أتناول فى خطابى هذا موضوعا يتكرر الحديث فيه
كل عام مع حلول ذكرى افتتاح دار الأوبرا الخديوية ، وأرجو أن أضيف هنا معلومة
أحسست بحاجة القراء إليها على أثر الحديث التليفزيونى مع المؤرخ والكاتب الكبير د.
يونان لبيب رزق بالقناة الثالثة، بعد ظهر الجمعة أول نوفمبر فى مناسبة ذكرى افتتاح
الدار فى عام 1869 .
فلقد تطرقت المذيعة
إلى الكلام المكرر حول اتهام الخديو إسماعيل بالإسراف الذى أفلس البلاد بإقامته
لدار الأوبرا فى إطار مهرجان افتتاح قناة السويس، وكان تعليق العالم الكبير على
ذلك بأن ديون مصر فى عهده كانت بالفعل قد بلغت تسعين مليونا من الجنيهات بينما لم
تزد تكاليف الدار وحفل افتتاح القناة عن مليون واحد أما مجالات الانفاق الأساسية
فنلمس معالمها فى أكثر من حرب مع الحبشة مثلا وسط طموحات تحقق فيها قيام
امبراطورية كبرى لمصر أطلق خلالها على البحر الأحمر بأنه «مياه مصرية» واستحداث إصلاحات
داخلية ومنشآت علمية بقيت أثارها حتى الآن.
ونتمنى هنا لو عاد
المؤرخ الكبير إلى هذه الحقبة من أولها ولو بإيجاز منذ عهد محمد على مؤسس مصر
الحديثة، والذى لا تزال بعض الأقلام تعتبر الكلام عن إنجازاته «مجرد وهم» كما
قرأنا أخيرا فى تعليق على مقال رائع للدكتور عادل أبوزهرة أستاذ العلوم السلوكية
ومثقف الإسكندرية المرموق .. لقد قرأنا عن إسماعيل إنه تعرض منذ الإعداد لافتتاح
القناة لمحاولات ومؤامرات سلطان تركيا الذى ساءه تألق مصر وحاكمها على المستوى
العالمى بعد أن كانت مجرد ولاية عثمانية ، فأراد أن يقوم هو بالرحلة إلى أوروبا
بدلا من إسماعيل لتوجيه الدعوة للمملوك والمشاهير لحضور حفلات افتتتاح القناة.
ولما فشل فى ذلك، فإنه بدأ الإساءة إلى موقف مصر الاقتصادى والتشهير به لدى البنوك
والجهات الدائنة فى أوروبا وتصعيد الأزمة إلى المستوى السياسى .. والانتهاء إلى
خلع إسماعيل والتمهيد السريع للاحتلال البريطانى لمصر، فكما نرى الآن فإن موضوع
الديون وبالذات على مستوى الدول له طرقه المألوفة للسداد، ولو مع بعض التعثر،
وخاصة أن مصر كانت لها حينذاك مواردها وإمكاناتها الواسعة فى مجالات الإنتاج
والإصلاح العام .
ونعود الآن إلى سؤال
المذيعة فى اللقاء التليفزيونى مع د. يونان لبيب رزق عن بعض التفاصيل الخاصة بمبنى
الدار الخديوية، والتى لم يشأ الخوض فيها. فنذكر بحكم معايشتنا الطويلة للدار، أنها
كانت تحتوى فى قاعتها الرئيسية على ثلاثمائة وستة من المقاعد، ومثل هذا العدد
تقريبا فى الأدوار العليا من بناوير وألواج ومدرج «أعلى التياترو» . وبالدور
العلوى قاعة عرفت فى أواخر عهد الدار بصالة إسماعيل وفوق الحائط صورة كبيرة له،
وفى كل من الجانبين شرفة عليا ممتدة بطولها، وربما كانت مخصصة «للحريم» من
المشاهدين، إذ كانت تستعمل فى أول عهود الدار كمسرح صغير تقدم فيه بعض العروض ذات
الطبيعة المحدودة فى حجمها، الأمر الذى حرصنا على وجوده بالدار الحالية عند تصميم
المبنى بمشاركة الخبراء اليابانيين.
ولاستكمال الإجابة
على سؤال المذيعة ، نقول إن المبنى بوجه عام كان يمتد من حدود الرصيف أمام
«الجراج» الحالى خلف تمثال إبراهيم باشا ، إلى رصيف شارع «البيدق» خلف الدار فى
اتجاه ميدان العتبة.. ومن رصيف شارع عبدالخالق ثرورت بعد ميدان الأوبرا من الجهة
الجنوبية إلى الرصيف فى اتجاه حديقة الأزبكية فى الجهة البحرية، وكان المبنى فى
جملته نموذجا للمسارح الأوروبية فى القرن التاسع عشر، كما قال د. يونان لبيب رزق .
أما الفخامة والروعة
فى داخل المبنى ، والتاريخ المجيد الذى تحقق له بعد ذلك بعامين بعد افتتاحه ،
فيرجع إلى تقديم أوبرا عايدة فى عرضها العالمى به، ويتذكر ظروف إيجاد رائعة فيردى
بالدار كلما قدمت عروضها حتى يومنا هذا فى عالم الحضارة الأمر الى دعانا أكثر من
مرة للمطالبة بإحياء المبنى كمتحف يربتط بأهم الأحداث الثقافية فى القرن التاسع
عشر.