الثلاثاء 14 مايو 2024

«شاهد قبل الحذف».. فصلًا جديدًا من كتاب «السيبراني»

فن26-10-2020 | 12:06

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "السيبراني" للكاتب "أكرم القصاص" والذي جاء تحت عنوان "شاهد قبل الحذف.. واكذب «سري للغاية»"

قرية صغيرة.. سكان معزولون

دخلت شبكة الإنترنت فأنت في عالم افتراضي له قوانين تختلف كثيرا عن عالمنا الطبيعي، من حيث التلقي والتفاعل، والخصوصية، أنت حر جدا، لكنك لست حرا تماما، وهي مفارقة يعرفها كل من يغوص أكثر ويتعرف على هذا العالم.. خلال سنوات تطورت الشبكة لتصبح أكثر تعقيدا وتشابكا، العالم «قرية صغيرة» تضم أناسا معزولين، يصنعون أخبارا وأرقاما ومعلومات، والحقائق والأكاذيب، والآراء انعكاس لكل هذا العالم بتناقضاته، وهي تناقضات ليست مقصورة علينا، لكنها عملة رائجة.

شهدنا في الانتخابات الأمريكية 2016 الديمقراطيين وهيلاري كلينتون اتهموا «فيس بوك» بأنه منحاز لترامب، وأن كثيرا من الأخبار المزيفة والعناوين الخداعة، أثرت على الناخبين.. المفارقة أن حملة ترامب اتهمت جوجل بالتلاعب لحساب هيلاري كلينتون، وتدخل في قوائم البحث ليظهر الصفات الجيدة ويستبعد الصفات السيئة.. رد مارك زوكربيرج أن 5% فقط نسبة الكذب، خبراء عالم التواصل قالوا إن نسبة الكذب لا تقل عن 50%، وأن «فيس بوك» يروج الأخبار الأكثر جاذبية، مهما كانت كاذبة.

بينما يرى الباحث «هوسانى أكروكاسى» أن «فيس بوك» ينحاز، ويضع الأخبار المتشابهة من بين الأخبار المزيفة، حيث يتم نقلها من مواقع وهمية، وإعادة بثها ضمن ما أسميه «توثيق الأكاذيب».. ويكشف هوساني قصصا لمرضى وضحايا وهميين حصلوا على تبرعات وتعاطف واتضح أنهم نصابون، وهي ظاهرة تكررت عندنا، وآخرها الطبيبة المريضة التي تعاطف معها الجمهور، واتضح أنها بحساب وهمي، وهو نفس ما يجري في سوق افتراضي فيه من يبيع أدوية مضروبة وغير مرخصة ولا مسجلة.

خلاصة الأمر أن هذه الظواهر لا تخصنا وحدنا، وعصر الاتصالات يقدم الكثير من الميزات، والكثير من العيوب، ونحن في فترة انتقالية لا يمكن توقع شكلها، لكن المؤكد أن كل شخص يفترض أن يمتلك القدرة على التفكير بعيدا عن تأثيرات الآخرين ممن يصنعون له آراءه سواء ليشترى بضاعة ما فاسدة أو ليبحث عن آراء قائمة على معلومات مزيفة.

وهناك بعض الجهات أصبحت تتفنن في نشر أخبار عادية ومنحها صفات الأسرار، لأن فكرة الحصرية والسرية تمنح العادي صفة الأهمية، وهي طريقة لتوصيل المعلومات والأخبار، غالبا ما تكون مصنوعة لشد الانتباه، بينما الحقيقة غالبا لا تكون كافية، فيلجأ خبراء التسويق والدعاية لأساليب التشويق والتسخين، ليمنحوا العادي صفة الخطورة، فترى «شاهد قبل الحذف»، واكذب «سري للغاية».

 

كيف تبني الدعاية أساطير وتهدمها!

وإذا كنا نتحدث عن تحولات أدوات الإعلام والتسويق، ومواقع التواصل في فرض وجهات نظر، وكون المواطن العالمي يخضع طوال الوقت لمجموعات من الصور والفيديوهات والتقارير تشكل تصوراته ومواقفه.. وحتى الاستقطاب والتعصب الذي نراه وتبادل الاتهامات والشتائم فيما يتعلق بقضايانا السياسية، وغياب القدرة على الحوارهي نتاج لتغيرات في أشكال وأنواع السلطة، وارتفاع درجات التأثيربشكل يتجاوز بمراحل ما كان متاحا خلال عقود سابقة، بل يمكن لمن يستطيع امتلاك أدوات التأثير أن يفرض تصوراته ويمهد لحرب هنا أو سلام هناك فقط بتوظيف الصور.

لقد رأينا كيف تم غزو العراق بالصور، وإشعال الحرب في سوريا باستخدام الصورة والفيديوهات، التي صنعت حالة تعاطف افتراضية أكثر منها حقيقية.

ويشير المعلق «بال شييف» كيف تم تلميع بعض فصائل المقاتلين في أوروبا خلال حالة الحشد لإرسال مقاتلين، وكان هذا بمناسبة اكتشاف عودة شباب أوروبا من سوريا لبلادهم، حيث مثلوا تهديدا إرهابيا، فقد كانت الصحف والفضائيات تنشر قصصا وبطولات لشباب الجهاد في سوريا مع الجيش الحر، لكن نفس هؤلاء الشباب تحولوا بنفس صورهم إلى إرهابيين بعد تفجيرات فرنسا وبروكسل ولسان حال المعلقين «نحن صنعنا أسطورتهم».

الأمر يخضع لنظريات التسويق لدرجة تشكيل مواقف خادعة وأحيانا تعاطف مزيف..على سبيل المثال فإن دونالد ترامب، عندما كان مرشحا جمهوريا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان  يحظى بتأييد ويصعد في استطلاعات الرأي الأمريكية، بينما ترى النخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية أنه خطر على الديمقراطية، لدرجة أن العالمين إريك ماسكين وأمرتيا سين، الأستاذين بهارفارد والحاصلين على نوبل في الاقتصاد، كتبا مقالا في «نيويورك تايمز» اعتبرا فيه تقدم دونالد ترامب في استطلاعات الرأي أمرًا مزعجًا.

ترامب كان يتقدم في الانتخابات التمهيدية، في ظل تفتت الأصوات الباقية بين منافسيه تيد كروز وجون كاسيك، واندلعت احتجاجات عنيفة خلال الحشود الانتخابية لدونالد ترامب بولاية كاليفورنيا، وصلت إلى إلقاء الحجارة على مؤيدي ترامب وتحطيم السيارات والاعتداء على الشرطة التي اضطرت لاعتقال عدد منهم.

كانت النخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية ترى أن ترامب لا يحظى بشعبية وأنه فقط قادر على توظيف أدوات التأثير في الرأي العام على مواقع التواصل وفي القنوات الفضائية، بصفته مليارديرا يوظف المال والإعلام، وبعض المحللين أبدى تخوفًا من فوزه وطالب بتعديل النظام الانتخابي بما يمنع فوز من اعتبرهم متطرفين، وشكوا من قدرة الإعلام على صناعة الصور والنجوم.

ومع الوقت فاز ترامب على العكس من توقعات ومساعي النخبة واستطلاعات الإعلام المنحاز للحزب الديمقراطى.. وهذا يعيدنا إلى النقطة المهمة التي تتعلق بأسرار تشكيل الرأي العام تجاه القضايا، بل تغيير وجهات النظر طبقا لضرورات السياسة والاقتصاد في العالم، وكون الانحيازات واردة فى الإعلام الأمريكي لدرجة أنها قد لا تعبر بالفعل عن حقيقة توجهات الجمهور.

 

القانون لا يحمي «الافتراضيين»

«أصبحنا نشتري الشمس في زجاجات، والهواء في معلبات، أمام مئات القنوات الفضائية والمواقع التي تبث الأخبار والأحداث والأفلام والشائعات»، هذا ما كتبته يوما في «عولم خانة»، قبل سنوات، وأصبح واقعا، كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، يتعرض المواطن لأكبر عمليات خداع بصري وعقلى، وهناك إحصائيات تشير إلى أن 50% ممن يعلنون آراءهم افتراضيا، يتأثرون بآراء آخرين لا يعرفونهم.

مؤخرا أحال جهاز حماية المستهلك موقعا شهيرا في التسويق الإلكتروني للنيابة، بتهمة الخداع، بعد أن روج لأدوية ومقويات وفيتامينات، ومخسسات ومسمنات، واكتشف الزبائن أنهم اشتروا الوهم ودفعوا فلوسهم، ومن قبل أحال الجهاز أكثر من 30 قناة فضائية للنيابة، بتهمة ترويج أدوية ومنتجات وهمية.

هذه المواقع والقنوات تمثل نسبة ضئيلة من تجارة الوهم الافتراضي، لا تكتفى بتسويق المفروشات، والحلل والطاسات، والكمبيوتر والكاميرات، لكنها تبيع أدوية على أنها مقويات، بعمليات غسيل مخ ممنهجة وتوجيهات ينظمها محترفون، يفبركون استطلاعات رأي وأبحاثًا وينسبونها لجهات علمية، يعرفون ألا أحد سوف يبحث عنها ليتأكد من وجودها.

تبدأ هذه الدعايات في صورة تقارير تنشر من حسابات ذات مظهر طبي رصين يظهر من يزعم أنه طبيب يشرح فوائد وتركيبة الدواء بأنه مستخرج من الثوم البري والعسل الجبلي، والأعشاب القطبية، ومن أعماق المحيطات والأنهار وجبال «هوهوكو» في جنوب شرق الصين أو من بئر إشعاعي في جزيرة مهجورة في شمال القطب الافتراضي، وهؤلاء يعرفون أن نسبة لا بأس بها مستعدة لتصديق «أي كلام».

يبدأ طاقم مساعد في الدخول للسؤال عن السعر وطريقة الحصول على المنتج، مع مدح، وأن فلان أحضره واستفاد منه.. يتصور المستخدم المضحوك عليه أنها عفوية وهم كومبارس يلعبون دور زبائن عابرين، ولو كان الزبون حسن الحظ، فهذه المنتجات مجرد خلاصات أعشاب، لكنها قد تكون ضارة بالفعل.

وفى أوروبا وأمريكا دعاوى رفعها مستهلكون اشتروا أدوية روجت أنها تحتوي على خلاصات الثوم والعسل والفيتامينات لإطالة الشعر، من اشتروها أصيبوا بحروق وتشوهات جلدية، واتضح أن الشركة تسوق من حسابات وهمية، ليس لها عنوان، وفشلت الدعاوى، واتضح أن نسبة لا بأس بها من الأخبار التي تتعلق بأدوية أو منتجات طبية، ليست أخبارا علمية، وإن كانت منسوبة لمراكز أبحاث ذات أسماء رنانة، وإنما هي مجرد مواقع تجارية، وإعلانات مدفوعة، والأدوية تروج على الشبكة، وتوصل للمنازل، ليست مسجلة في أي دولة، وممنوعة حتى في «الماركت» المصرح لها ببيع الفيتامينات والمكملات.

يعني.. عملية نصب افتراضية محسوبة، مثل «دهان الهوا دوكو».. والمدهش ليس في الإعلان لكن في أن هناك من يشتري، والقانون لا يحمي المغفلين الافتراضيين.

 

 الفبركة.. والاستعداد لتصديق الفبركة

فى شهر إبريل 2016 ظهر فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، منسوب للرئيس الإيطالي يتحدث أمام البرلمان الإيطالي، مع شرح باللغة العربية يؤكد أن الرئيس الإيطالي يطالب البرلمان بقطع العلاقات مع مصر على خلفية قضية ريجيني.. وانتشر الفيديو وأعاد مستخدمون نشره باعتباره حقيقيا، ومع الوقت اتضح أن الفيديو للرئيس الإيطالي بالفعل يتحدث أمام البرلمان، لكنه كان يتحدث في شأن يتعلق بالسياسة الداخلية وليس له علاقة بموضوع ريجيني.

وبدا السؤال: لماذا يتفرغ شخص ويقتطع من وقته وجهده الكثير ليجلس ويفبرك فيديو يقول فيه إن الرئيس الإيطالي قرر قطع العلاقات مع مصر بسبب أزمة ريجيني؟.. الفيديو بالفعل للرئيس الإيطالي يلقي كلمة أمام البرلمان بمناسبة انتخابه أو ما شابه، لكن تم عمل دبلجة باللغة العربية تقول إن الرئيس الإيطالى يقطع العلاقات.. والفيديو مثل كثير من الفيديوهات والأخبار المفبركة تبدو نتاج عمل مؤسسة ما، وبالرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى مزيفًا، هناك من يصدقه وينشره بشكل واسع.. هناك فيديوهات وتقارير يتم تصنيعها بهدف ترتيب طريقة في التفكير وطبعا تستغل حالة من التوتر والغضب العام لتضيف مزيدا من الزيت على النار.

لو كان الأمر لعب عيال وشقاوة فلن يهتم هذا الشخص أو الجهة بفبركة موضوع طويل عريض يتعلق بقضية مهمة ومطروحة على الساحة ومثار جدل وصراع.. ثم إن توقيت إعادة نشر الفيديو جاء بعد هدوء أعقب توترات لقاء الوفد المصري بالإيطالي الذي انتهى بلا نتيجة وتم على أثره سحب السفير الإيطالي، وتصريحات ساخنة لكنها لم تنته إلى قطع للعلاقات، ولهذا بدا الفيديو المنسوب للرئيس الإيطالي نوعا من التسخين.. تماما مثل العقل الذي فكر وركز ورتب لإثارة قضية مواطن فرنسي مات قبل 3 سنوات في حجز أحد الأقسام وتم القبض على الجناة وإحالتهم للمحاكمة، وتم التفتيش وإحياء القضية وإعادتها وتلميعها أثناء زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وهي مصادفة تضاف إلى العديد من المصادفات.

وبعيدًا عن نظريات المؤامرة، فإن بعض العقل يمكن أن يصل إلى نتائج مهمة.. هذا بالنسبة للشخص الطبيعي، ولا مانع من أن ينتقد هذا المواطن كل ما يراه أو يرى أننا لسنا في وضع مثالي، وفى نفس الوقت يطرح بعض الأسئلة المشروعة باعتبار أن بعض الشك ممكن ومطلوب، ولا يفترض أن يظل محليا فقط، وإدانة لنا، وشعورًا بالدونية تجاه الأجنبي.

هناك حالة من التشابك والتداخل، وخيط رفيع دائما يفصل بين الانتقاد وبين تبني أفكار وخطوات وتقارير ملعوب فيها، الواقع لدينا مليء بالأحداث والأخطاء التي تستحق الانتقاد، لكن البعض يتحول مع شعور بالدونية إلى مصدق ومروج لكل ما ينشره «الخواجة» على أنه حق لا يأتيه الباطل من أي جهة، مع أن التجارب والتواريخ تعطينا نماذج عن ازدواجية وتلاعب، بل وغض طرف عن انتهاكات مقابل مصالح، ولدينا أمريكا ومواقفها التي تطابق مصالحها.. لسنا في أوضاع مثالية، لكن التفكير والسؤال وبعض الشك مطلوب.

 

«المغفل الافتراضي».. ضحايا في عالم الأخبار

مثلما حدث مع الفيديو المفبرك المنسوب للرئيس الإيطالي، هناك تقارير يومية مفبركة، بعضها في إطار التلاعب أو الشقاوة أو التسويق، من خلال إسباغ نوع من التشويق والسرية، كتوابل.. ما نقصده الأخبار المصنوعة بقصد وتسبب بالفعل غضبًا أو ارتباكًا أو تضاعف الغضب في قضية ما.. وهي أخبار يمكن للشخص الطبيعي اكتشافها لو امتلك القدرة على طرح بعض الأسئلة، لكنها تمر لغياب السؤال أو رغبة البعض في التصديق.

ويُبدي البعض دهشته من سهولة وقوع الناس ضحايا للأخبار المضروبة والمفبركة، بينما هؤلاء أنفسهم يشاركون في ترويجها، واستعمالها، خاصة مع سهولة بث فيديوهات وتقارير على مواقع مجهولة، ينشرها بعض المواقع الإخبارية ويمنحها شرعية، فيما يعرف بالأخبار المغسولة.

البعض يعرف أن مثل هذه التقارير مزيفة لكنه يتوافق مع ما يريده، فيصدقه ويبني عليه تحليلات، وعندما يكتشف أنه خاطئ، يسعى للتلاعب أو لنفي النفي.. وضربنا مثلا بفيديو الرئيس الإيطالي.. وبعد مقتل بائع شاي على يد أمين شرطة، انتشرت صورة لتصريح دفن للقتيل خالٍ من سبب الوفاة، وبنى البعض تحليلات بأن وزارة الصحة تتواطأ مع الداخلية، ولم يسأل من روجوا المستند عن كون تقرير الطب الشرعي يثبت القتل، وبناء عليه وجهت النيابة اتهامها لأمين الشرطة بالقتل العمد.. وبالرغم من أن تصريح الدفن ليس مستند تحقيق وجد مساحات للانتشار.

الأمر نفسه تعلق بشائعات عن مواجهات عنيفة مع المتظاهرين يوم الاثنين.. الخبر بالرغم من ضعفه وغياب مصدره، أصبح مجالا لتحاليل، وبدأت ردود الفعل والتحليلات، وبالرغم من تكذيب الشائعة رسميا، عاد المحللون ليتعاملوا مع النفي على أنه إثبات، ويتهمون الجهات العميقة بتسريب الخبر ونفيه كنوع من التلاعب.. ولا يجد هؤلاء مشكلة في تبني نظرية المؤامرة مع الجهات الأمنية، واستبعادها مع أي جهات أخرى.

وهذه الظاهرة ليست لدينا وحدنا، لكنها تتضخم مع غياب المعلومات وكوننا في حالة «مبالغ فيها» مع تضاعف أعداد المحللين وماكينات البرهنة.. واللافت أن عددا كبيرا من خبراء التحاليل يتفرغون لإطلاق نظريات عن الإعلام والمهنية، يركنون نظرياتهم جانبا وهم يستهلكون كميات من الأخبار والتقارير المفبركة، مادامت تتماشى مع رغباتهم أو مصالحهم. وهؤلاء يقدسون أي تقرير أجنبي مهما بدا خاليا من المصادر أو المنطق، يسارعون بالتسفيه والتلاعب في معاني وعناوين التقارير المحلية، ويرتكبون الأخطاء مادامت تتماشى مع رغباتهم.

الإعلام والتأثير في الرأي العام عملية معقدة وصعبة، وخليط من علم وتخابر وتلاعب ويحتاج إلى درجات من الوعي قد لا تتوفر للكثيرين، وهو ما يمكن تسميته «التغفيل الافتراضي»، وهو شعار الكثير من شركات الإعلان والعلاقات العامة، التي تمارس الحروب المعلوماتية، وترى أن الرهان ليس على عملاء، لكن على المغفل الإلكتروني الذي يندفع بالحماس ويفتقد إلى العمق ويريد أن يحتل مساحة من الجدل العام.

 

مفعول بهم في زمن «النت»

قد يصاب البعض بالمفاجأة إذا عرف أن 5% فقط، يقودون مواقع التواصل الاجتماعي ويطرحون أفكارا جديدة، و95%، يعيدون نشر أو ترديد ما ينشره القادة ويمشون وراءه، ويعجبون به.. وحتى من بين الخمسة وتسعين بالمائة، لا يوجد أكثر من 20% فقط يتخذون مواقف بناء على قراءة الموضوع أو مشاهدة الفيديو، والباقي يحكم من العنوان، أي أنه يسير خلف الخمسة في المائة.

هذه خلاصة استطلاعات رأي وأبحاث تناقش كيفية تشكيل الوعي الافتراضي، وهي دراسات لا تشغل كثيرين من خبراء ينشغلون بتنظيرات وهمية عن المهنية والأخبار وتطوير الإعلام، ويتجاهلون القضية الرئيسية وهي أن التحكم في الرأي لم يعد فقط من أدوات الإعلام التقليدية، وبعض المنشغلين بنظريات الإعلام هم أنفسهم يستهلكون ويرددون التقارير والعناوين، بل وكثيرا ما يكونون ضحايا للتقارير المزيفة التي أصبحت طريقا مهما لصراعات وحروب باردة تتجاوز قدرات الفرد العالمي نفسه، وبعضهم ضحايا رغبتهم في الشهرة، والظهور كزعماء في وضع يصعب التمييز فيه بين الفاعل والمفعول به.

ولهذا، وكوننا أمام فريقين كل منهما يكفر ويخوّن الآخر، لا نتحدث عن أغلبية، لكن عن أقطاب تتصدر الصورة، تطلق «بوست»، يصل إلى أحد النجوم، وخلفه عشرات ومئات يعيدون النشر؛ ثقة في الشهرة وليس في الكلام، وبالتالي فإن تحول عدد من المعتدلين إلى شتامين، يتهمون بعضهم وغيرهم، يصورهم أنهم زعماء وفاعلون وقادة، بينما هم مجرد قنوات توصيل، يتم الرهان على عصبيتهم وغياب أي ملكات نقدية، من خلال دراسة واضحة لمطالب المستخدم ومشاعره وما يحب وما يكره.

وخلال الفترات الماضية كان هناك بعض ممن اشتكوا من أن الواحد منهم يبحث عن معلومة أو شخص أو موضوع، ويفتح صفحة فيس بوك فيجد بوستات وعناوين تتناول الموضوع، حتى لو كان صنع كيكة أو فائدة لمشروب أو طعام أو شخصية سياسية، ورصد البوستات المتصلة بالموضوع والتي تسهم في مضاعفة الغضب، خاصة وهناك إمكانية نشر موضوعات مزيفة باعتبار أن «تشيير الكفر ليس كفرا».. والبعض اندهش من أن «فيس بوك» يعرف مزاجه وما يريده، بينما كل هذا واضح من نوعية اللايكات التي تحدد اتجاهات الشخص وما يحبه من أفلام أو روايات أو سياسة أو فكاهة.

وكلما كان المواطن مندمجا في نزاعات «البوستات الأصلية والمضادة» كان جزءًا من زوابع تأخذ شكل الحروب، حيث الشتائم المتبادلة التي لا تصنع رأيا ولا وعيا.. من يتفق يردد و«يشير» وراء زعمائه، ومن يختلف يشتم، والنتيجة مجرد تفريغ غضب أو شماعة مفعول بهم، ضمن مسرح عرائس لا يظهر فيه أحد.

 

شاهد عيان.. ماشافش حاجة

في كل حادث هناك شهود يفترض أنهم تواجدوا ورأى كل منهم من زاوية، ومن واقع الشهادات تتكون الصورة.. لكن بدلا من أن يسهم شهود العيان في تسهيل التحقيق إذا بهم يشاركون في التضليل، وبعضهم لم يشاهد شيئًا.

في كارثة استاد الدفاع الجوي، فبراير 2015 التي سقط فيها قتلى وجرحى من جمهور الزمالك، بسبب سوء التقدير وسوء الإدارة، بدءًا من قرارات السماح بإدخال الجماهير من دون استعدادات، وحتى ترك التذاكر في أيدي بعض المختلين ودعوة الجمهور من دون استعدادات أو سيناريوهات لتنظيم الدخول والخروج.

مع كل كارثة يظهر ما يسمى «شاهد عيان» تراه على فيس بوك وتويتر، أو برامج التوك شو، وتحت عنوان «شاهد عيان»، يحكي بطريقة العالم ويرفق بشهادته الافتراضية قَسَمًا على صدق ما يقوله.

في كارثة استاد الدفاع الجوي بعض هؤلاء الشهود يقدم شهادته لإدانة الجماهير المندفعة وتبرئة الأمن، بأن الأمن كان هادئًا وحاول التفاهم مع الجمهور المتزاحم، وأن الجمهور هو من بدأ حرق السيارات وإلقاء الشماريخ، ثم تظهر شهادة أخرى من شاهد عيان يشرح أنه كان حاضرا ويقدم قصة أخرى لتبرئة الجمهور وإدانة الأمن ويقول إنه بدأ بالهجوم، وإن الجمهور كان منظما ولم يقتحم ولم يحرق أو يضرب.

كثير من شهود العيان الافتراضيين ظهروا في كل حدث أو صدام وقدم كل منهم رؤية تخدم وجهة نظره، وغالبا بعضهم يكون لديه رأي يريد البرهنة عليه.. ونتذكر أثناء مظاهرات الميادين كان هناك شهود عيان اتضح أنهم لم يكونوا موجودين وبعضهم يقدم شهادته، وهو خارج البلاد أصلا.

والمثير أن شهود العيان هؤلاء لا يظهرون في التحقيقات ولا يذهبون للنيابة لكنهم متخصصون للتوك شو ومواقع التواصل، ولا يبدو ما إذا كان هؤلاء «الشهود» لديهم ميول استعراضية أو رغبة في الشهرة، أو أنهم موجهون، مع العلم أن بعض شهود العيان الافتراضيين مع كل حدث لم يكونوا هناك ولم يشاهدوا شيئا وأن ما يكتبونه إما أنه من اختراع خيالاتهم، وإما منقول وموجه.

لكن المؤكد أن «شهود العيان» المجهولين هؤلاء يضرون بحقوق الضحايا، ويشوشون على التحقيقات ويفسدون الأدلة عن عمد، أو جهل.

المفارقة الكبرى أنه في حال الاستقطاب، يستعمل كل فريق شهود العيان بما يخدم وجهة نظره، بالتهويل أو التهوين، وليس رغبة في الدفاع أو إبداء الحزن.. فقط للمزايدة أو النفاق.

والضحية هنا هي الحقيقة وحقوق القتلى والجرحى ممن لا يضعهم شهود العيان في الاعتبار، لأنهم لم يشاهدوا، ولم ينشغلوا بما شاهدوه، وينتقلون لموضوع آخر.

 

بكار والرافال.. وعويس في السويس

ومن أمثلة الفتْي غير التخصصي في كل الشؤون، إذا اقتنت مصر مثلا صفقة طائرات فرنسية نكتشف كمية هائلة من خبراء الطيران العسكري، وهو ما جرى مع صفقة الطائرات الرافال الفرنسية التي حصلت عليها مصر في صيف 2015، فجأة ظهر خبراء الطيران من كل ركن، لدرجة أن ناشطا ممن أنتجتهم مرحلة الاستنشاط السياسي وهو نادر بكار، وهو شاب سلفى ظهر ضمن هوجة التوالد الثوري وانضم لحزب النور الذي تخلى عن رفضه العقائدي للديمقراطية والانتخابات وانضم إلى سباقات العمل السياسي، وتصاعد نادر إلى أن أصبح نجما فضائيا يظهر صباح مساء ليبدي آراءه السياسية والديمقراطية مبتسما طوال الوقت في اندهاش سياسي.

 نادر اختفى في بعثة إلى الولايات المتحدة ضمن بعثات اندلعت في أنحاء العالم واستقطبت نشطاء السياسة وخبراء الثورات ومفكري عصر ما بعد الربيع العربي.. نادر قبل اختفائه في بعثة لدراسة أكاديمية استعرض خبراته السياسية والطيرانية، مثل كثيرين من خبراء الطيران الفرنسي الذين تم الكشف عنهم في أعقاب الصفقة.

ربما كانت أهم ميزات صفقة «الرافال» أنها كشفت لنا عن كنز من خبراء الطيران الذين تخرجوا في أكبر جامعات بوستات فيس بوك وتويتر، وكل منهم قرأ على الأقل ثلاث دراسات مترجمة على صفحات الفريندز بتوعه.. بالطبع سخر منه البعض باعتبار أنه دارس للإدارة التي لاعلاقة لها بالطيران، مع أنه عضو عامل في حزب معتمد من جماعات النهي عن المنكر.

البعض ربط ربطا تعسفيا بين آراء بكار في علوم الطيران وحصوله على منحة لدراسة الإدارة بجامعة هارفارد، ربما أعلن رأيه السلبي في الطائرات الفرنسية على سبيل المجاملة، لأنه اعتاد أن يكيف أفكاره حسب الظروف واتجاه الرياح السياسية، وقد يكون أراد إثبات حسن نوايا، لتأكيد الحصول على المنحة بـ»الفتي» في شؤون الطيران، بمديح الـ«إف 16» الأمريكية على حساب الرافال الفرنسية.

نادر لم يكن وحده خبير الطيران، لكنه كان ضمن قوائم خبراء «القنوات والمجاري المائية» الذين يزحمون الفضاء الافتراضي والطبيعي والكوكبي، لا يفرقون بين قنوات التليفزيون والقنوات المائية، ولا بين الثورة والفسحة النيلية.

وهؤلاء أنتجوا تحليلات شديدة الاستعماق في قناة السويس الجديدة والقديمة، والقنوات المائية، فضلا عن خبراء الجدوى الاقتصادية والاستثمارية والعائد السياسي مضروبا في الجذر التربيعي لعبور السفن العملاقة والمتوسطة، مع احتمال سقوط أمطار! وهو كشف آخر فاحت روائحه في «بوستات» تغني عن أي دراسات.

نادر أو بكار نموذج لـ»أبوالعرّيف» التخصصى السيبراني، الذي ولد وترعرع على صفحات السوشيال ميديا، وليس له حاجة بالقراءة والاطلاع أو الحديث فيما يعرفه فقط، لكنه يُفتي في كل شيء استنادا إلى بوستات أنتجها خبراء الأعماق هنا وهناك في أمور الاقتصاد والسياسة والمال والأعشاب والكباري والطبخ والمن والسلوى.. وهي ظاهرة ولدت وترعرعت في هوجة المرحلة الانتقالية التي أنتجت خبراء في كل شيء من السياسة للخضراوات والفيتامينات، ومن الطائرات المدنية للعجلات البخارية، والقنوات المائية.. وهى ظاهرة تنتهي بعد استقرار الأحوال المالية للناشط، أو الحصول على وظيفة أو منحة أيهما أقرب.. ويبقى بكار خبيرا في الرافال، وعويس في «قناة السويس».

 

خبراء الفوسفات.. أكثر من الفوسفات

«دي مش دبانة.. دي قلوب مليانة».. هكذا يقول المثل، وهكذا جرى التعامل مع قضية الفوسفات التي وقعت في أبريل 2015 وتحولت إلى جدل سياسي، بلا بداية ولا نهاية.. وبين التهويل والتهوين تجاهل المتجادلون مصالح المواطنين، وحقهم في أن يطمئنوا على حياتهم ومائهم.

القصة أن صندلاً محملا بـ500 طن من خامات الفوسفات غرق في النيل.. الطبيعي أن يكون رد فعل الحكومة واضحًا.. لجنة من المتخصصين في الري والتعدين والكيمياء تعاين وتصدر بيانًا للرأي العام حول الأمر وتأثيره وأخطاره على مياه الشرب والنيل والزراعة والصحة.. ما جرى أنه تم الصمت ليوم كامل، وهو وقت طويل في زمن الأخبار والإنترنت والفضائيات، ومئات الخبراء في الفوسفات والطيران والري والحروب.

التأخر فتح الباب للفتاوى الكيماوية والمائية، وتحولت مواقع التواصل إلى منصات لكبار خبراء الفوسفات الغارق، وارتبطت الآراء بموقع كل طرف، وليس من الحدث، حتى الخبر نفسه تم تحويره بإعلان أن الصندل الغارق يحمل سمادًا ومواد كيماوية، وأننا أمام كارثة، وأن هناك تكتمًا وإخفاء مصحوبًا بحديث عن إغلاق محطات المياه كإجراء احترازي.

بعد يوم كامل خرجت الجهات الرسمية لتعلن أنه لا خطر، وأن الخام صخري وغير قابل للذوبان في الماء، وسيتم انتشاله لقيمته الاقتصادية، لكن بعض خبراء «التهويل» سارعوا بتبني الأسوأ، وأعلنوا أن الحكومة تتكتم وتكذب، مستندين إلى تراث من عدم الثقة يصعب كسره.

 المدهش أن بعض المتخصصين في الكيمياء والتعدين أيدوا البيان الرسمي، لكن بلا جدوى، وأصبحنا أمام فريقين، أحدهما يريد مصيبة ويشبع فيها لطم، وآخر يداه في ماء بارد.. وبين «المهولين» و«المهونين» غابت الحقيقة، ورأينا خلال ساعات مئات الخبراء في الفوسفات الغارق والتعدين والنيل والجيولوجيا، كل منهم يريد البرهنة على أنه على حق.

وأصبح من يتبنى رأي التقليل من الخطر يصبح منافقًا وسلطويًا، ومن يطالب بالحقيقة هو سوداوي حاقد، واضطر وزير الري لإعلان أنه مستعد لشرب الماء لتأكيد صلاحيته، وقال البعض إن النيل أساسًا ملوث بكل الصرف الصحي والصناعي والزراعي والكيماوي، و«ماجاتش على شوية فوسفات».

ولم يكن موضوع الفوسفات هو القضية، لكن الاستقطاب الذي كشف أن لدينا خبراء في الفوسفات أكثر من الفوسفات نفسه، وأن انقلاب الفوسفات في الماء ينتج جدلًا سياسيًا حادًا لا ينتهي، طبقًا للمثل «دا مش فوسفات.. دي قلوب مليانة»، وهو جدل لا يتوقف على الفوسفات، ويمتد لكل القضايا التي تؤكد فقدان القدرة على الحوار، وسط سعار المتعالمين والخبراء الفوسفاتيين والكيماويين والاجتماعيين والكهربائيين.

خبراء الكيمياء باللايك والريتويت

ومن الفوسفات الكيميائي إلى الفوسفات السياسي يبقى الفتْي، ويتوالى ظهور الخبراء الاستراتيجيين والتكتيكيين ممن يفهمون في كل القضايا من السدود والطاقة، إلى حرب اليمن ومياه الشرب، ومن مكافحة الإرهاب إلى مقاومة الآفات، وكل منهم يجلس على كنبته، يتابع «الريتويت» و«اللايكات»، ويعوم في بركة من العلم اليقيني اللدني الذي لايأتيه الباطل من أي مكان، من دون أن يفتح الله عليه بأي اقتراح عملي.

ولم يكن الفوسفات وحده هو الذي أيقظ عددا هائلا من الخبراء في التعدين والري وأماط اللثام عن ثروة مصرية من الخبراء، لكن كل قضية واجهناها، لاقت وتلاقي الكثير من كبار الخبراء الذين لا يفوتون الفرصة ليعلنوا رأيهم بكل تفصيل، وترى عجبًا على صفحات التواصل.

وحتى لا نظلم أنفسنا وغيرنا، هناك في كل مكان في العالم عدد محدود من الخبراء يظهرون في كل أزمة أو يحللون كل قضية، وترى الواحد مختصًّا يذاكر هذه القضية ويبحثها ويتحدث فيها ويشرح خفاياها مصحوبة بـ«أعتقد، وأظن، ويبدو»، لكن عندنا الواحد «يا دوب» يقرأ تقريرا مترجما يتماهى معه ويؤمن به ويتبناه، ويحذف اسم مؤلفه، ليبدو عالما خبيرا بشؤون «الفوسفات».

واكتشفنا مع أزمة انقلاب الفوسفات، أن لدينا خبراء لا حصر لهم في عالم الفوسفات، وعندما بدأت الأحداث في اليمن، ومن غير مقدمات، وجدنا عشرات «الخبراء» «يبغبغون» بتحاليل كلها تقوم على خبرات الستينيات، من دون مراعاة لفروق التوقيت أو الجغرافيا والتاريخ، ومع عاصفة الحزم حذروا من الدخول البري لليمن، ولما توقفت العاصفة الجوية وبدأت الدعاية للحوار خرج نفس المحذرين ليعلنوا عن هزائم أو انتصارات، ويحددون المنتصر والمهزوم، من دون أن يغادر الواحد منهم كنبته.

 ومن المدهش أن نفس خبراء الفوسفات، كانوا خبراء في اليمن، لا فرق عندهم بين تحليل أوضاع أو تحليل كيميائي، وهم أنفسهم يحللون سدود إثيوبيا وأحراش إفريقيا، وأسود آسيا، وثعالب القطب الشمالي.

والنتيجة أننا أمام محللين لكل شيء إلا أنفسهم، وتوك شو يغني ويرد على نفسه، نشطاء أصبحوا إعلاميين ومذيعين أصبحوا نشطاء.. والفوسفات السياسي أخطر من الكيماوي.

 

أولاد سلطح باشا السوشيالاتي.. تنظيرات المشمئنطين

في الدراما والأفلام والكاراكترات، بعضنا يتذكر الفنانة الراحلة الكبيرة إحسان شريف، يعرفها رواد سينما الأبيض والأسود، لأنها كانت أكثر فنانة مثلت دور عواجيز الفرح، «الحما أو القريبة التي لا يعجبها العجب» وتنتقد، وتعوج فمها يمينا ويسارا، وتمصمص شفتيها في اشمئناط دائم، وقرف مستمر من أهل العريس أو العروس، تلومهم وتبكتهم وتنغص عليهم حياتهم، وغالبًا ما تتسبب بالاشمئناط الدائم في فركشة أي جوازة.

كانت الفنانة إحسان شريف هي الممثل الفني للنكد والادعاء، وقد قامت بدور خالة جلال أو يوسف شعبان في فيلم «أم العروسة»، وأيضا زوجة يوسف وهبي في فيلم «إشاعة حب».. بنت سلطح باشا.

طبعًا كانت الفنانة تجيد دور النكد مع الادعاء، وكانت تؤدي دورها بإتقان، ونتذكرها في زمن التواصل والتنابذ والاشمئناط السوشيالي، هناك كثيرون على شبكات التواصل من فيس بوك وتويتر يلعبون دور إحسان شريف.. لا يعجبهم العجب، طوال الوقت مشمئنطون ومتضايقون، ناقمون ينصبون المحاكم وينشرون الاكتئاب، متصورين أنهم كلما كانوا أكثر نكدا وكآبة، كانوا أكثر عمقا وثورية.. ويمكن بسهولة توقع آراء هؤلاء في أي شيء، وقد انتشروا في زمن توالد الخبراء الاستراتيجيين والنشطاء المزايدين.

سيخرج واحد ليقول إن كل واحد حر في نفسه.. طبعًا هذا حقيقي لكن السادة المشمئنطين لا يتحدثون عن أنفسهم ولكنهم يبدون آراء عامة وينشرون اكتئابهم أينما حلوا.. وإذا كانت الفنانة إحسان شريف تؤدى دورًا في فيلم وتفعل ذلك بإخلاص، فإن صناع الضجيج وناشري الاكتئاب لا يرضون بما هو قائم ولا بما يأتي، ولن تجد لديهم سوى كميات من الطاقات السلبية التي لا تؤدي لتغيير ولا تمنح من يتابعهم أي نفحة أمل، وهم مجرد «ثراثرة» ينقلون ما يزدحم به الفضاء وينتقون الأكثر كآبة، وبعضهم مثلا سيصدع رأس الناس بادعاء الحديث عن الفساد بينما هو نفسه كتلة فساد، ومنهم من يعاير الشعب على اعتبار أنه الناطق باسم الناس لتبكيتهم ولومهم وتعقيدهم بكل اكتئاب، فإن لم يسمع الشعب لهم فهو شعب لا يستحقهم وفيه العبر.

يمتلك ورثة «إحسان شريف» من أولاد سلطح باشا السوشيالاتي كميات من العنف اللفظي والادعاء، يقضون كل أوقاتهم في توجيه الشتائم والانتقادات ونشر الاكتئاب، والنميمة، وفي السياسة يجيدون اللطم والبكائيات من دون القدرة على تقديم أي أفكار باستثناء صناعة اليأس وتغييب أي محاولة للتغيير.

ولو كان هؤلاء يتحدثون بشكل شخصي نيابة عن أنفسهم ما وجه لهم أحد لومًا، لكنهم يتحدثون باسم الناس ويستعملون كلمة الشعب كثيرًا، ثم إنهم كثيرًا ما يلومون الشعب ويعاتبونه ويقللون من قيمته لأنه لا يسمع كلامهم ولا يعول كثيرا على أفكارهم ونظرياتهم الكئيبة الناشئة من عالم أولاد سلطح باشا.

 

قنبلة نووية في النيل

في نفس سياق الخبير المستخبر كانت هذه القصة التي تشير بأصابع الانتباه إلى كيفية تحكم الرأي السياسي في الآراء العلمية التي تصبح مطية لكل من هب ودب.

قال لي وكله ثقة: إن الخامات التي انقلبت في النيل وقالوا إنها فوسفات ليست كذلك، لكنها يورانيوم مشع يلوثنا ويهدد حياتنا ويعيدنا لذكرى هيروشيما وناجازاكي في اليابان.. سألته: يورانيوم ومشع؟ يسمع من بقك ربنا.. فأبدى دهشة وتعامل معي على أني ممن يدافعون عن الحكومة.

فقلت له: إن اليورانيوم المشع يحتاج إلى عمليات متكررة ودقيقة وغالية جدا على مراحل، وحكيت له أن قصة إيران مع أمريكا والخلاف كله في امتلاك أدوات الطرد المركزي التي تمكن إيران من امتلاك نظائر اليورانيوم المشع، ويتم فصلها عن النظائر الأخرى، وأن هذه العملية ليست متاحة عندنا، فنحن مازلنا على باب الله، وإذا أقمنا المفاعل النووي غالبا سوف نستورد اليورانيوم أو الخامات المطلوبة لتشغيل المفاعل.

 لكن الرجل رأسه وألف سيف أن ما وقع في النيل يورانيوم ومشع.. ثم إن الدكتور ممدوح حمزة كتب على تويتر أن الذي وقع في النيل ليس فوسفات لكن يورانيوم.. صحيح أن الدكتور حمزة خبير هندسي لكنه خريج علمي، ويعرف الموضوع، وعاد ليصحح تأثير تويتاته، وقال إنه كان يخشى من شوائب يمكن أن تكون مشعة.

التوضيحات جاءت بعد أن تم نقل التويتات وبروزتها، وهي تويتات ليست في السياسة، لكنها في موضوع دقيق.

تزامن هذا مع حديث عن اختفاء القمر الصناعى «إيجيبت سات»، وخرج الباحث في ناسا عصام حجي بتصريحات يصف فيها اختفاء القمر بأنه فضيحة، لكن هيئة الاستشعار عن بعد قالت إن القمر أصابه عطل تقني وأصلحناه وعاد لمداره.. وبدا أن عصام حجي هو الآخر اعتمد على معلومات التواصل الاجتماعي وأطلق تصريحًا سياسيًّا، ولا مانع من أن يتعامل الدكتور عصام أو الدكتور ممدوح مع الأمر بالنقد مع مراعاة المعلومات حتى لا يثيروا خوف الناس من قنابل نووية في النيل، أو قمر صناعي تايه.

لكنها ظاهرة الناشط اللامع النجم المتعالم ممن يتم توظيفه لإنتاج تحليلات انتقامية في قناة أو لجنة.. ولا نحتاج إلى المبالغة والافتكاسات لنعرف أننا نعاني مشكلات إدارية وفنية و«تنابلة السلطان»، وهي قضايا يمكننا أن نختلف ونتفق حولها، ولا يحتاج المعارض لاختراع مشكلة أو النفخ ليثبت أن الأمر به خلل، أو نريد مصيبة ونشبع فيها لطمًا وافتكاسات.

 

«عالم ذرات».. اسأل قسم المفاعلات

كمواطن صالح استمعت وقرأت وتفرجت على الكثير من الأحاديث عن المفاعلات النووية، بمناسبة توقيع عقد مفاعل الضبعة مع روسيا في نوفمبر 2015.. ويسعدني أن أقول إن الكثيرين من زملائنا الأشاوس في «التوك شو» ودهاقنة الخبرة النووية لم يقولوا شيئًا، وإن الكثير من البوستات والملاحظات حول الموضوع، كالعادة، تمت بخفة، سواء خفة ظل أو خفة عقل.

عدد لا حصر له من المتكلمين، كل منهم عين نفسه «عالم ذرات» على طريقة سمير غانم وجورج سيدهم في مسرحية المتزوجون.. بوستات ومقالات بعناوين «الحقيقة الكاملة للمفاعل النووي.. الخلاصة.. كل ما تعرفه»، وهو فيروس أصاب الكثير من مذيعي «التوك شو» يظن كل منهم نفسه عالمًا في كل شيء، من الدين للذرة، ومن السياسة إلى عجين الفلاحة، ولا يتواضع أي منهم ويسأل ويترك للمختصين والعلماء أو الخبراء الإجابة، ونظن أن هذا هو دور الإعلام ليس فقط التأييد أو الرفض، وإنما طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، وليس اللت والعجن الذي يصيب بتلبك عقلي، سواء من يريد التطبيل، أو يعبر عن مصالح قطاع من المجتمع تتضارب مصالحه وحلفاؤه مع المشروع، أو يريد إبعاد تهمة التطبيل والظهور كفهّامة علّامة.

ولا يمكننا أن نمنع الناس من مناقشة أمر مهم مثل المفاعل النووي، ومن حقنا كمواطنين أن نعرف ما يُسمح به من معلومات من خلال علماء أو مختصين بدلا من ترك الأمر لهواة أو مدعين يهمهم فقط نسبة المشاهدة وملء الهواء، ويحتارون بين النفاق الفج الخالي والأسئلة العبيطة، وكل من هؤلاء يركب منصة يخطب فيها خطبة عصماء ويتعامل مع الجمهور على أنه يجلس متفرجًا أو تلميذًا، وربما على الجهات الرسمية أيضًا أن تغادر حالة الصمت، وتوفر ما يمكن السماح به من معلومات تتيح فكرة ما للرأى العام، بدلا من ترك الأمور للهواة والمدعين.

أقول هذا لأنني كنت طرفًا في حوار يكشف حجم التشوه الذي يصنعه الجهلاء وأرباع العارفين.. فقد سألني الرجل مبتسما: إيه رأيك في المفاعل النووي؟ قلت له: هذا سؤال يجيب عنه المختصون، وإن كنت واحدا ممن عاصروا مطالب كثيرة بأن ندخل النادي النووي.

رد: لكن بعض رجال الأعمال يقولون إنه يضيع فرص الاستثمار وتحويل المنطقة الغربية إلى منتجعات سياحية!.. قلت: أنت ترى.. السياحة نشاط غير مضمون ونحن نريد أن نتوسع في الزراعة والصناعات المرتبطة بها، وكل هذا يحتاج للطاقة، والنووي يوفرها، ولو كانت لدينا بدائل لاستعملناها، ومن يعترضون لم يُعرف عنهم أنهم استثمروا في هذه المنطقة، والساحل الشمالي أنشأته الدولة واستهلكت في إنشائه حقوق باقي مصر من المرافق، وهو يستخدم موسم الصيف فقط. قال: لكني سمعت الأستاذ فلان- ذكر اسم إعلامي توك شو- يقول إن العالم ينصرف عن النووي. قلت له: هم يتحدثون عن ضرورة رفع درجات الأمان، ثم إن الطاقة البترولية والغاز لا يكفيان، وما أعرفه أن دولاً تراجع أماكن المفاعلات لكن لم يتم إلغاؤها لأن بدائلها أيضًا ملوثة سواء النفط أو الفحم.

قال: لكني قرأت للأستاذ فلان على الفيس- يقصد بوك- يقول إننا نعاني الجهل والفساد ويمكن أن نفشل في إدارة المشروع النووي. قلت له: الجهل ليس قدرًا ولا تنس أننا نشغل السد العالي بشكل ناجح، ولو كنا خفنا ما أقدمنا على بناء السد، وكل مشروع له أخطاره، وخلينا نتكلم عن تحسين وتطوير التعليم. فقال لي: لكن الأستاذ فلان- ذكر اسم مذيع توك شو- يقول إننا لا نعرف تكلفة وثمن المفاعل النووي الروسي، ومن المهم أن نعرف. قلت له: يمكنك أن تدخل جوجل قسم المفاعلات وتسأل عن سعر المفاعلات الياباني والألماني والصيني والروسي، وسوف تجد الإجابة.

ابتسم الرجل، وابتسمت وأنا أفكر في أننا قد نصل لوقت ندخل فيه صيدناوي أو المولات لنجد لافتة إلى قسم المفاعلات والبياضات، وتساءلت عما إذا كان «مذيع التوك شو» يفتي في كل حاجة، فلماذا استعصى عليه أن يفتي في أسعار المفاعلات النووية؟!

 

النووي الفكاهي ونظرية الغلطانين

وكعادة السوشيال ميديا والحديث في كل موضوع، كان التعامل مع المفاعل النووي والطاقة النووية وعند الحديث عن المشروع النووي، نهاية ديسمبر 2015، رأينا من بين المؤيدين والمعارضين من يتحدث بثقة العالم ببواطن الأمور، كأنه خبير نووي، وبعضهم لم يسمع لا يعرف الفرق بين النووي والنوى، وقليلون تحدثوا تأييدا أو خوفا بطرح أسئلة، واللافت أنه وسط هذا رأينا من تناول القضية النووية بسخرية.. كلمات وبوستات وبرامج أسقطت ما نراه من إهمال وفساد في بعض المناطق على الأمر، خلاصته «إزاي نفكر في الطاقة النووية واحنا شايفين الإهمال والتأخر، وممكن بعض الفنيين أو الخبراء يتعاملون بطريقة الموظفين، وممكن تلاقى واحد بيعمل شاي في غرفة التخصيب أو ينزل السكينة، وموظف التشغيل ما جاش؟ إلى آخر السخرية.. وبعض السخرية هو خوف وانتقاد ورغبة في الأفضل، وبعضها قلق طبيعي، وبعضها نكد عام.. إحباط لدى من يفضلون النكد عن التفكير.

ما يهمنا ليس الموقف من المشروع النووي، إنما السؤال الذي يحتاج لإجابة: هل كل واحد من هؤلاء النقاد يقوم بعمله كما ينبغي بإخلاص ودقة ومهارة، وهل كل من يتحدثون عن نقص الخبرات وشيوع الواسطة والمحسوبية حصلوا على وظائفهم بمجهودهم؟ وهل كل الذين يسخرون من إهمال وفساد بعض القائمين على الأمور هم بالفعل مخلصون وأنقياء؟

بالفعل كثير منا يتحدثون كأن المهملين والفاسدين والفاشلين ناس من كواكب أخرى، أو «ناس تانية»، ولو تأملوا قليلا ربما وجدوا من بين أنفسهم أو أقاربهم أو جيرانهم ومعارفهم ورفقائهم على المقاهي مهملين وفاشلين وفاسدين وقمعيين.

نحن نتكلم غالبا عن أن «التانيين» هم من يرتكبون الأخطاء، والأفعال السلبية، ولا يفكر أي منا ولو للحظة أن يكون هو أحد مرتكبي هذه الأفعال، ويفضل «نحن والآخرون»، وليس نحن.

وفي طريق كل منا وحولنا ناس لا تؤدي عملها، وتختلق أعذارا للهروب من المسؤولية، وتحصل على أموال ليست من حقها، يتفننون ويبدعون في التزويغ والتهجيص والفساد، أو العمل بلا إتقان أو إخلاص، ومع هذا نراهم الأعلى صوتا والأكثر نشاطا في لعب دور الناقد للآخرين، وفساد وإهمال «التانيين»، وهم من ينطبق عليهم قول السيد المسيح «كيف ترى القشة في عين أخيك ولا ترى في عينك الخشبة؟».

بالطبع، فإن انتقاد الأخطاء وارد وواجب، في إطار التصحيح، لكن الأهم أن يصدر ممن يمكنهم ممارسة عملهم بما يرضي الله والقانون والضمير، وليس أسهل من الكلام عن العدالة من ظالمين، وعن النظافة من ملوثين، وعن الفساد من متورطين، وأحيانا يكون الفاسدون هم الأعلى صوتا في الحديث عن الفساد والإهمال.

ولو نظر هؤلاء لأنفسهم في المرآة لوجدوا أنهم يرتكبون نفس الأفعال التي ينتقدونها، شركاء في صفقات فساد صغيرة وكبيرة.. فقط لأن أحدا لا يراهم، وأن الذين يرتكبون كل الأخطاء من إهمال وفساد وفشل هم حولنا يعيشون بيننا، بينما نتحدث عن «الناس التانيين».

 

عن الحرائق وإخلاء القاهرة

في مايو 2016 اندلع حريق كبير في منطقة الرويعي التجارية المكتظة، بالعتبة، وأيضا بمنطقة الغورية بالحسين، وهي مناطق تكررت فيها الحرائق مرات على مدى عشرين عاما، بسبب الزحام وغياب اشتراطات الأمان، فضلا عن كونها منطقة بها بضائع وبويات وغيرها من مواد ملتهبة.

من بين التفسيرات التي ظهرت لحرائق الرويعي والغورية وبعض مناطق القاهرة، أن هذه الحرائق متعمدة لتنفيذ خطط نقل الأسواق الشعبية والصناعات اليدوية والمدابغ إلى أسواق أحدث لكنها أبعد قد يصعب الوصول إليها، المحافظة ردت بأن الطرق الجديدة والمترو تجعل هذه المناطق ضمن نطاق القاهرة، والعاصمة الإدارية الجديدة تضمن وجود طرق ومواصلات.

من سنوات محافظة القاهرة تعيد النظر في المحلات والمخازن غير المرخصة بالعتبة والباعة الجائلين بمنطقة العتبة، وقال بعضهم إن حي وسط القاهرة يضم العديد من المهن التي لها علاقة بالأقمشة والأخشاب، ونقلها إلى أماكن بديلة ضرورة، منعا لحدوث كارثة جديدة، الحديث عن 31 شياخة، في حي وسط تمثل كل منها مهنة، تشمل الأزهر وخان الخليلي والنحاسين والقماشين، والسروجية والخيامية والبطانية ودرب السعادة والمناصرة ودرب البرابرة والحمزاوى والغورية وعبدالعزيز والبياضية والعشماوي.. هناك تفكير في نقلها إلى القاهرة الجديدة، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المهن انقرضت أو تراجعت، وهي ضمن القاهرة الإسلامية الفاطمية والمملوكية، تضم مع المنازل الأسبلة الأثرية ومئات المحلات في شوارع أثرية ضيقة للغاية، يصعب السيطرة عليها في حالة حدوث حريق أو تلافي حدوثه، والهدف حماية السكان وأصحاب المحلات من أي كارثة محتملة، وإنقاذ المنطقة وإدخالها في الخريطة الأثرية.

هناك وجهتا نظر، الأولى أن ترك هذه المناطق في ظل انهيار البنية الأساسية يدمرها ويدمر الآثار، ويقضي على إمكانية تطويرها، ويساهم في انهيار الآثار، والرأي الآخر يعبر عن مخاوف من أن يكون الهدف النهائي إخلاء هذه المناطق وتحويلها إلى مولات واستثمارات، مع إشارة إلى مثلث ماسبيرو الذي يختلف عن شكل ومضمون القاهرة التاريخية.

وما زالت معركة نقل سوق روض الفرج الشهيرة.. عندما تم بناء سوق العبور ورفض التجار الانتقال ورفعوا دعاوى أمام مجلس الدولة وصدر لصالحهم حكم بالبقاء، ثم حكم آخر بالنقل، وحدث أن تم نقل سوق الجملة بالجيزة إلى 6 أكتوبر.

 هناك مقاومة للنقل إلى مكان جديد، وأصحاب المصانع والورش يرفضون لبعد المسافة، والرد أنهم مع الوقت يتأقلمون في مجتمعات جديدة، خاصة أن الأسواق التقليدية لم تعد بحكم الزمن صالحة، وهناك بالفعل تحذيرات كثيرة من خبراء العمارة والمحليات والدفاع المدني بخلو هذه الأسواق من أي إمكانات حضارية، فضلا عن زحف العشوائيات على الوكالات والمعالم الأثرية، في القاهرة التاريخية التي جرى إنفاق مليارات عليها، عادت بعضها تحت ضغط العشوائية، ولم يبق غير شارع المعز الذي كاد يضيع خلال السنوات الأخيرة، وهو نموذج يمكن تعميمه، وأصبحت مكتظة تحتاج إلى ترميم وإنقاذ من انهيار محتمل.. والهدف حماية وليس «بيزنيس».

حرائق خبراء «الأي كلام»

في كل أزمة وحدث يخرج خبراء يفتون في كل شيء، يتنقلون من حدث لآخر ويقدمون أعمق تفسيراتهم، لا فرق بين الفوسفات والطيران، أو القنوات والطرق والكباري والحرائق والمعامل الجنائية والطبية.. لا يمتلكون فضيلة التواضع، ولا ينتظرون إجابة، فقط نظريات بعضها يقوم على معلومات مفبركة.

خبراء «الأي كلام» يسيرون وراء أي قصة محبوكة ومؤامرة مسبوكة، وآخر نظرياتهم ما تمخضت عنه عقليات معملية جنائية فذة، بأن الحريق في محافظة القاهرة، صباح الخميس، التهم غرفة كانت تتضمن خرائط وأوراقا ووثائق عن مخططات القاهرة، وهو ما يمثل جزءا من مخطط حرق الوثائق، بعد حرق المناطق.. طبعا هؤلاء العباقرة العالمون ببواطن الأمور لا يسألون أنفسهم، أو من ضحك عليهم، كيف تظل الخرائط في هذه الغرفة انتظارا للحارق الماحق في زمن الميكروفيلم والحفظ الإلكتروني؟ والعادة أن الوثائق لا تُحفظ في مكاتب، بل في دور المحفوظات والوثائق والضرائب.. طبعا أباطرة التفكير الجهنمي، لا يسألون، حتى لا تنجرح نظرياتهم، ويركبون أدمغتهم، وبعضهم يزعم قدرته على فهم السياسة، ولا يكف عن تقديم النصائح وادعاء المعرفة.. المهم أن تتماشى نظرياتهم مع أمنياتهم، وتحليلاتهم الفشنك.

وعندما استعرضت بعض نظريات الفاعل الجنائي وراء حرائق القاهرة والمحافظات، وتحليلات تتبنى وقوف جهة أو تنظيم وراء الحرائق، قلت إنه مهما كانت هناك شبهات جنائية، علينا أن نأخذ في الاعتبار كون الإهمال والعشوائية وغياب إجراءات الأمن الصناعي والفساد أسبابا للحرائق، ومهما كانت المخططات، كثير من خبراء «الأي كلام» لا ينتظرون نتائج، ويشككون في كل شيء ويتداولون كل افتراض على أنه حقيقة.

الأمر نفسه في ادعاء أن الحرائق بهدف إجبار الناس على إخلاء أماكنهم، قلنا إن النقل لإنقاذ السكان من الخطر، وإن هذا معلن من سنوات، ولا علاقة له بالحرائق.. بعض المدعين فهموا أنني أتبنى نظرية النقل القسري، وكل ما نفعله أن نستعرض آراء جهات التحقيق والمتخصصين، وليس خبيرا.

لكن خبراء «الأي كلام» جاهزون دوما بالتفسير الحاسم لكل كارثة، رأينا من يربط حرائق القاهرة والمحافظات بفاعل واحد، حسب الموقع من التأييد والكراهية.. والأصل اتهامات بلا دليل، غير بوستات لكسالى على مواقع التواصل تنتقل إلى تابعين يرددونها، بعضهم يتحدث من موقع «الفهامة العلامة»، ومنهم خبراء أمن أو استراتيجية يروجون ما يتم إلقاؤه على مواقع التواصل حول شبهة جنائية أو مؤامرة، بينما هناك من يرى أن تعدد وسرعة أدوات النشر يجعلان الإحساس بكثرة الحرائق أكبر، وحتى لو كان وراء بعض هذه الحرائق فاعل، فإن السنوات الماضية تشير إلى أنه يقع يوميا أكثر من حريق، في مواسم الحصاد في الريف، أو المصانع بلا أمن صناعي، وهذا لا ينفي الشبهة الجنائية، ولا المؤامرة، لكنه يكشف عن استسهال ويقين خبراء «الولاحاجة» لتفسير كل حاجة.

 

 

نظريات الممدوح في إطاحة السفوح

سنوات وعقود نتحدث عن العشوائيات وأهمية إزالة العشوائيات باعتبارها عارًا يفترض إزالته، وسكانها يتعرضون لكل أنواع الإهمال والأخطار، زحام بلا خدمات، وحياة غير إنسانية.. وعندما تأتي الدولة وتعلن النية في إنهاء العشوائيات، يفترض أن يكون هذا داعيا للتفاؤل، ندعو إلى نقل العشوائيين إلى مجتمعات إنسانية.. لكن لأننا في زمن «عشوأة التفكير» يمكننا أن نتوقع من «خبراء اللاشيء من أجل الـ أي شيء».. ومثلما رأينا خبراء الحرائق المفسرة وقد أشعلوا الدنيا بخليط من نظريات الهلام التآمري لاستعادة براهين التفسخ الماورائي.. نرى بعض عباقرة «الفراغ المستطيل» وهم يسعون لتفسير قرار إزالة العشوائيات، بأنه مؤامرة على سكان العشوائيات، من أجل طردهم والاستفادة بعشوائياتهم في أغراض كونية، وهو دليل على أن العشوائية ليست في المباني والمساكن ولكنها في العقول والقلوب.

ومن لا يصدق يمكنه مراجعة النظريات المبهرة، والتحليلات المذهلة للخبير المعماري والناشط الاكتواري الدكتور ممدوح حمزة الذي رزع تويتة في 2016 اعتبر فيها تطوير ونقل العشوائيات جزءا من مخطط شيطاني، وقدم في نظريته التوتالية العمرانية تحليلا برمائيا يجمع بين الشيطنة والكعبلة، ويتوقع عملية تهجير ربما قسري لتفعيل مخطط القاهرة 2050 وهو إخلاء شرق النيل.. ضمن ما سماه «تخطيط شيطاني تم إعداده بأوامر من الخارج بهدف إخلاء شرق النيل في القاهرة الكبرى لخدمة الحلم الصهيوني من النيل للفرات.. بل إن ممدوح حمزة اعتبر نقل العاصمة، وخلخلة العشوائيات، ومثلث ماسبيرو، ضمن هذا التخطيط العميق.. وهو طبعا مقتنع بالتحليل الأعمق الذي استنتج أن غرفة التخطيط المحترقة بمحافظة القاهرة تحتوي على كل وثائق القاهرة وتخطيطها، وهو التحليل الرهيب الذي أشرنا إليه وردده وسار خلفه بعض عباقرة الافتراض التهاويمي، ممن لم يسمعوا عن الميكروفيلم، ولا نقحت عليهم قريحتهم ليسألوا لماذا يتم حفظ وثائق خطيرة ومهمة في «أوضة» بمحافظة القاهرة، وما هو دور دار المحفوظات والوثائق؟.. إنها عشوائية المقدمات التي تقود إلى عشوائية التحليلات.

وقد تصورت أن هناك من يفتري على الخبير ممدوح، حتى تأكدت أن هذا التحليل العبقري على حسابه، وأنه منقول من بنات و«خالات» أفكار عمر عفيفي، المقيم فى أمريكا والذي كان خلال «25 يناير» الراعي الرسمي لتهاويم المؤامرات، وأحد أهم اشتغالات التفكير العشوائي.

طبقًا لنظرية الدكتور ممدوح فإن شرق النيل الذي يتحدث عن مخطط إخلائه هو كل العاصمة، بما يفرض  تهجير كل المصريين، وقد يقول قائل إنه لا يفترض أخذ الدكتور ممدوح بجدية، لكن المفارقة أن هناك من يعانون أعراض ممدوح، يأخذون مثل هذه التهاويم بجدية، ويستهلكون هراء الشائعات بكثافة، ويرددون وراءه أن  إزالة العشوائيات مخطط إخلائي، وهو نوع من التفكير «عشوأة العشوأة».

 

    Dr.Radwa
    Egypt Air