الإثنين 10 يونيو 2024

الدخول بالملابس الرسمية

فن25-10-2020 | 13:16

قطرات المطر الناعمة : تلمع فى ذلك الشارع العريق .. شارع فؤاد بمنطقة محطة الرمل .. بعد الإشارة مباشرة تنحرف أقدامى المسرعة تجاه اليمين .. وأقترب منها فى هذا الممر .. يطالعنى تمثال سيد درويش الذي يتصدر ذلك المبنى بكل فخر .. صممه المهندس الفرنسي الشهير " جورج بارك " لا آل قرداحي .ولم يبخل عليه من زخارف وأيونات

أستوحي تصميمه المعماري .. من تصميم دار أوبرا فيينا بالنمسا .. ومسرح أوديون بباريس .. زخارف أوربية كلاسيكية تشبه ما كان سائدا في ذلك الحي اللاتينى من قصور ومنازل فخمة .. منذ 1918 وهو قابع هناك ..

أجد اليافطة النحاسية القديمة التى تحمل اسمه فى الماضي لاتزال فى مكانها : تياترو محمد على .. ثم تغير اسمها إلى مسرح " سيد درويش عام 1962 تقديراً لهذا الفنان العظيم ..

أول عرض كان عرض شهرزاد 1921 ولم أكن قد ولدت بعد ..

أتذكر أول حضور حفلة لى وكانت فرقة الكوميدي فرانسيز تعرض أحد عروضها فى 1982 ثم تم إغلاق المبنى لسنوات ليعاد صييانته وتم افتتاحه فى 27 يناير 2004 , ومن هذا اليوم .. لا أذكر أني قد فوت عرضا أو مسرحية أو حفلة باليه .. واحدة

 ظللت عشر سنوات أواظب على حضور مهرجان الإسكندرية الغنائي الشهير .. وعرض كسارة البندق ..ونيران الأناضول .. وبحيرة البجع .. حتى مهرجان الفنون الشعبية الهندية .. وحفلات الموسيقى العربية ..

ولكن عرض اليوم مختلف .. يرتجف قلبي وأنا أصطف فى الطابور الطويل .. أنتظر أن تدق أجراس الدخول .. ويفتح الباب الخشبي الأسود على مصراعيه ..

وتنسل الجموع الواقفة واحداً بعد الآخر فى طابور آخر ممتد على ذلك البساط الأحمر .. أجول ببصري فى الأنحاء تطالعنى لوحات الباليه الخاصة بسيف وانلى .. ولوحة أديل غوستاف كليمت

تزين رواق الدور الأول الذي يتكون من عدة غرف تسمى باللوج .. يتلوه دور ثان يسمى البالكون .. وأما الصالة الأماميىة فهي صالة المسرح الرئيسية امتلأت صفوف المقاعد التى تحمل لون الرمان هي أيضاَ عن آخر ما يتسع المسرح الكبير 1000 مقعد وتبلغ مساحته 4200 متر مربع .. تلألأت أماكن اللوج والبالكون بالياقات ناصعة البياض ..

ورابطات العنق المنتقاة والبدل السوداء وتتراقص أطياف الفساتين اللامعة ومعاطف الفراء والمنك .. روائح باريسية من الفل والجاردينيا تعبق المكان .. أغلق هاتفي تماماً .. وأستعد للحظة صمت مشاغب ثم هدوء تام ..

عندما تنخفض الإضاءة شيئاً فشيئاً .. هيمنت روح من عاشوا عمر الزهور حضورا قبل أن تبرد حرارة قبلاتهم على ثغر الوجود تاركين خلقهم أريجاً منغماً يعطر أنفاس الدنيا .. إلى الأبد وأرنو ببصري إلى تلك الأسماء التى حفرت بريشة من الذهب فى قمة القاعة الكبرى .. "موتسارت.. بيتهوفن .. هايدن .. فاجنر باخ شوبان .." لن تخطئها عيناك أبداً .. تلك النقوش والحروف والأسماء ستجدهم بحضور موازٍ للغياب ..

أعتدل فى مجلس تنطفئ الأضواء الواحدة تلو الأخري ويفتح الستار :

تصطف الأوركسترا بكامل عددها وعدتها , يوجه المايسترو قوسه لأعلى، فتبدأ أوتار الكمان تتجلى وتنساب الأنغام مثل حلم جميل فى ليلة شتاء طويل لا تود الاستيقاظ منه، ارتعاشته لا تفارقنى تنسحب من تحت أقدامي الأشياء، تسقط المسميات والأسماء، ينفطر القلب حنينا لقمر ما أخلف وعده للسماء .. تغرد عصافير الجنة .. ويصبح كل شيء بنكهة الفرح حتى الحزن يذوب ويتحول .

أحلق بروحي فى مجرات الهيام .. يترسخ صوت المغنى المضيء يزلزل قاعة العرض .. " أسقينى من كأس الود رطبا.. "

تحلق الكلمات إلى تلك الساحات التى لا تعرف فيها الأحزان عناويننا .. نحلق أبعد من ليشتاوس بعيدأ عن المدارات الحزينة .. أمضي كلما ارتفعت مقامات الشدو ..

ويأتى صوت الهارب يصاحب ترنيمة صوته المسافر فى بحور الأشعار نغم منقسم : ترافقه الآلات الوترية والجوقة النحاسية ::" آه .. آه .. كم كنت أفتقدك يا هوى "

ما أحلى النغم .. وكأن صوته يتحسس الطريق إلى شرايين وبمسح ما أعتراه من لوعة .. تصحو الرغبة المرتعشة .. ترسم دوائر ترقص على إيقاعاتها راقصة الفلامنجو الشهيرة " ماريا باخوس " وتفرد فى الهواء مروحتها .. تبغي بدقات أقدامها الوجلة دفق الدفء من موسيقى السكون الموحشة تنشد اللقاء والشوق المحال مثلما حدث لى تماماً وانا أشاهد العرض الأول لبحيرة البجع تترنم فى ذلك السكون قيثارة الصمت ترتعش أوتارها الضيقة فتسري فى تلك الطمأنينة ..

ولا أريد للعرض أن يتوقف : غنى لي كي أستسيغ الحياة أتنفس رائحة البحر مرة أخرى ..وأمشي ..أسابق الهواء تحت زخات المطر .. أسابق معزوفته قطرة .. قطرة ..

يسجل فى صوته ذكرياتي .. غنيها لى أن الصمت جاء .. وحل ..

وها هي الإيقاعات تتورد فوق الكمنجات .. تتوهج القاعة بنور خفي ..

أبصره اليوم .. وأوقن أنه مازال قابعاً .. نتماهى معه كأننا أبطال العرض .. تتبعثر فى رأسي الصور .. التى توارت خلف كل مشهد، رحلة عمر عاصفة أشد إيقاعاً من السوناتا الرابعة عشرة المعروفة لاحقاً : بضوء القمر .. وأكثر صخباً من موسيقى " الكرنفال " وأرق وطئا من معزوفات الفالس بأرقامها المتسلسلة .. وأسرى لك عن قلب يلملم رفاته فى ليلة من ليالى الأوبرا عندما ينطفئ التصفيق فى القاعة .. والظل يميل.

    الاكثر قراءة