"آمنت
بالحب.. من فيه يباريني، والحب كالأرض أهواها فتفنينى".. هكذا يقول شاعر التراجيديا
الإنسانية نجيب سرور، الذى وصفه قراؤه ومادحوه وكارهوه بشاعر العقل.
"من وضع يده
على الجُرح المندمل، دون أن يخاف، ثأر لقلبه الجريح الذى اعتصر من القهر والشعور
بالخذى منذ أن كان صغيرًا، فكيف يمكن أن تكون الحياة غير منصفة ومجحفة للبعض
وغزيرة العطاء لأحدهم".
وطارد نجيب سرور الثنائيات المتناقضة كالخير والشر، القوة
والضعف، الحركة والسكون، محاولاً التغلب على أشكال استلاب الإنسان واقعه ومحاولات
تغريبه من خلال ضياعه فى واقع غريب عنه، لايدرك فيه والحياة تأبى بلوغه
إياها.
إن الطبيعة الأساسية للبشر تكمن فى القدرة على إعادة تشكيل العالم من
حولنا وفق إحتياجتنا وقدرتنا الإبداعية، ومن هذا المنطلق كان نجيب سرور لسانًا
مسنونًا يحاول أن يقتنص حقه وحق المهمشين بكلماته اللاذعة الجرئية التى تخدش
الحياء دون خوف أو مواربة منه، فحارب أنساق المجتمع والمنظومة القيمية التى قيدت
أجيالاً وأجيالاً فانتصر لهم وهو المظلوم الذى أنصفه التاريخ بعد موته .
ولدُ سرور فى قرية إخطاب، مركز أجا بمحافظة الدقهلية فى 1 يونيو 1932،
وهى قرية صغيرة، متواضعة الإمكانيات، الكل فيها يكافح من أجل لقمة العيش، أخذ سرور
حظه من التعليم فى مدرسة حكومية، كان محبًا للقراءة والشعر والأدب والتاريخ ما
ساهم فى تشكيل شخصيته، وقد إلتحق بكلية الحقوق بعد ما أنهى المرحلة الثانوية إلا
أنه تخلى عنها من أجل المسرح الذى يحبه، فقد كان يشعر بأنه صاحب قضيه ولابد أن
ينتصر لها، فترك دراسة القانون وألتحق بالمعهد العالى للفنون المسرحية .
كان سرور ينتمى لأسرة فقيرة فقد كان يعانى الفقر والإضطهاد الذى شهده
من الإقطاعين الذين لم يتوانوا فى إذلال الفلاحين البسطاء، والذى كان والده واحدًا
منهم لذا جاءت قصيدة "الحذاء" جراء
تعرض والده للإهانة أمام عينه وهو فى سن صغيرة فقد ضرب العمدة والده بحذاء أمام
ناظريه، فقال فى تلك الواقعة "أنـا
ابن الشـــقاء ربيب -الزريبــة والمصطبــة- وفي قـريتي كلهم أشـــقياء وفي قـريتي -عمدة-
كالإله يحيط بأعناقنــا كالقـدر بأرزاقنـا- رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحـذاء وينهـال كالسـيل فوق أبي أهــذا..
أبي ؟ وكم كنت أختـال بين الصغـار بأن أبي فــارع “كالملك"
!
كان سرور ينتمى إلى منظمة حدتو الشيوعية، وذلك قبل أن يسافر فى منحة
حكومية إلى الإتحاد السوفيتى ليستكمل دراسته فى المسرح فى عام 1958، وبينما كان
يعتنق الفكر الماركسي قام أحد زملائه الوافدين معه بالبعثة بالتحريض ضده فى
السفارة المصرية ما أدى إلى سحب المنحة منه، وذلك بعد خطاباته الجريئة التى نددت
بالقمع ضد النظم الحاكمة فى مصر والأردن، ليسافر بعدها إلى المجر، ويكتب قصيدته
الشهيرة "أميات" فى عام 1961 والتى عرُفت بكلماتها الجارحة الخادشة للحياء، والنقد اللاذع الذى جاء نتيجة تجربته السيئة بعد هجرته وهروبه إلى المجر.
ملك الشحاتين
:
تعرض نجيب سرور لكل أشكال القمع، فتم منع عرضه مسرحياته وتم مصادرة
النسخ المطبوعة منها، كما تعرض للاعتقال وتم تعذيبه فى سجون صلاح نصر رئيس
المخابرات المصرية فى عهد عبدالناصر، كما تعرض لمحاولة اغتيال، ثم تم إيداعه بمستشفى
الأمراض العقلية، إلا أن هذه الممارسات لم تمنعه من أن يطلق العنان لقلمه وكلماته
فألف مسرحية "بهية وياسين" فى عام 1965 وبعدها بعامين أنهى كتابة
مسرحيته "يا بهية وخبرينى"،
ومسرحية "الكلمات المتقاطعة" ومسرحيته النثرية "الحكم قبل المداولة"،
وتوالت أعماله المسرحية مثل "البيرق الأبيض" ومسرحية الغنائية الشهيرة "ملك
الشحاتين" وهى كوميديا غنائية مقتبسة عن أوبرا "القروش الثلاثة"
لبرشت، أما مسرحية "الذباب الأزرق" التى تم إخراجها فى عام 1971 وتم
منعها من العرض، وقد جاء هذا العمل فى طابع الكوميديا السوداء وحاول سرور من
خلالها أن يندد بمذابح شهر سبتمبر بالأردن، وقدم مسرحية "هاملت" في شكل
جديد بعنوان "أفكار جنونية فى دفتر هاملت".
يقول سرور فى قصيدة لهذي الجموع: "رأيت
الدمــاء دمــاء المســـاكين فى قريتي يعيشـــون كالدود فى مقبره هم الدود والميت
يافتنتى ! أفاتنتى
.. فى اختناق السواد على مقلتيك رأيت الشـــقاء يلف بأذرعــه الهــاصره جســوم
الملايين من أمتى ! أفاتنتى
فى انسياب الحيــاة على شفتيك رأيت الجفـــاف رأيت سراب الحيــاة الشحيح تصــوره
لهفـة الظــامئين وهذى النجوم عيون العبيد تطل علينا و قد جحظت بالعـذاب المقـل" هكذا كان يعبر نجيب سرور عن معاناته وعن الطبقة المهمشة التى كان
ينتمى لها.
وكتب ما بين عامى 1969 و1974 العديد من القصائد الهجائية والتى أدت إلى
صدامه الدائم مع المخابرات المصرية ومع طبقة المثقفين الذين لم يسلموا من نقده
وخاصة بعد أحداث النكسة عام 1967. فصدرت له مجموعته الشعرية "التراجيديا
الإنسانية" وتلتها المجموعة الشعرية "لزوم ما يلزم" ثم توالت
أعماله الشعرية كرباعيات نجيب سرور الذى كشف من خلالها عن زيف النظم السياسية، وفى
عام 1978 صدرت له "برتوكلات حكماء ريش" وهى عبارة عن أشعار ومشاهد مسرحية
أنتجها ما بين عامى 1974 و1975، واستمرت أعماله الشعرية بالرغم من محاولات قمعه
حتى وفاته وقد نُشر له بعد وفاته ديوان "الطوفان الكبير" وديوان "فارس
آخر زمن" من ضمن أعماله الكاملة التى صدرت فى عام 1997.
البحر بيضحك ليه ؟! لم تتوقف
مسيرة نجيب سرور العامرة بالأحداث والإبداع مابين المسرح والشعر، فقد أضفت أغنياته
التى قدمها العديد من نجوم الغناء المصرى الطابع المتمرد على الأغنية فى فترة
الستنيات والسبعنيات، وقدم الأغنية الثائرة على الأوضاع السياسية والإجتماعية التى
تهدم المجتمع، والأغنية الوطنية التى كانت تبعث فى قلوبنا الأمل وحب الوطن "البحر
بيضحك ليه" هى إحدى أغانيه التى كتبها ولحنها الشيخ إمام وتعتبر هذه الأغنية
من أشهر الأغانى التى يرددها المطربون من الشباب ومريدى أغانى الأندرجرواند.
وقدم
سرور أغنية "فلاح" التى غناها الفنان محمد رشدي بالتعاون مع الملحن بليغ
حمدى، كذلك أغنية على الحجار الشهيرة "عاشق عيونك" التى قام بتلحينها الموسيقار هانى شنودة. وتعاون
مع الشيخ إمام مرة أخرى فكتب له قصيدة "غريب وجيت البلد"، وغنى له الشيخ
إمام أيضًا أغنية "حلوا المراكب "
وبعد رحلة طويلة لنجيب سرور بين النضال، السجن والإعتقال، بين الشعر، المسرح
والعمل الأكاديمي، ومحاولات التضييق عليه،
تدهورت حالته الصحية بعد أن تم إيداعه قصرا بمستشفى الأمراض العقلية ليتوفى فى مثل
هذا اليوم 24 أكتوبر1978 تاركًا وراءه إرثًا وسيرة وتاريخ مازال يتناوله الباحثون
والأكاديميون بالنقد والتحليل
.