأثيراتها على السياسة الداخلية فى مصر.

وأبديت آرائى وأسباب خلافى بصراحة فيما كتبته فى الأهرام وقتها وجمعته بعد ذلك فى كتاب تحت عنوان" عند مفترق الطرق".

كان مفترق الطرق فعلا.

 فقد تركت مكانى فى رئاسة تحرير الأهرام ولم أقبل منصبا آخر مما عرض على وقتها مؤمنا بأننى لا أستطيع أن التزم بمسئولية خارج قناعاتى، ولم أغير موقفى من يومها وإلى الآن.

وفى الوقت الذى اتخذت فيه هذا الموقف فقد كنت أعى مقدما ومسبقا أن المشاكل تنتظر على أول ناصية على الطريق، ذلك أننى بحكم الواقع العملى والإنسانى لست موظفا استغنى بنفسه أو استغنوا هم عنه فإذا ابتعد أو أبعد فظلال التقاعد مكانه والصمت نفسه صوته، وإنما أنا صحفى وجوده فى الكلمة ودوره فى الحرف مكتوبا أو مسموعا.

ولقد قلت ذلك بالضبط فى لقاء مع الرئيس الراحل أنور السادات فى شهر نوفمبر 1974 بعد عشرة شهور، قلت له بالحرف الواحد: إننى أطلب سعة صدره فأنا لن أتقاعد عن الكتابة والكلام خصوصا وأن هناك فى الموضوع قضية.

وقلت: إننى لزمت الصمت منذ تركت الأهرام لأنى كنت مشغولا بالانتهاء من كتابى " الطريق إلى رمضان" ولكنى بعده سوف أعود إلى التعرض للشئون الجارية، وسوف أبدى رأيى فيها فى صحف خارج مصر تريد أن تنشر ما أكتب، ومناى أن لا يتسبب ذلك فى صدام لا سمح الله أو صراع، مع العلم بأننى فيما سوف أكتبه سأظل ملتزما بالموضوعية وبما أراه من منظورى الخاص محققا للصالح العام للأمة.

وأشهد على أن رده على فى ذلك القاء كان وديا فقد قال لى: هذا حقك وأنا لا أعترض حق أحد.

لكن الأمور تطورت لسوء الحظ بعد ذلك على غير ما أبدى وعلى غير ما قصدت.

رحت بعد لقائنا أكتب وأتحدث من مصر.

كنت أعتبر أن هذه شهادة للنظام.

من ناحية فهذا هو معارض لسياساته يبدى رأيه من داخل سلطته، وكنت فخورا بذلك معيدا ومزيدا فى ذلك الوقت بأن هذه الظاهرة الحضارية لا يمكن أن تحدث فى العالم العربى إلا فى مصر.

ومن ناحية أخرى فقد ظللت على اعتقادى بأن بقائى فى مصر وتحت سلطة نظامها يعطى مصداقية لما أقول كتابة وكلاما – فالقول لابد أن يكون مسئولا لأنه ليس فقط فى ظل القانون وإنما أيضا فى مطال السلطة.

وربما من ناحية ثالثة فقد تصورت أن قولا يصدر من مصر ومن منطلق قومى وخلافا مع سياسة ضيقت على نفسها ولا أقول الآن أكثر يمكن أن يصلح كرسالة موجهة إلى العالم العربى بأن مصر كلها لم تتغير ولم تنقلب بين يوم وليلة من النقيض إلى النقيض، وظننت وليس كل الظن إثما أن ذلك قد يكون نافعا.

وحين توالت الشواهد على الغضب مما أكتب وأقول ولاحت بوادر فى حملات تشهير منظمة واسعة النطاق، فإن فكرة الخروج من مصر ظلت بعيدة عن خواطرى كما كانت منذ أول لحظة، فأنا لا أحب وضع اللاجئ السياسى وبالذات الصحفى لأنه إذا ابتعد عن جذوره وعن مناخه الطبيعى انتقل من عالم الحقائق إلى عالم الأوهام، ومن دنيا الناس إلى دنيا الأشباح، وذبلت الأفكار فى رأسه كما تذبل الزهور حتى وإن وضعت فى أوان من الذهب.

وهكذا فإنه عندما منعنى المدعى الإشتراكى من السفر – 1978 – وجدنى فى مصر.

وحينما أراد سحب جواز سفرى وجده فى درج مكتبى.

 وحتى حين أرادوا اعتقالى بعد ذلك فى سبتمبر 1981 لم يذهبوا إلى أبعد من الاسكندرية لكى يجدونى على شواطئها، ومن هناك نقلت إلى السجن.

خلال هذه كله – الحملات وتحقيق المدعى الاشتراكى والسجن – فلقد كان الاتهام الموجه إلى وبدون تفاصيل أو أسانيد هو أننى بما كتبت وقلت خارج مصر أسأت إليها ولهذا وجب الحساب والعقاب، ولقد تم الثانى ولم يسبقه الأول، أى حل العقاب ولم يقع الحساب.

شاءت المقادير أن يختصر العقاب قبل أن يأخذ مداه ويستوفى ما كان مكلفا به، وانقضى عصر واختلف جو وتغيرت آفاق، وطوال الوقت فقد كان مناى أن ينشر فى مصر شئ مما قيل أننى أسأت به إلى سمعتها لكى يحكم الناس، ومع ذلك فلم يخطر ببالى على الفور وقتها أن أبادر بتصحيح أو توضيح، فقد ظننت أن الأيام كفيلة بأن تضع كل أمر فى نصابه وترد كل حق إلى موضعه.

 

(3)

الرد على كل ما وجهوه لى كان وراء فكرة كتاب " أحاديث فى العاصفة" الذى صدر بعد ذلك فى العام 1987.

  استمعت لفكرة وفكرت ورحبت أملا أن تملأ ثغرة وأن تستكمل السجل كما قلت، وكان ما كتبته أو نشرته فى فترة الحظر على من مصر يندرج تحت عدة بنود:

الأول: بند الكتب الكاملة التى نشرتها باللغة الإنجليزية وترجمت عنها إلى عشرات اللغات بينها العربية، ومن نماذجها مثلا " وثائق القاهرة" و" الطريق إلى رمضان" و" القوميسار وأبو الهول" و" عودة آية الله" و" خريف الغضب" و" ملفات السويس"، وهذه موجودة مطبوعة ومنشورة.

الثانى: بند المقالات المكتوبة بلغات أجنبية والتى نشرت فى صحف مثل التيمس والصنداى تيمس والنيويرك تيمس وغيرها، وهذه تحتاج إلى ترجمة للغة العربية قد تسنح لها فرصة ذات يوم.

الثالث: بند المحاضرات فى جامعات عالمية مثل جامعة أوكسفورد أومحافل دولية مثل اليونسكو، وهذه أيضا تحتاج إلى ترجمة للغة العربية عليها أن تنتظر دورها.

الرابع: كانت هناك الأحاديث الصحفية التى أدليت بها خارج مصر، وبالذات صحف العالم العربى على أراضيه نفسها وفى مهاجره البعيدة.

(4)

كانت الروح التى تحكمنى أننى لست مجرد صحفى يجرى وراء الأخبار، بل أنا أشارك فى صناعة الأخبار، ولذلك فبعد خروجى من الأهرام قررت ألا يبتلعنى الصمت.

 فتحت دكانا صغيرا وأخرجت للعالم الخارجى بعشرات اللغات مجموعة كتب.

 نقلت نفسى من السوق المحلى إلى السوق الدولى.

 استطعت أن أثبت أنه من الممكن لكاتب مصرى أن يكتب فى التايمز والنيويورك تايمز والصنداى تايمز.

وأدعى أننى كنت مخلصا لمهنتى قدر استطاعتى.

(4)

كان ما قدمته خلال حياتى المهنية واضحا أمامى... وكانت الأوضاع الجديدة تستدعى أن أعرف ما قدمت وما أنا مقدم عليه.

عندما بدأت التدريب العملى – مع الدراسة النظرية – فى جريدة الإجيبسيان جازيت قررت إدارة التحرير أن تصرف لكل منا بدل انتقال جنيه واحد كل أسبوع، أى أربعة جنيهات فى الشهر.

وعندما عدت إلى الجازيت بعد الإشتراك فى تغطية معارك العلمين تحول بدل الإنتقال الأسبوعى إلى مرتب شهرى مقداره اثنا عشر جنيها فى الشهر، ثم زاد إلى ثمانية عشر جنيها فى الشهر أوائل 1945.

وعندما التحقت بالعمل فى آخر ساعة مع الأستاذ محمد التابعى كان المرتب الذى تحدد لى خمسة وثلاثين جنيها فى الشهر.

وعندما انتقلت مع آخر ساعة إلى أخبار اليوم  1946 وقد أصبحت سكرتيرا لتحريرها تحدد مرتبى بخمسة وأربعين جنيها فى الشهر.

وعندما عملت مراسلا متجولا لأخبار اليوم مسئولا عن تغطية الشرق الأوسط وتقلباته وفيها قضية فلسطين والحروب الأهلية فى إيران والبلقان والانقلابات السورية وعمليات العنف التى غطت وجه المنطقة بالدم عدت لأجد مرتبى مائة جنيه فى الشهر.

وعندما أصبحت رئيسا لتحرير "آخر ساعة" أواخر سنة 1951 جرى تعديل مرتبى ليصبح مائتى جنيه فى الشهر مع نسبة فى أرباح المجلة توازى 4% مما يتحقق لها بعملى فيها، وفى مايو 1952 أضيفت إلى عهدتى مهمة إدارة تحرير جريدة أخبار اليوم وأعلن رسميا عن رئاستى لتحرير آخر ساعة، ووصل مرتبى إلى 360 جنيها فى الشهر.

فى نهاية 11 سنة من العمل فى أخبار اليوم استحقت لى مكافأة نهاية خدمة 7442 جنيها مصريا، وعندما عرض على أول عقد لرئاسة تحرير الأهرام سنة 1956 – سرى تنفيذه بعد عام – كان العقد بمرتب قدره ستة آلاف جنيه فى السنة تضاف إليها حصة فى أرباحه مقدارها 2.25% إذا استطاع جهدى تعويض خسائر عشر سنوات سابقة.

عندما أعلنت القوانين الإشتراكية وضمنها ربط الحد الأعلى للمرتبات بخمسة آلاف جنيه سنويا نقص مرتبى ألف جنيه فى السنة، وذابت تلك النسبة المقررة لى فى أرباح الأهرام، وكانت قد بدأت تعطى ما دعانى إلى توظيف حصتى منها فى شراء مجموعة أسهم فى الشركة المالكة للأهرام، لكن قانون تنظيم الصحافة جعل من هذه الأسهم صكوكا تذكارية –أتاملها بعض المرات وابتسم – .

لمدة خدمة طالت فى الأهرام سبع عشرة سنة كنت أتقاضى خمسة آلاف جنيه مصرى فى السنة تحول إلى حسابى كل شهر فى البنك الأهلى الفرع الرئيسى، بما صافيه 286 جنيها و450 مليما بعد الاستقطاعات القانونية وضريبة كسب العمل.

كان ذلك المبلغ أجر خمس مسئوليات أقوم بها فى نفس الوقت: رئيس مجلس إدارة، رئيس تحرير، مخبر سياسى موثوق المصادر، كاتب مقال أسبوعى " بصراحة"، وأخيرا مسئول عن مشروع تجديد الأهرام.

ومن باب استيفاء كشف الحساب الذى وضعته أمامى وقتها، فإن مقالى الأسبوعى "بصراحة" ترتب على نشره فى الخارج حقوق أضافت إلى دخلى، وكنت قد عهدت إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط بعقوده تاركا لها متابعة التوزيع والتحصيل مقابل نسبة قدرها 20 %، ولولا مدخول هذه الحقوق لما تيسر لى التوفيق بين المطالب والضرورات.

لقد ظل مرتبى يقيد لحسابى فى البنك الأهلى لأكثر من سنة بعد أن تركت خدمة الأهرام، ثم توقف التحويل حتى أحلت إلى التقاعد يونيو 1975، بقرار من الرئيس السادات الذى نفد صبره، وكانت تلك نهاية أى حساب لى فى خدمة الأهرام، وقد اعتبرت أن مرتب تلك السنة التى وصلنى أجرها دون عمل مكافأة نهاية الخدمة وأغلقت دفاتر تلك المرحلة مستريحا وراضيا.

(5)

لم تكن هناك مشكلة مالية أبدا.

فمن دواعى الحمد والشكر أن خلافى مع الرئيس السادات وما أعقبه تصادف بالتوافق وبالضبط مع مناخ أصبح الشرق الأوسط فيه مناط اهتمام العالم وبؤرة النار فى قلبه، وكذلك التفتت الدنيا ناحية المنطقة تريد أن تعرف وتتابع وتتقصى وتستوعب، وراحت دور النشر فى العواصم الكبرى " لندن وباريس ونيويورك وطوكيو وبرلين وغيرها" تتصل بصحفى ظنت أنه يقدر على عرض الشرق الأوسط أمام قراء سمعوا عنه واطلعوا على أعماله، وينتظرون منه أن يكتب لهم من الداخل وليس من الخارج، وبالعمق وليس بالوصف.

حين اقتربت من مجال النشر الدولى – مبكرا – لم تكن لدى مشكلة مع الصحافة – يومية أو أسبوعية – فذلك ميدان جربت نفسى فيه واخترته وأعرف إلى حد ما دخائله، وأما عالم الكتب فغريب على فى معظمه، ولم يقصر أحد فى تبصيرى، وكان من الناصحين اللورد" مايكل هارتويل" صاحب دار التلجراف" صديق قديم من دنيا الصحافة، وكلاهما لديه اهتمام بمشروع كتابى الأول عن " ساسة وثوار" صنعوا روح الخمسينات والستينات، وكلاهما يعرف أن مشروع كتابى فيه فصول عن السويس وهى وقتها قضية حية نابضة.

لكن كلاهما " هارتويل" و" هاملتون" كان مهتما بحقوق النشر الصحفى وحدها، وأما الكتاب فمسألة أخرى فى اختصاص دور نشر لديها خبرة السوق، وبالفعل وصل النص إلى السير " ويليام كولينز" صاحب دار " كولينز" وبدوره فإن السيد ويليام طلب إلى مدير النشر فى مؤسسته " روبرت كنيتل" أن يقرأه وأن ينسخ من أصله صورا لثلاثة قراء غيره.

أستاذ متخصص فى الشرق الأوسط من جامعة أوكسفورد يراجع التأصيل المعرفى فى النص مع اعتبار اختلاف المرجعيات.

وسفير بريطانى سابق خدم فى المنطقة يراجع السرد ويستوثق من الوقائع مع اعتبار اختلاف المواقف.

وقارئ عادى تقاس عليه ما يسمونه جاذبية القراءة، لأن الكتاب فى النهاية عرض وطلب.

وكان داعى التدقيق  أن مشروع كتابى حالة سابقة من نوعها فى الكتب السياسية المنشورة والمعروضة تحت نظر القارئ فى الغرب.

لم أكن على علم بتفاصيل ما جرى للنص، وربما تحرج بعضهم بظن أننى مع تجربة معروفة ورائى لن أقبل بشبه دخول امتحان من أول وجديد، ولم يكن ذلك منطقى ما دمت أقترب من ميدان لم أتعرف إلى قواعده، إلا إذا كنت أريد أن أعتمد على صداقات ووساطات، وذلك لا ينفع، ومجرد التفكير فيه أذى للنفس قبل الآخرين.

ثم حدث أن مدير النشر فى دار " كولينز" "روبرت كنتيل" اتصل يبلغنى أنهم جاهزون للانطلاق وأنهم واثقون فى الكتاب وشبه متأكدين، وأن الميزانية التقديرية الأولى لنشره وقع رصدها فى إطار خمسة ملايين جنيه إسترلينى، وضمنها حملة إعلانية تتكلف نصف مليون جنيه إسترلينى تسبق النشر وتواكبه.

سألنى كنتيل فجأة: إذا كنت مستعدا لحضور معرض فرانكفورت بعد شهر، لأن دور النشر فى العالم قاطبة تلتقى هناك، وهناك أيضا تطرح مشروعات الكتب المستعدة لموسم النشر القادم، وهناك فى نهاية المطاف يقبل الناشرون على طلب حقوق كتب يتوقعون رواجها أو يمتنعون.

وأضاف كنتيل ما مؤاده: إذا استطعت أن تعرض كتابك أمام ثلاثة آلاف ناشر وفهموا عنك تكون تلك مسألة أخرى – لنا ولك – ومع أنى عرفت أن مايهمك هو النشر بالدرجة الأولى، فإن علينا جميعا أن نسلم أن النشر بيع بصرف النظر عن أى شئ يقوله أى كاتب.

وحضرت معرض فرانكفورت وتحدثت أمام مئات من الناشرين وشاركت فى مناقشات واسعة، وبعد يومين مر على روبرت كنتيل يقول لى أن أكبر دور النشر فى العالم تسابقت على حقوق الكتا ب" فلاماريون فى فرنسا – مولدن فى ألمانيا – أساهى فى اليابان – إلى جانب كولينز فى لندن ونيويورك"، وسئلت قبل أن أغادر فرانكفورت إلى أين أريد تحويل نصيبى من مقدم العقود التى جرى الاتفاق عليها فى اليوم الأخير من المعرض وأجبت – دون تلعثم – إلى الفرع الرئيسى للبنك الأهلى بالقاهرة، وعندما عدت وجدت فى انتظارى جائزة وغرامة.

الجائزة تحويل بمقدار مائة ألف جنيه إسترلينى تمت إضافته إلى حسابى كدفعة مسبقة من حساب مقدم العقود.

والغرامة أن وزير الاقتصاد وقتها الصديق الدكتور حسن عباس زكى طبق على قواعد التعامل بالنقد الأجنبى، وكان ذلك بالطبع قبل أن تهل بركات الانفتاح ويتسع فردوسه الموعود، فقام بتحويل الإسترلينى إلى الجنيه المصرى بسعر سبعة وتسعين قرشا ونصف قرش مصرى لكل جنيه استرلينى.

ولم أفتح فمى بكلمة، فقد وجدت عندى فى النهاية أكثر مما توقعت وأوسع مما احتجت.

وهكذا فإنه فى اللحظة التى وقع فيها الحظر على ما أكتب هنا – سقطت الحواجز أمامى هناك، وبقيت فى وطنى لم أغادره، لكن كتبى ومقالاتى راحت تنشر بإيقاع متسارع فى عشرات العواصم " أحد عشر كتابا لكبريات دور النشر الدولى، وأكثر من أربعمائة مقال وتحقيق وتقرير إخبارى احتل بعضها الصفحة الأولى فى جرائد بوزن وحجم " الصنداى تيمس" و" التيمس" و" الصنداى تلجراف"،وكانت تلك حقبة حافلة غطت بقية السبعينات ومطالع الثمانينات ومعظم التسعينات.

(6)

لقد وجدت نفسى مع أوائل السبعينات وعند منتصف العمر أمام ضرورة الاختيار من جديد وكأنها نقطة الصفر، أعود إليها فى قرار عملى ومستقبلى، ولم يخطر على بالى من قبل أن ذلك الذى واجهته سنوات الصبا الباكر سوف يعود ليفرض نفسه على بعد ثلاثين سنة.

وكان جليا فى أعماقى أن حقى فى الاختيار محدد، ولا أقول محدودا، ومجاله بالتأكيد تلك المهنة التى تعلمتها ومارستها ووجدت لنفسى فيها موضعا وموقعا، ولم يكن فى أحلامى جناح النسر فى فضائه ولا كان فى حسابه قفص الببغاء وأسلاكه.

كان مستحيلا بعد ما جرى أن أجد عملا أومستقبلا فى مؤسسات الصحافة المصرية ولا كنت أريد.

وكان صعبا على – لاعتبارات متداخلة – أن أقبل عرضا خارج مصر يجئ من العالم العربى، وقد تلقيت بالفعل عروض محددة:

أولها: من دولة خليجية كريمة سألتنى إذا كنت مستعدا لقبول منصب مستشارا فوق العادة للأمير، وشكرت عارفا بالجميل.

وثانيها: عرضا من مجلس قيادة الثورة الليبى حمله إلى أحد أعضائه البارزين " الرائد عبد السلام جلود نائب رئيسه وقتها"، والإقتراح أن اقوم على إنشاء مشروع صحفى كبير فى بيروت يتوافر له كل ما أطلبه من موارد وأديره بأقصى قدر أتمناه من الحرية، ومرة أخرى شكرت عارفا بالجميل، ولم يكن فى موقفى شئ من البطر أو التكبر.

 كان فى حسابى اعتباران:

الأول: أننى بعد علاقة من نوع خاص مع جمال عبد الناصر ودور بلغ درجة معينة فى الأهرام، لا أملك غير أن أكون صارما مع نفسى مهما يكن ( دون أن يكون ذلك جناح نسر).

الثانى: أننى لا أستطيع نفسيا أو فكريا أن أؤقلم نفسى مع حياة أو عمل أو قبر خارج وطنى الصغير، كما أن دور اللاجئ السياسى لا يستهوينى.

لأنه مهما تصلح النية ويستقيم القصد – اعتماد طرف على طرف آخر – فى وضع غير متكافئ مستشار فى خدمة أمير – أو صحفى فى خدمة دولة ( وذلك قفص الببغاء أردت أو لم أرد).

وفى الحقيقة فقد كانت تصوراتى تحوم هناك عبر البحر فى اتجاه الشمال حيث الصحافة الأوربية – وبالذات الإنجليزية – فقد كان هناك قارئ سبق له الاطلاع على كثير مما نقلته وكالات الأنباء مما كتبت، أو تحقيقات عديدة عن دور أقوم به فى السياسة العربية، أو حوارات أجريتها مع كثيرين فى زمن كان يوصف بأنه عصر العمالقة.

ومرة أخرى تدخلت المقادير، احتك حجر بحجر ولمعت شرارة.

(7)

لقد ومض هاجس الإنصراف – حتى بدون استئذان – لأول مرة فى خاطرى مساء يوم 28 سبتمبر 1970 فى غرفة نوم جمال عبد الناصر نفسه، وكان ذلك الصديق الكبير أمامى على فراش نومه، وقد تحول فى دقائق إلى فراش موته.

كنا فى غرفة النوم أو الموت سبعة رجال بالعدد من حول جثمان الراحل الكبير الذى تقدم نحوه كبير أطبائه، وسحب الملاءة على وجهه فى حركة بدت وكأنها فعل رمزى يقطع بالنهاية مهما كان العجز عن تصديقها.

وتردد الكلام همسا فى الغرفة عن الإجراءات والترتيبات لهذه الليلة الحزينة وما بعدها، ولمحت فى عيون البعض تعبيرات أو إشارات توحى – ربما – بنذر غير محددة فى أجواء هذه اللحظة، لكنها بعد مفاجأة الأحزان قد تصبح خطيرة.

ومن الإنصاف أن ما لمحته فى العيون والإيحاءات لم يكن ظاهرا بوسواس طمع فى إرث سلطة، أو علو موقع بل لعل العام أوما يبدو عاما بدا طاغيا على الخاص، " أوما يبدو خاصا – لأن المنطق الظاهر كان شدة الحرص على الرجل الكبير الراحل والعزم على تكملة مسيرته كهدف مقدس يتسابق الجميع عليها، وفاء بأحقية يستشعرها كل منهم – ويرى نفسه أهلا لها بمسئولية وظيفة أو قرب اتصال، لكن البشر هم البر وفى أعماق أنفسهم فإن شدة الحرص والتفكير بأفعال التفضيل تحرض أصحابها وتدفعهم إلى سباق يعتقد كل منهم – فيه – أنه الأجدر والأولى، وهنا موضع الالتباس وربما الاشتباك.

والواقع أن طرفات العيون وإيحاءاتها مما خيل إلى أننى لمحته راحت تفصح عن نفسها أكثر، حين نزلنا إلى صالون بيت جمال عبد الناصر نستكمل كلامنا تاركين الراحل الكبير لأسرته تحيط فراشه فى وداع أخير.

وفى صالون الدور الأول من البيت انضم إلينا – نحن السعبة الذين وقفنا حوله لحظة النهاية – تسعة أو عشرة رجال على الأكثر فى يدهم مفاتيح السلطة والقرار فى البلد، واستؤنف الكلام عن الإجراءات والترتيبات وعن غد وبعد غد وما يجرى ويكون، وراحت وساوسى تتنبه، مهموما بأن ما أرى وأسمع قد يكون نذير احتكاك قادم حتى وإن حاول البعض تفاديه، أو كبته حتى لا يأخذ وزر الفتنة على نفسه، أو على الأقل كى لا يكون بادئا بها فى ظرف لا يتحمل المجازفة.

وخطر ببالى أن صداقتى الحميمة لجمال عبد الناصر وحماستى لمبادئ مشروعه مرتبطة على نحو ما بثقة مباشرة فيه، والآن وقد غاب فإن على أن أراجع وبحزم، وبدا لى دون ظل من شك أننى لا أريد أن أكون طرفا فى صراع، فالسلطة من البداية ليست حلمى ولا من بين مطالبى ومع احترامى لبعض من أرى حولى وعلاقة ود بينى وبين معظمهم، فإن النقطة الحرجة فى الموقف أن درجة قربى من جمال عبد الناصر لا تسمح بحياد، فضلا عن أن الحياد قرب مصائر الأوطان هرب أو تهرب.

ومن ناحية أخرى فلم يكن سرا أيامها أن علاقاتى ببعض أطراف السلطة مشدودة، وخلافاتى مع الاتحاد الاشتراكى وتنظيمه الطليعى متوترة، وحساسيتى من تصرفات أجهزة الأمن والتأمين كما هى فى كل العصور، جزء من التكوين المهنى والنفسى لصحفى يتمنى الحرص على تخوم مهنته، وتلك أمور تتربت عليها نتائج فى أجواء صراع على السلطة، لأن الاستقطاب عندها يكون حادا وعنيفا يفرض إما انحيازا غير مقنع إلى طرف، أو عداء لا مبرر له من طرف آخر، وعليه فأمامى أحد موقفين، إما الإنصاف فور تشييع الراحل الكبير إلى مرقده الأخير، وإما الإنسياق إلى صراع لا أريده، بوسائل لا أملكها ولا أريد إمتلاكها... ولم أنصرف.

بعد خروجى من المعتقل أواخر نوفمبر 1981 عاودنى هاجس الاستئذان فى الإنصراف مرة أخرى، فتلك نهاية مرحلة تواجدت فيها بالضرورة المهنية والاختيار السياسى وهى فى الوقت نفسه بداية مرحلة أخرى مختلفة، ثم إننى بالعمر اقتربت من سن الستين وذلك هو التوقيت الطبيعى والقانونى لخروج الناس من الخدمة العاملة.

ثم تذكرت ولعله هواى أن اختراقات الطب الحديث فى مجال المضادات الحيوية بالذات، نجحت وأزاحت التوقيت المقرر لنهاية الخدمة إلى الوراء ما بين خمسة أعوام إلى عشرة أعوام، أى أنها مدت أجل الصلاحية للعمل وأفسحت وأضافت.

وربما جاز القول إن تجربتى الطويلة تلك – دراسة لم تنقطع وممارسة لم تتوقف – انقسمت إلى نصفين شبه متساويين كل منهما ثلاثون سنة:

النصف الأول: مرحلة العمل داخل مؤسسات الصحافة المصرية والانتشار منها إلى الإقليم والوصول منه إلى أبعد من حدوده، والداعى أن ما كان يحدث عندنا ملأ صراعات الخمسينات والستينات من القرن العشرين وفاض، وعليه فقد كان الكل يأخذ عنا ويسمع مباشرة منا.

وأما النصف الثانى: فهو فى مرحلة الكتابة والنشر من مكتب مستقل محدود مفتوح فى الوقت نفسه بلا حدود على الدنيا الأوسع باللغة العالمية الممتدة" الإنجليزية" ولجماهيرها عبر القارات، وقد انهمكت فيما أؤديه وظننت ولعلى لم أخطئ أن دخول كاتب عربى إلى مجال النشر الدولى صالح شخصى ولعله أيضا إضافة عامة.

وهكذا فإن المرحلتين معا داخل المؤسسات الصحفية المصرية وخارجها من مكتبى صنعتا دورة كاملة لأن تلك التجربة – الدراسة والممارسة – لأكثر من ستين سنة مقسومة على نصفين تحولت بشكل ما إلى طريق فى اتجاهين عبر جسر وفوق ضفاف وشطآن.

وفى الحالتين فإن مجمل الظروف أتاح لى ذهابا وإيابا عبر الجسر وحول الضفاف والشطآن، فرصا نادرة تواصلت من أواخر الحرب العالمية الثانية حتى بلغت نهاية الحرب الباردة أى أنها غطت النصف الثانى من القرن العشرين، والحاصل أنها منحتنى إمكانية التعرف مباشرة على صناع العالم الحديث، وواضعى الإستراتيجيات العليا من رجال الدولة العظام، وصناع السياسة وقادة الحرب، أعلام الفكر والأدب، وأساطين الصناعة والتكنولوجيا والمال

(8)

فى معظم الحوارات التى أجريتها بعد خروجى من السجن كان هناك سؤال واحد يتردد، الكل كان يريد أن يعرف ما الذى سأفعله.

سألتنى مجلة المصور: هل لديك مشروع لإنشاء صحيفة يومية وأين ستكون؟

وأجبت: أنا خارج لعبة الصحافة المصرية فى هذه المرحلة تماما، أنا مواطن آثر دائما أن يعيش فى وطنه، لم أبتعد أبدا عن مصر أكثر من شهر واحد فى أى وقت، فقد أصبحت مثل أى فلاح عندما يخرج من أرضه يشعر أنه سيموت ولابد أن يعود إلى الأرض مرة ثانية.

وسألنى مفيد فوزى: هل ستكتب فى الأهرام... الناس تريد أن ترضى فضولها؟

وأجبته: أهم من فضول الناس، قناعتى بالكتابة، ومرة أخرى لأسباب شخصية وذاتية وعن عفة وليس عن خوف، لا أحب الحديث عن الصحافة المصرية، فما زلت حتى هذه اللحظة – كنت فى العام 1982 – خارج حلبتها، وإذا كنت فقدت منصبى الصحفى فأنا لم أفقد بعد هويتى الصحفية.

وأعترف أننى عندما خرجت من الأهرام كنت أتحرق شوقا لأن أعود للقارئ المصرى، وأرجع للناس ليتفقوا أويختلفوا معى، يضعوننى على صليب ليلا وينزلونى منه صباحا.

عندما تغيرت الظروف فى مصر – أوائل الثمانينات – تلقيت دعوات كريمة إلى ظهور فى الصحافة المصرية وترددت وإحساسى أن الأزمنة تغيرت كما أننى تغيرت.

وتبدى لى كذلك أن عودة إلى الصحافة المصرية، أو نوعا منها محاولة للتكرار لا أتمناها، فالتاريخ كما تذكر مقولة شهيرة لا يكرر نفسه وإذا فعل فهو فى المرة الأولى مشهد محترم أويمكن أن يكون محترما، وأما فى المرة الثانية فهو استعادة هزلية أو يمكن أن تكون هزلية لشئ كان.

وتبدى لى من قبل ومن بعد أننى رجل يحمل على كتفيه بعضا من حمولات مراحل سبقت وكلها مؤثرة على أردت أو لم أرد.

ومن باب الحق لأصحابه فقد كان الأستاذ مكرم محمد أحمد أول من بادر إلى محاولة لفتح باب نوع من العودة أمامى، وبالفعل كتبت لمجلة المصور مجموعة من ست مقالات عرضت فيها تصورى للممكن والمطلوب فى مرحلة مستجدة، وطلبت من الأستاذ مكرم عارفا طبيعته ودقته مقدرا لإلتزامه المهنى وتمسكه ألا ينفرد فى هذه المقالات الستة بقرار ورجوته ملحا ومخلصا أن يراجع قبل أن ينشر، وحدث بعد أسبوعين أن مجموعة المقالات الستة التى كتبتها للمصور عادت إلى يحملها الدكتور أسامة الباز مصحوبة برسالة شفوية رقيقة تقبلتها برضا واحترام، وملخص الرسالة أن ما كتبته فى المقالات الستة يسبب إحراجا فى الوقت الحاضر، ثم إن الأمر متروك لى.

كان ردى دون تحفظ أننى آخر من يخطر له إحراج نظام لا يزال يحاول – أوائل سنة 1983 – تثبيت أوضاعه واستجماع خطوطه للقيام على مسئولية الوطن فى ظرف دام ومحتقن.

ومرت سنوات ثم زارنى الصديق الأستاذ إبراهيم سعدة بتحفزه الدائم وجسارته الشهيرة طالبا أن أكتب فى أخبار اليوم، وضعفت أمامه وكتبت مقالين لمست بنفسى ما جرى بعدهما وخفت على رئيس تحرير أخبار اليوم وأعفيته من نشر المقال الثالث راجيا مصرا من باب القلق عليه.

وأخير توصل الأخ والصديق إبراهيم نافع بهدوء وصبر إلى الصيغة الموفقة، فقد تفاوض مباشرة مع دور النشر التى تصدر عنها كتبى فى لندن وحصل على حقوق الطبعة العربية الأولى لستة كتب توالى ظهورها عن الأهرام، وكان ذلك تلاقيا حتى على الورق بالكلمات، مع أسرة عشت معها أكثر من سبعة عشر عاما ولا تزال عبر السنين عزيزة على وغالية.

ومشت عقارب الساعة حتى وصلت إلى دار الشروق وتتحمل مسئولية ما أكتب وتضعه بانتظام بين أغلفة كتب تصل إلى قارئها كما يصح أن يصل الكتاب.

ولم أكن أتمنى أكثر من ذلك، فقد كان قصارى ما أبتغيه فى مصر نافذة لا ساحة ولا شرفة، وإنما طاقة فى جدار أطل منها على ما يجرى وأتابع مهتما ومعنيا، متحدثا بين الحين والآخر برأى فى جريدة مما راح يصدر سواء عن الأحزاب معتمدا على رخصتها، أو مستقلا يصدره زملاء وأصدقاء لديهم الموهبة والطموح يكافحون فى ظروف إقتصادية لاجتذاب قارئ يتزايد إحساسه بالملل، إلى جانب محاضرة سنوية واحدة فى منتدى مثل معرض الكتاب السنوى أو جامعة القاهرة أو الجامعة الأمريكية، وكان هذا يكفينى وبالقدر الذى حسبته متوازنا.

(9)

خلال هذه السنوات لم أدع إلى أجهزة الإعلام المصرية مطلقا، ولم يحدث إطلاقا أن وجهت لى دعوة لأن أتحدث فى أى وسيلة عامة بما فيها معرض الكتاب ورفضت.

وأذكر أن شابا جاء إلى ومعه خطاب من رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقال: نريد أن نجرى معك حوارا عن معركة السد العالى وهذا خطاب من رئيس الإتحاد.

 وافقت وصورت ثلاث حلقات متطوعا بوقتى، لأنى كنت أشعر أنه على واجب والناس لها حق أن تعرف ماذا حدث، وتحدثت لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، وطلبت منه ألا يشوه كلامى وإذا أرادوا الحذف فعليهم أن يحذفوا السؤال وجوابه، ولم تذع الحلقات.

سألت إذا كان من الممكن أن يعطونى نسخة من الذى تم تصويره فرفضوا، وفى إحدى المرات سمحوا لرمسيس فنان الكاريكاتير بأن يسجل معى أنا والأستاذ إبراهيم نافع فى رمضان، وأخذوا ما هو قابل للسؤال والجواب، وفى الوقت نفسه جاء إلى ممدوح الليثى رئيس قطاع الإنتاج وقال لى: نريد أن نعمل من هذا البرنامج حلقة كبيرة لتذاع فى العيد، فقلت حاضر، وجلست مرة أخرى وسجلت البرنامج ولم يذع، وقلت لممدوح: أنتم سجلتم معى ثلاث ساعات، فهل من الممكن أن تعطينى نسخة، وبعد أربعة أو خمسة أيام قال لى: لم أجد الشريط.

ودائما كان يأتى البعض لتسجيل برنامج معى وأرحب بذلك، ولكنى كنت أطلب منهم أن يسألوا أولا إذا كان ذلك جائزا أم لا، فيذهبوا ولا يعودوا.

وعندما بدأ حمدى قنديل برنامجه " رئيس التحرير" على التليفزيون المصرى، جاء إلى وقلت له: سجل حلقتك الأولى بدونى، وإذا لم تجد اعتراضات على ومرت حلقتك الأولى دون مشاكل تعال لنسجل حلقة، لكنه لم يأت.

(10)

فى العام 1999 كنت على وشك الاستئذان فى الإنصراف، وكانت هذه هى المرة الثالثة.

فى سبتمبر من هذا العام  دق جرس له رنين، فقد وقع أثناء مراجعة طبية دورية أن على هيكل أكبر أبنائى وأقرب أطبائى وهو أستاذ فى كلية الطب بجامعة القاهرة اكتشف وجودا ملحوظا لخلايا مريبة " سرطانية بطبيعتها"، ومع أن نشاطها كان ضعيفا ومحصورا فإن أحدا لا يستطيع ضمان ألا تشتد ضراوتها وتزيد سرعتها وتنفلت منتشرة.

قرر على أن يتوسع فى الفحص، وإذا ببؤرة خطيرة أخرى تظهر على صور الأشعة، والتقى لفيف من الأطباء بينهم الصديق والعميد الدكتور محمد عبد الوهاب والجراح الكبير الدكتور إسماعيل شكرى، والمنظم الطبى البارع الدكتور حاتم الجبلى والدكتور عمرو مسعود، وجلست أمامهم وإذا الإجماع أن الموضع الأول للخطر يحتاج إلى علاج بالإشعاع فى حين سيحتاج الموضع الثانى إلى مبضع جراح.

كان هناك اتفاق على أن الجراحة أولى بالسبق، والإشعاع عليه الدور بعد أسابيع، والولايات المتحدة الأمريكية يتحتم أن تكون مقصدى وبسرعة، وسألت إذا كانت هناك بدائل أخرى فى مصر أو قريبا منها، ولم يقبل محمد عبد الوهاب ورد بأنه: إذا كان الأكثر تقدما فى إطار ما أقدر عليه، فلماذا القبول بغيره فى شأن يتعلق بالصحة.

وأضاف: إن الجراحة الشائعة عموما فى مثل هذه الحالات تختصر الطريق بإستئصال الكلية، لكن هناك أستاذا أمريكيا استطاع تحقيق اختراق مهم يركز على الكشط والتطهير، ومع أنها جراحة متناهية فى الدقة إلا أنها تساوى المخاطرة فهى – فى حال نجاحها – تحتفظ بالكلية شبه سليمة قادرة على أداء وظائفها.

فى دقائق تلاقت الأراء على الدكتور " أندرو نوفيك" الجراح المشهود له عالميا فى هذا التخصص، ثم تلت ذلك إشارات إلى الدكتور " باتريك كوبليان" أستاذ الإشعاع الذى لفت الأنظار فى الولايات المتحدة، يتولى الجزء الثانى من العلاج، ولحسن الحظ كان الرجلان – وقتها – يعملان فى مركز طبى واحد هو مؤسسة " كليفلاند" ذائعة الصيت فى ولاية " أوهايو".

وصلت إلى " كليفلاند" فى نوفمبر 1999 وجدت فى انتظارى على مدخل مطارها الدكتور فوزى إسطفانوس وهو أحد أساطين تلك المؤسسة الكبرى، وكان الدكتور فوزى يحمل معه جدولا لمواعيدى.

وحين التقيت الدكتور نوفيك ومعه مساعده المصرى المتميز الدكتور عمرو فرجانى لفحص يسبق الجراحة فاجأنى الدكتور نوفيك بأسماء كثيرين اتصلوا به أو بمكتبه يسألون ويوصون، وكان بينهم رئيس دولة سبق للدكتور نوفيك أن عالجه، وتفضل ذلك لرئيس فاتصل يقول للطبيب،: إن مريضه الجديد رجل يحب أن يفهم كل شئ بالعقل قبل أن تتصرف بالفعل.

تصور الدكتور نوفيك أن عليه تقديم شرح واف عن الأحوال والاحتمالات، واستمعت إليه صامتا لدقائق، ثم رجوته ألا يحير نفسه فى كل ما بلغه من قبل.

قلت له بعفوية: أنت تتعامل مع رجل لم يعد فى الأربعين أو الخمسين، وإنما رجلا تجاوز الخامسة والسبعين، وأى عاقل يبلغ هذه السن بأمان، لا يحق له نسيان أن المجهول المحيط به، عليه غوائل تنتظر والسؤال فى شأنها لا يكون ب" هل؟" ولكن ب" متى؟" ثم أى الغوائل الكائنة فى المجهول تسبق إلى غيرها إلى المعلوم؟

استفسر الدكتور " نوفيك" متحيرا: أهى روح الشرق؟

قلت له: بل حقيقة الحياة.

وأضفت: إننى رجل محب لهذه الحياة ومغرم بها، وفى الوقت نفسه متصالح ومتفاهم مع ما بعدها، فهذه الحياة أعطتنى أحلى وأغلى ما عندها ومن الحق أن أدرك أن ما بعدها موصول بها اتصال الليل بالنهار.

خرجت من هذه التجربة سنة 1999 شاكرا وحامدا، فقد كان الخطر سخيا معى بزيارتين فى الوقت نفسه، لكن الطب الحديث كان رفيقا بى، فخرجت سليما فى الحالتين، وتحفظى لأنى أتذكر تعبيرا فرنسيا شائعا بأنه لا مرتين بغير ثالثة، وقد ظل يقينى فى الأول والآخر أنها عناية الله فوق الخطر وفوق العلم.

 عقب تلك التجربة عاودنى مرة أخرى هاجس الاستئذان فى الإنصراف، لكنى اعتبرته على نحو ما فى تلك الظروف تنكرا وربما جحودا.

(11)

انقضت مفاجأة أحداث 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة وما ترتب عليها بل وما سبقها من أحداث منذ استولت المجموعة الإمبراطورية الجديدة على سلطة القرار من البيت الأبيض، وأخذتنى عن كل هم آخر، فقد بدا المشهد الدولى للجميع وكأنه تساقط كتل ضخمة من جبل مهول مسه جنون وزلزال - ثم راح الأعتى من هذه الكتل يتدحرج متدافعا منقضا على العالم العربى وأحسست أن الحاجة إلى الإستئذان فى البقاء أشد إلحاحا من خاطر الإستئذان فى الإنصراف، وتبدى لى أن المشاركة فى البحث عن رؤية مشتركة للمستقبل القادم أولى وأحق بصرف النظر عن اختفاء أوراق وملفات وكتب تخص زمانها الذى يضيع -  وإن لم يضع.

وحاولت شيئا من تلك المشاركة خلال مجلة " وجهات نظر" التى طرحت نفسها منبرا رصينا يحاول أن يستكشف ويستطلع، وشجعنى أن مقالاتى فيها تنشر فى الوقت نفسه بعدد من صحف العالم العربى.

لم أكن رئيس مجلس إدارة مجلة " الكتب وجهات نظر" ولا أنا عضو فيها ولا مساهم فى المشروع، وإنما كنت صديقا للفكرة لا أكثر ولا أقل، والأصل نفسه موجود فى نيويورك وفى لندن، وربما فى غيرهما من العواصم الكبرى، هناك مجلات تختص بالكتب، وكنت أتمنى أن تكون للقارئ العربى مجلة من نفس النوع وفى وقت من الأوقات فكرت أن الأهرام قد يهتم بصحافة من هذا النوع، وتكلمت مع نوال المحلاوى بوصفها مسئولة عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، ولكن كان الظن أن مستوى المجلة سوف يجعل سعرها غاليا، وأن القارئ فى مصر يريد قراءة أسهل ومطبوعات أرخص، وكان عندى تصور أن هناك القارئ العادى أفضل من الكاتب العادى، وأن مستواه أصبح أحسن.

ثم جاءت دار الشروق وقال إبراهيم المعلم نحن يمكن أن نحقق هذا الحلم.

 قلت له: ادرسوه جيدا، وطلبوا منى أن أساهم.

 فقلت: أنا مشجع جدا للفكرة، وقد فات الوقت لأدخل طرفا فى أى مشروع.

 وقلت لهم إننى على استعداد لأن أساعد فقط.

رشحت بالفعل هيئة لرئاسة التحرير كان فيها الأستاذان جميل مطر وسلامة أحمد سلامة، وكلاهما فيما أظن أفضل اختيار، لكن نشات مشكلة فيما يتعلق بجميل مطر، وهى أنه ليس عضوا فى نقابة الصحفيين.

 قالوا لى: ممكن تساهم بالكتابة، قلت أستطيع أن أساهم بين الوقت والآخر بتقديم كتاب، وأن إضافتى هى المقال المستطرد، وله سماته وطبيعته.

ظلت مجلة " وجهات نظر" عزيزة على لأسباب متعددة تتعلق بالفكرة وتنفيذها، دون أن تتصل بهوى أو مصلحة، كنت صديقا متحمسا يعتقد أن النظر فى أحوال العالم العربى يستوجب ارتحالا مرة أخرى إلى الكتاب، سواء كان الكتاب حروفا مطبوعة فى صفحة أوومضات تلمع على شاشة، وقد تأكد لدى ظن بأن ظروفا وعصورا طارئة جرتنا جميعا وراءها لاهثين بحيث انفكت السفن عن مراسيها، وأخذتها الرياح إلى بعيد دون أن تتحكم فى سيرها دفة أو يدها نجم أو تساعدها خريطة.

كان الإسم الأصلى ل" وجهات نظر" هو " الكتب" تعبيرا عن ضرورة عودة من نوع ما إلى الأصول والمنابع وإلى المرجعيات القادرة على التصويب والتصحيح والتدقيق، فالتقديم ليس تناولا على عجل لأدوات العصر بتصور أن الحصول عليها كاف، فمثل ذلك وهم، لأن أدوات العصر قريبة شبه من السلاح، لابد لمالكه أن يحسن استعماله ويتدرب عليه، وإلا فإنه لو تصرف دون استعداد أضاع نفسه منتحرا قبل أن يعمل إرادته مقاتلا.

كانت الفكرة الرئيسية من المجلة أن تكون رجوعا إلى الكتاب، تقترب منه وتحوم حوله وتمد يدها إليه، وفى نفس الوقت لا يكون تناولها للكتب عن طريق مجرد عرضها وهو ما تفعله معظم المجلات من هذا النوع فى العالم، ولكن يكون الكتاب إلى جانب عرضه مدخلا فسيحا إلى موضوعه يبرز أهميته إذا استطاع ويضيف إلى وعائه إذا تمكن.

ثم كان أن العنوان الفرعى " وجهات نظر" غلب على العنوان الأصلى " الكتب"، وكان ذلك معقولا ومقبولا، والسبب المحسوس ربما دون أن يكون مقصودا أن لا تتبدى العودة إلى الأصول والمنابع والمرجعيات – عودة مدرسية توحى بالرسوب وبضرورة إعادة المنهج من أول الأبجدية، لأن مثل ذلك إهدار لجهد ولزمن فى تجربة الأمة لا تقتضيه الظروف حتى وإن استوجبت هذه الظروف إعادة النظر والفكر، أى أن نوعا من العودة يمكن أن يحدث دون أن يكون معناه الحكم بالضياع على عمر وعلى حياة.

والحقيقة أن الزملاء والأصدقاء الذين قاموا على مشروع " الكتب وجهات نظر" استطاعوا فى فترة قصيرة  - لم تزد على عام واحد – أن يضعوا علامة تشير إلى الطريق الذى قرروا السير عليه، وأن يرسموا خطا بعد هذه العلامة مشت عليه المجلة عددا وراء عدد نحو غاية بدت جديرة بالاهتمام، وجديرة بالإحترام.

لقد حاولت مع هؤلاء الزملاء والأصدقاء، من موقع المناصر المتحمس، وقدرت أن يكون أول إسهامى فى جهدهم فصول عن القضايا والرجال، سايرت وقائع كاملة ( فبراير 1999 – فبراير 2000) وشواغل أيامها، وشخوص بعض أبطالها، وكانت النتيجة أسفارا فى اتجاهات عديدة وأزمنة قريبة وبعيدة.

كان طموحى فيما حاولت أن أجرب كتابة المقال المستطرد، وهونوع جديد على الصحافة العربية، و يذهب كاتبه مع موضوعه على الخطوط الرئيسية وعلى الخطوط الفرعية، وينتقل من كليات المسائل إلى تفاصيلها، ويربط ما بين الحوادث الكبرى الموجهة للتاريخ وما بين النزعات الإنسانية للبشر، وهم مادة التاريخ كما هم صناعه فى نفس الوقت.

والفكرة الأساسية فى المقال المستطرد المسترسل أنه مكان وسط بين المقال المألوف وبين الكتاب، فهو  أطول من المقال وأقصر من الكتاب، وهدفه أن يمسك بموضوع ويستوفيه قدر ما هو ممكن، واضعا فيه إذا استطاع سرعة إيقاع المقال وسعة إحاطة الكتاب.

ولقد جربت... وربما أضفت أن التجربة هى الحق الطبيعى لكل هؤلاء الذين وصل بهم الزمن إلى حيث أصبح فى مقدورهم أن يقولوه لأنفسهم وللناس أن مستقبلهم وراءهم، وبالتالى فهو على استعداد أكثر من غيرهم لأن يتحملوا ما لا يستطيع أن يتحمله أولئك المضطرين إلى رؤية أن مستقبلهم أمامهم وما يقتضيه من تكاليف وضرائب.

وعلى سبيل المثال فإن عددا لا بأس به من أكبر الصحفيين والكتاب فى العالم وصلوا إلى مراحل تركوا فيها زحام الجرائد الكبيرة وطوابير المتسابقين إلى صفحاتها، وذهبوا إلى مواقع للنشر مختلفة تمتلك حق اختيار قارئها دون أن تلح عليه بالإثارة أو غيرها من لوافت الانتباه الصاخبة الصارخة.

(12)

ثم طرأ أننى من الرغبة فى توسيع نطاق البحث عن رؤية مشتركة – قبلت الظهور بعد تردد – على شاشة قناة تليفزيونية مصرية " دريم" وتقديرى بغير تزيد أن يكون ذلك مرة واحدة كل ثلاثة أشهر والرجاء استثارة حوار يتصل فى مصر ويتواصل عبر أوطان الأمة، ومنتهى القصد أن يساعد مثل هذا الحوار على تخفيف الشعور بالإحباط والركود والعجز ويشد إلى مشاركة واسعة فى البحث، والكشف بحيث تتمكن رؤى حرة ومفتوحة من تجاوز مناطق الشك والخلط والعصبية، وكان اعتقادى دوما أن الخطوة الأولى فى أى حوار هى إعادة بناء موضوع الحقيقة بأقصى دقة مستطاعة، لأن أى اختلاف فى الرأى مضيعة للجهد، إذا لم يكن الموضوع عند المنبع واضحا محددا ومتفقا عليه، وموصولا بالوقائع والدخائل وليس بالحكايات والحواديت.

وبدا لوهلة أن بعض ما آمل فيه ويأمل فيه غيرى قابل للتحقيق، فقد سرى صوت الحوار مسموعا، ثم إن هذا الصوت أخذ يعلو طبقة فوق طبقة.

وكان ظنى أن رجلا فى مثل سنى يقر ويعترف أن مستقبله وراءه، وإقراره مصدق عليه بختم السنين وعددها، لم يتبق له غير أداء الحق العام بل ولربما كان عليه أن يوجه إلى نفسه، وبحزم ذلك السؤال الذى أجراه شكسيبير على لسان أحد شخوصه: إذا لم أتكلم أنا فمن؟ وإلذا لم أتكلم الآن... فمتى؟

وكانت تلك مبالغة فى التفاؤل ربما.

أى أنه بحقائق الأشياء فإن الإعتراض على الحوار كان واردا فى المناخ السائد، وبالتالى فإنه عندما وقع لم يكن صاعقة منقضة، لكن الأسلوب الذى تم به الاعتراض – بدا داعيا للاستغراب فيما يعنيه ويدل عليه، وكان أسفى أننى لم أدفع ضريبة ما قلت بما يحتمله من صواب أو خطأ، وإنما دفع غيرى وجاء الدفع فى موضع الوجع ومرة أخرى لا أزيد.

سمعت دعوات مخلصة لنقل الحوار الذى توقف إلى خارج مر لأنه موقف وقضية والمنطق أننى قادر على الوصول إلى العالم العربى والعالم الخارجى حتى أقاصيه، ثم إن لى سابق تجربة وخبرة فى ذلك من قبل أيام الخلاف مع الرئيس السادات بعد حرب أكتوبر 1973 حول قضية السلاح والسياسة.

لم أكن نسيت تلك الموقعة لكنى ذكرت نفسى بأن المسألة هذه المرة لها تكييف آخر، ففى المرة السابقة كان نقل الخلاف بمواصلة الكتابة خارج مصر، مقبولا لأن موضوعه يهم محيطا أوسع: أوله العالم العربى فى صراعه مع إسرائيل، ويليه العالم الخارجى فى عموم اهتمامه بسلام الشرق الأوسط.

وأما هذه المرة فإن موضوع الخلاف أحوال مصر وأوضاعها ورؤاها ومواقفها وخياراتها وسياساتها فى الداخل والخارج، وإذا جرى اعتراض الحوار – بالخلاف – فوق أرضها فإن نقله خارجها ثقيل، على الأقل بالنسبة لى، وإذا عصيت مشاعرى فإن الأبواب المفتوحة على مصراعيها فى العالم العربى والعالم الخارجى، تدعونى إلى قول ما أريد وتحتفى به – ربما تتبدى أمامى حواجز معنوية أتردد قبل القفز عليها اعتبارا لكبرياء وطن وولاء مواطن.

وكذلك راحت الأسباب تتراكم وتتداخل ويمتزج بعضها ببعض حاضرة طول الوقت ومؤثرة.

وبقى فى النهاية سؤال: إذا كان الصمت حاضرا والكلام غائبا ومجمل الظروف ما سبق وما لحق والأحوال المصرية والعربية ما أرى ويرى الناس إذن فإلى متى وإلى أين؟

ومع أننى لا أكف عن تذكير نفسى بحكمة عربية شهيرة تقول: لعل لهم عذرا وأنت تلوم – كما اعترف أيضا بأن حبال الصبر تقصر مع طول العمر، فإنى متمسك بحدود لا أتجاوزها – لا أملك أن أقتنع إلا بما أراه مقتنعا – ولا أقدر على مغالطة نفسى فيما أقرأ وأسمع وأعرف، أو أصل إلى موقف لا يعود فيه عندى غير العجز والإيحاء بالإشارة إلى أنه فى فمى ماء وهل ينطق من فى فيه ماء.

ويقتضى الواجب مرة أخرى تكرار أنه ليس سببا واحدا، وإنما جملة أسباب تداخل فيها الخاص والعام، والسابق واللاحق والمأمول والواقع والكبير والصغير والمعقول وكذلك اللامعقول.

(13)

فى 2003 وبعد مرور ثمانين عاما من سنوات عمرى وما يقرب من ستين عاما من عملى فى الصحافة لاح لى وميض الإستئنذان الثالث فعزمت.

تحدثت فى الأمر مع الأقربين وتفهم بعضهم كما أن بعضهم كانت له تحفظات.

كان رأى حبيبة القلب والعقل ونور الطريق والضمير فى حياتى أن الاستئذان فى الانصراف مفهوم ومعقول، لكنه قرار مرة واحدة، وذلك يدعو إلى إطالة التفكير، وكان القول صدقا.

وكان هناك رأى عزيز وغال يسأل عن داعى الإستئذان فى مطلب هو فى النهاية ملكى حين أشاء، وكان جوابى أن أى شخص يعطيه الناس مساحة من وقتهم – مدين لهم بقيمتها وليس بمجرد حجمها وبالتالى فإن عليه واجب الإستئذان.

وأخيرا كان هناك رأى حنون وحريص يخشى أن التوقف عن العمل هو فى العادة بداية عزوف عن الحياة، وحاولت أن أشرح أن الإنصراف نيتى وليس الإختفاء، بمعنى أنه الإبتعاد وليس الغياب، فما زال لدى ما أريد أداءه ضمن جدول أعمال يكفينى حتى وإن ظهر على شكل ملفات خام أصلية، أو قد أفكر فيما هو معروض على كحلقات تليفزيونية مصورة موثقة – تذاع عبر قناة الجزيرة -  أتحدث فيها وفى الإطار وثائق أصلية تعزز ما أقول.

كان أملى أن بعض ما عندى – إذا استطعت – قد يضيف ويغطى ثغرات كانت مثل ثقوب الفضاء مجهولة فى حياة الوطن والأمة، ومعظمها متصل بمرحلة كان للعرب خلالها دور فاعل فى العالم والتاريخ، وكان ظنى أنه ربما يكون من شئ أقدمه فائدة لزمن قادم ولجيل لم يولد بعد، لعل هذا الجيل يتجاسر ويستدعى كامل همته، ويقبل على المراجعة والفرز دون رهبة من أباطرة السيطرة وقهرهم، وغارات أمراء الانتقام وحرابهم، وطالبى الثأر يطاردون الماضى دون أن يخطر لهم أنهم شردوا خارج التاريخ إلى التيه فى قفار موحشة.

يزيد على ذلك أن الإنصراف ليس سقوطا فى بئر الغيبوبة – ولا سجنا فى قبو قلعة نائية وحول الرأس والرقبة قناع من حديد وحول الأيدى أغلال من صلب وفى الأقدام أساور تمسكها سلاسل محبوكة تحرج وتدمى إذا تحرك الأسير.

رتبت أمورى على هامش ما قررت.

اتصلت بناشرى فى لندن ونيويورك واعتذرت عن كتاب ثالث اتفقت معهم مبدئيا عليه، فقد كان اتفاقى الأصلى مع "هاربر كولينز" شاملا لثلاثة كتب، ظهر منها اثنان " أوهام القوة والنصر" و" المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل"، وكان الثالث الباقى عندى عن" الإسلام السياسى" وقد اختار له " أندى بيل" رئيس مجلس إدارة " هاربر كولينز" وقتها عبارة " السيف والهلال" رمزامؤقتا أعمل تحته حتى أستقر عليه أو على عنوان غيره فى اللحظة الأخيرة قبل موعد النشر.

وفى نفس الوقت اتصلت بعدد من الصحف الأوربية بينها الجارديان البريطانية بأنه الشكر والعرفان وكفى.

وكذلك أبلغت رئيس تحرير مجموعة " يميمورى شيمبون" اليابانية، وكنت أكتب فيها مقالا منتظما، بلغ عدد الصحف المشتركة فيه أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة منتشرة فى بلدان شرق آسيا وغرب أمريكا، أن يقبل اعتذارى عن عقد متجدد تفضل وأرسله.

واعتذرت عن محاضرتين كنت قبلت الدعوة إليهما مبدئيا، واحدة فى الجامعة الأمريكية مرة أخرى، لإفتتاح الموسم الثقافى الجديد والثانية فى مركز الدراسات الفلسطينية فى بيروت، لتكريم مفكر عربى بارز رحل قبل سنوات تاركا تراثا فكريا متميزا وهو الدكتور " قسطنطين زريق" أستاذ التاريخ العتيد فى الجامعة الأمريكية فى بيروت.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة