الأحد 24 نوفمبر 2024

أخرى

حوار الفيلسوف مع الموسيقى

  • 25-10-2020 | 14:14

طباعة

الفيلسوف:  لكم أقف حائراً مشدوهاً كلما شردت وأنا أستمع لأحد أفراد بني جنسك (قطعة موسيقية خالصة) أو قطعة ممزوجة بكلمات (أغنية) أركز معها في اللحن! أشعر أنها تخاطبني، أو بالأحرى تريد أن تنقل لي معنى ما، ولكنه معنى بدون حروف، أصوات تنقلها آلاتك التي تظهر نفسك بها لنا، فتؤثر في مسامعي، فتطربني أو تشجيني. تثور داخلي الأسئلة الفلسفية التي تثور داخل كل منا (فالفلسفة فطرية فينا يا صديقي، تثور داخلنا الأسئلة ونجيب عليها ضمنياً فلا تكشف عنها سوى تصرفاتنا، ولكني ربما أعي بهذه الأسئلة بحكم التخصص الفلسفي): ما الذي في اللحن قد أطربني أو أشجاني؟ ما الكامن فيه يعبر عن عواطف وأحاسيس، أعيش أحياناً مع معزوفاتك إسقاطات خاصة بي تعمق إحساسي وأشجاني؟ أتُحدث في غيري الاستجابات ذاتها التي تُحدثها داخلي؟ أيتأثر الكل تأثري؟

الموسيقى: لست كائنا حياً مُعبّراً أيها الفيلسوف، ولا أفرادي كذلك، ومع هذا فقد اعتدتم القول عن بعض أفرادي أنها مبهجة أو أنها حزينة وكأنها كائن حي يعبر عن عواطفه.

الفيلسوف: ولكني أرى أفرادك تعبر عن عواطفنا البشرية. أتُراك تعبر عن عواطف الناسخ (المؤلف الموسيقي) أو المستنسِخين (العازفين)؟

الموسيقى: ليس صحيحاً، لأنه في كثير من الأحيان لا يكون لدى الناسخ أو المستنسِخين العاطفة التي تنقلها النسخة (القطعة الموسيقية). فقد يعبر أحد أفرادي (القطعة الموسيقية) عن عاطفة لم يخبرها الناسخ أو المستنسِخين من قبل. إلا أن هذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يتمكن الناسخ من التعبير عن حالة عاطفية يحياها. ولكن ماذا لو لم يكن سائر الناسخين مؤلفين مهرة بمعنى أن يتمكنوا في كل الحالات من التعبير عن العاطفة التي يقصدونها؟ بمعنى أنه ماذا لو كان الناسخ سيئاً ولم يتمكن من التعبير عن العاطفة التي يريدها؟ لن يعني هذا سوى أن أفرادي لا تعبر دائماً عن عاطفة مقصودة من جانب الناسخ أو المستنسخين.

الفيلسوف: إذاً، لا بد أنك تعبر عن عواطف لأنك تثير عواطف ما لدى المستمع المتلقي.

الموسيقى: وهل تراني أحرك كل المستمعين بإثارتي لعواطف داخلهم؟ ألا تلاحظ أن بعض بني جنسك لا يتحركون عند سماعي ولا تثار أي عواطف داخلهم؟

الفيلسوف: إذاً، أنت تحرك فينا العواطف لأن بني جنسي قد تواضعوا على فهم معان معينة متى سمعوا عناصر محددة لإحدى معزوفاتك. فقد تواضعنا على أنغام معينة تعني الحزن وأخرى تعني الخوف، ودقات طبول معينة تعني الحرب، والموسيقى الجنائزية تعني الحزن..وهكذا.

الموسيقى: ربما، لا أدري.

الفيلسوف: يظل الكثيرون يطلقون عليك أنك "لغة العواطف"، وهو ما يدل بداية على أنك تنقل وتعبر عن العواطف.

الموسيقى: ربما ما جعل بني جنسك ينعتونني بأني "لغة" لديها القدرة على التعبير هو الشبه الذي بيني وبين لغة القراءة والكتابة التي تتحدثونها وتكتبونها، فكلانا له بنية محددة ومعان يمكن إنتاجها من عدد محدود من العلامات أو الرموز ولكن يظل هناك اختلاف كبير بيننا من حيث البنية والمعنى. وحتى لو كان لدي القدرة على التعبير عن العواطف – مثلي في ذلك مثل لغة القراءة والكتابة"- فلن يكفي هذا لتفسير قدرتي التعبيرية. فالعبارة "أنا حزين" تعبير عن عاطفة ما ولكنها لا تنقل المعنى الذي تنقله صورة وجه حزين. إن علاقتيبالعاطفة أقرب إلى علاقة الحزن بالوجه الحزين منه لعبارة "أنا حزين". ربما بهذا المعنى لست كلغة القراءة أو الكتابة.

الفيلسوف:  إن ما يدعونا أيضاً للقول أنك تعبير عن العواطف هو التشابه الموجود بينك وبين بني البشر في الطبيعة الديناميكية في التعبير. فالبشر أيضاً يعبرون عن العواطف بحركات مثل حركات الوجه أو بالصوت.

الموسيقى: ولكن ما هي طبيعة ومدى التشابه المفروض أن يوجد بيني وبين تعبيراتكم السلوكية بني البشر حتى يقال أني أشبه العاطفة البشرية؟ فكما يقال فإن هناك قدراً من التشابه بين أي شيئين. على هذا النحو يمكن أن نجد بعض التشابه بين نسخي الجنائزية وتعبير الفرح، أو بين فنجان القهوة وتعبير الحزن. يجب أن تفسر لي لماذا تعبر النسخ الجنائزية- مثلاً- عن الحزن وليس الفرح.

الفيلسوف: يمكن القول أن النسخ الجنائزية جاهزة لسماعها كتعبير عن الحزن. فأنت تشبه العاطفة لأي مدى ممكن من التشابه وبأي طريقة كانت.

الموسيقى: ولكن ما رأيك أن بعض محترفي سماعي ينكرون أني تعبير عن العواطف؟

الفيلسوف: إذاً، فلنستبعد رأي هؤلاء ببساطة. لأن الأغلبية تقبل أنك تعبير عن العواطف.

الموسيقى: ولماذا لا تقول أن هؤلاء القلة من محترفي السماع-الذين ينكرون القول أني تعبير عن العواطف- على صواب؟ ألا تستمع لحجتهم أولاً؟

الفيلسوف: ماذا يقولون؟ ما هي حجتهم؟

الموسيقى: حجتهم، يا صديقي الفيلسوف، أن المستمعين يخلطون بين خصائصي الجمالية والصوتية والحركية وبين العواطف، فالجمال الذي يصل إلى أسماعهم عند سماعي يجعلهم يعتقدون أني تعبير عن عواطف.

الفيلسوف: من الصعب قبول هذه الحجة لأنه من الصعب القول أن جميع المستمعين يرتكبون هذا الخطأ. إن أغلبية مستمعيك يستمعون لأغلبية نسخك كتعبير عن العواطف.

الموسيقى: أنتم أيها الفلاسفة من الصعب دحض حججكم. لنفترض الآن أني سلمت معكم أن أفرادي يعبرون عن عواطفكم، لماذا تستجيبون لسماع أفرادي استجابات عاطفية؟ أليست العواطف "قصدية" كما تقولون؟ أي أنها تظهر كرد فعل لموضوع موجود؟ أين الشيء "المخيف" الذي ترونه حتى تصفوا إحدى معزوفاتي بأنها مخيفة؟ وأين الشىء "الحزين" الذي يبرر لكم القول أن هذه القطعة المستنسخة "حزينة"؟

الفيلسوف: يا صديقي، بداية، ليست كل العواطف "قصدية"، فكما يمكنني أن أفزع من صوت الرعد أو صوت بالون انفجر لأنه ملىء بالهواء أكثر من اللازم، يمكنني بالمثل أن أفزع من طرقة قوية علىإحدى الطبول، أو إحدى آلات استنساخك. كذلك هناك ما يعرف ب"العدوى العاطفية"، فإذا تواجدت ضمن مجموعة حزينة، فإن حزنهم ينتقل إلىّ. هذا الحزن ليس حزناً عن "شىء معين" أو عن "الشىء" الذي سبب حزن هذه المجموعة من الناس. بالمثل، متى كانت هناك معزوفة تعطي تعبير الحزن تصل لمسامعي، فإن العدوى تنتقل إليّ دون ضرورة أن يكون هناك موضوع يتجه حزني له. ثم إننا نتعاطف مع شخصيات الرواية المتخيلة، فنحزن لحزنها ونفرح لفرحها. لماذا لا نستجيب عاطفياً أيضاً مع أفرادك؟ 

الموسيقى: لدي سؤال آخر: على افتراض تسليمي أني أعبر عن عواطف، لماذا تنشدون النسخ التي تثير بداخلكم عواطف "سلبية" كالحزن مثلاً؟ ألا ينشد الإنسان الاستمتاع ومشاعر الفرح؟ ما وجه الاستمتاع بهذا الهم والغم؟

الفيلسوف: تعبيرات نسخك المسؤولة عن هذه المشاعر السلبية في ذاتها تعبيرات جميلة، فالتقدير الجمالي في ذاته له فائدة. أضف إلى هذا أنه في إثارة التعبيرات مثل الحزن لدى المستمع علاجاً له، تصفية وتنقية لنفسه، خاصة متى أوصلته لحد البكاء. فهو يشبه العلاج النفسي. ثم من قال لك أن الحزن في ذاته عاطفة سلبية؟ إن الموقف الذي سبب الحزن هو الموقف السلبي وليست عاطفة الحزن.   

الموسيقى: لقد أتعبتني أيها الفيلسوف.  لذلك أريد أن أغادر. ولكن قبل أن أغادرك، أريد أن أسألك سؤالاً: هل كل الفلاسفة يتفقون معك في رؤيتك لي على هذا النحو؟

الفيلسوف: بالطبع لا. لا وجود لكلمة نهائية، لا في مجال العلم ولا في مجال الفلسفة. من المؤكد أن هناك فلاسفة آخرين لهم آراء مختلفة، ولكن ما نتفق عليه أنه يجب أن نجعلك جزءاً أساسياً ضرورياً من التعليم منذ الطفولة الباكرة، لماذا؟ لأن دوام الاستماع إلى الموسيقى من شأنه أن يترك في نفس المستمع أجمل خصائصك ألا وهو التناسب المحكم بين الأصوات، الذي لولاه لتحولت الأنغام إلى خليط صوتي تنفر منه الآذان. ففي تعلم أبنائنا التذوق الفني لمعزوفاتك- كما يقول أستاذنا زكي نجيب محمود_ ضمان لنشأة تُدرك ما فيها من تعاون بين أجزائها يوحدها ويحفظ النسب الصحيحة بينها، عندئذ يقل الجنوح إلى الفوضى التي ليست سوى امتناع الكيان الموحد واضطراب النسب بين الأجزاء.

ملحوظة: بعض الأفكار المصاغة في الحوار أفكار فلسفية موجودة بالفعل. راجع: philosophy of music (Stanford Encyclopedia of Philosophy)https://plato.stanford.edu/entries/music/

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة