كانت مصر على موعد مع فجر يوم جديد يشرق على أرضها الطيبة بعد عام من السواد الحالك في ظل حكم جماعة إرهابية فاشية كانت تريد نزع الثياب الحضارى المدني لمصر، فجاء شعاع قوى تمثل في ثورة غليان من الشارع المصري في 30 يونيو 2013، وهى الثورة التي وقفت معها وأيدتها القوات المسلحة المصرية بقيادة وزير دفاعها الفريق عبدالفتاح السيسي، الذي أتى به القدر ليحمى مصر من وقوعها في براثن الفوضى والإرهاب وصولا للتفكك والتقسيم.
أيضا كانت مصر قبل ذلك بعدة شهور على موعد مع انتخاب بابا جديد للكنيسة الوطنية المصرية الــ 118، وهو قداسة البابا الأنبا تواضروس الثاني، المولود في 4 نوفمبر 1952، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتم تجليسه على كرسيه فى 18 نوفمبر سنة 2012، وقداسته يتسم بالوطنية وحبه الشديد لمصر ولوحدة شعب مصر، وعاصر ثورات وتقلبات سياسية دعته أن يناشد الوحدة فى وسط كل هذه الأعاصير، وتجليس قداسته جاء فى الشهر الخامس تقريبًا من عام اختطاف مصر، ثم عاصر قداسته ثورة 30 يونيو 2013، والتى تم فيها عزل محمد مرسى، ثم تولي المستشار عدلى منصور حكم البلاد كرئيس مؤقت لمصر، ثم عاصر انتخاب الرئيس السيسى رئيسا للبلاد فى مايو 2014 ، فى وقت اشتدت فيه الأعاصير على مصر.
الكنيسة المصرية كما وصفها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، حيث قال عنها:
"هى مجد مصرى قديم، ومقوّم من مقومات الوطن المصرى"، فالكنيسة كانت على مر تاريخها أحد أعمدة المجتمع والدولة المصرية، وظلت على مر العصور ولا تزال أحد صمامات الأمان للوطن، إضافة إلى محافظتها على هُويتها القبطية.
البابا كشف عن كواليس تلقيه اتصالا للمشاركة في خارطة الطريق في 3 يوليو 2013، قائلاً : كنت جديدًا على كرسي مار مرقس 7 أشهر فقط، ولكنني كنت أقرأ عن حالة الغليان في الشارع التي بلغت أقصاها بعد الإعلان الدستوري الذى أصدره الرئيس مرسى، ورغم أننا شعب يحب الدين، لكنه يكره الحكم الديني، ونتيجة لهذا الغليان اضطررت لإلغاء اجتماع الأربعاء الأسبوعي، واتجهت لمنطقة تابعة للكنيسة قريبة من برج العرب، ثم بعدها تلقيت اتصالا للمشاركة فى اجتماع مهم، فقلت إنني بعيد عن القاهرة، فقالوا إن طائرة ستأخذك من برج العرب بعدها بـ 20 دقيقة وصلت المطار، واستقبلني مديره.
مضيفًا، وكانت أول مرة في حياتي أركب الطائرة الهليكوبتر، ووصلت إلى القاهرة قبل الثالثة، ثم توالى حضور الشخصيات العامة، وبعدى جاء فضيلة الإمام الأكبر من الأقصر، وحضر الفريق عبدالفتاح السيسي، وتناقشنا بشكل ديمقراطي، ثم بدأوا في صياغة الاقتراح في بيان راجعه الإمام الأكبر لُغويًا، ثم اقترح الرئيس السيسي أن نقف حوله، فوجدنا أن عددنا كبير فجلسنا، ثم اقترحوا أن يلقى كل منّا كلمة، ووزعوا علينا أوراقًا بيضاء لنكتب، فطليت ورقتي بيضاء، لم أستطع أن أكتب شيئًا، وقررت الارتجال، لمحت العلم المصري وتحدثت عن ألوانه، وبعد البيان كلنا أخدنا بعضنا بالحضن، ثم تناولنا الغداء، وفى طريق العودة بالهليكوبتر رأيت فرحة المصريين فى الشوارع، وسمعت أصوات الفرحة في السماء، وردًا على سؤال : ألم تتردد في الاستجابة لهذه الدعوة في ظل ارتباك المشهد السياسي آنذاك؟ قال البابا، لم أتردد إطلاقًا، وشعرت أن كل من أعرفهم في الشارع فيما عدا أنا، وكان من الصعب أن أشارك في المظاهرات، فقررت المشاركة الوطنية على طريقتي، وذهبت لاجتماع خارطة الطريق.
الرئيس والبابا جمعهما حب الوطن والانتصار لمصر على الفاشية، وتعرّضا للخطر بسبب الدفاع عن مصر، وبالطبع لا نغفل الجانب الإنساني الذي جمعهما، فالبابا يرى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي رجلا صادقا، وأن مصر على مدى تاريخها لم تشهد رئيسا مثله، لافتا إلى أن مصر بها ٢٧ محافظة وأن كنائسنا بخير.
الكنيسة المصرية كانت ولا تزال مع الدولة المصرية في كل أوقاتها خاصة مع الأوقات التي تشهد أحداثا صعبة، فيبرز معها ظهور شخصيات وطنية فيما اختفت شخصيات أخرى، وهنا سجل البابا تواضروس العديد من المواقف الوطنية سيظل يتحدث عنها المصريون لعقود طويلة وسيكتبها التاريخ بحروف من نور.
البابا تواضروس الثانى يحكى عن الرئيس عبدالفتاح السيسي فيقول: حينما كان السيسى وزيرًا للدفاع، ذهبت مع وفد من الكنيسة للقائه، وكان محددا للقاء نصف الساعة، بينما تخطى الساعتين، ويؤكد أن اللقاء شهد حالة تفاهم كبيرة بينهم وبين وزير الدفاع، وتعرفوا في الكنيسة على طريقة تفكيره وشرحه للأحداث في مصر، ومعرفته بدقائق طبيعة الواقع في مصر وقتها.
البابا تواضروس الثاني يرى أن الرئيس السيسى لديه قدرة كبيرة على عرض القضايا في شكل أرقام وأحداث، ويتّسم بالهدوء الشخصي، ويحرص على أن تجمعه علاقات طيبة مع كل المصريين، موضحا أن الانطباع الأول عن الرئيس السيسى كان جيدا، والوفد الكنسي الذي ضم كل قطاعات ونوعيات الكنيسة كان سعيدا بفرصة الحوار الكبير والنظرة الشاملة لوزير الدفاع، مؤكدا أن النظرة الأولى ساعدت في أمور كثيرة فيما بعد، خاصة مع صعوبة هذه المرحلة.
دائمآ ما يعبر البابا عن استيائه من عام حكم جماعة الإخوان، ووصف هذه الفترة بـ "السنة المظلمة أو الكبيسة أو السوداء"، إن الشعور العام وقتها أن الوطن يُسرق من فئة معينة تدعي الدين ولكن ليس عن طريق دفعة واحدة، وهذا الإحساس كان مدمرًا لكل شخص يحب وطنه ويراه أغلى شيء في حياته، إن الاتجاهات التي كانت دائرة وقت حكم الإخوان ليست من طبيعة المصريين ولا البيئة التي تربى فيها الشعب المصري، فكانت سنة مؤلمة، مؤكدا أن مشاركته في خارطة طريقة يوليو عقب ثورة 30 يونيو إحساس يملأ كل الشعب، وكان طبيعيا أن يشارك في هذه المسئولية الوطنية، مع اليقين أن هناك مسئولين في مصر على أعلى مستوى يحاولون إنقاذ الوطن، وبالطبع يضع البابا نُصب عينيه الأيام الصعبة التي مرت بها مصر ومرت بها الكنيسة المصرية التي شهدت حرق مئات من الكنائس وممتلكات الأقباط فى كل أنحاء مصر، حتى أن البابا اضطر في يوم 14 أغسطس 2013، أن يرد بكل حكمة عن ثلاث شائعات ضد الأقباط، شائعة أن الكنيسة القبطية غير وطنية، فوقف قداسة البابا وقال مقولته الشهيرة "الكنيسة القبطية كنيسة وطنية حتى النخاع"، وأثبت ذلك عبر تاريخ الكنيسة، وشائعة أن "الكنائس بها أسلحة" وقال قداسته "لم نسمع عن قبطى واحد يستخدم سلاحاً"، وشائعة "الأقباط يستقوون بالخارج" قال قداسته بكل قوة "رغم ما تعرض له الأقباط من ترويع وتخويف واغتصاب وخطف لم نستقوِ بأحد إلا إخواننا المصريين فى داخل الوطن، فى حين نرى الآخرين يستقوون بالدول الخارجية لكى تنقلب على وطننا العزيز! وما أبشعها خيانة!".
قداسة البابا استمر باستخدام وطنيته وحكمته ومحبته لمصر، ولكل شعب مصر مسلميها وأقباطها وهو يعلم أن المحبة هى فقط الوسيلة الوحيدة، التى سوف تلملم شتات كل أطراف أبناء الوطن الواحد، حيث يقول قداسته:"إن المصريين يعيشون معًا مسيحيين ومسلمين كأسرة واحدة حول نهر النيل، ولذلك تتميز طبيعة الشعب المصرى بالوسطية، لا العنف".
الكنيسة المصرية أحد الأعمدة الرئيسية للدولة، فقداسة البابا يحلم أن تكون الكنيسة دائما خادمة للوطن، وأنا فخور أن بلادى تتقدم للأمام خاصة أن الرئيس صوب أخطاء الماضي في كثير من المسائل التي تهم الأقباط، كأوضاع الكنائس، فتم تقنين أكثر من ألف كنيسة، وهذا مكسب كبير للغاية في ملف المواطنة الذي يحرص عليه الرئيس، والقانون الذي تم إقراره جعل أى مبنى كنسيا مقنناً ومسجلا فى الدولة، والمدن الجديدة بدأت فى بناء الكنائس، وشاهدنا حرص الرئيس على وجود الكنائس فى المدن الجديدة وهو ما تم بالفعل، والأمر الخاص ببناء الكنائس أصبح حالياً يأخذ صورته الطبيعية، وعندما سئل البابا عن تمنياته قال: ما يهمنى أن تكون الكنيسة خادمة للوطن، وهناك عطايا من الله لمصر، كالاستقرار المتواجد حاليا، فرأينا التقدم والمشروعات الكبيرة من طرق جديدة، فمصر تسير نحو المستقبل وهنا لابد أن نذكر أن قداسة البابا طلب من أولاده إظهار حبهم فى استقبال السيسى، فى زيارته للولايات المتحدة، فذلك يتماشى مع أربعة أعمدة أساسية متأصلة فى فكر قداسته لحمل كل شعبه وسط هذه المحن وهى : إظهار الروح الوطنية المتأصلة فى قلبه من أجل الشعب المصرى كله مسلميه وأقباطه.
وللبابا تواضروس مواقف وطنية فى العديد من الأزمات منها حادث تفجير الكنيسة البطرسية الذي وقع في ديسمبر ٢٠١٦، حيث أعلن وقتها وقوفه بجانب الدولة ومؤسساتها في محاربة الإرهاب، وإيمانه بالدور الكبير الذي تقدمه الدولة للعبور من تلك الأزمات.
وقال وقتها: «إن الجماعات الإرهابية التي هاجمت الكنيسة البطرسية تجردت من المشاعر وأوجه الإنسانية»، مؤكدا أن الشعب المصري معروف عنه في مثل هذه الظروف الوقوف جنبًا إلى جنب، والتي لم تؤثر على وحدة أبناء الوطن.
وعقب تفجير البطرسية وتحديدا في مارس من عام ٢٠١٧، استقبل البابا تواضروس المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالكاتدرائية، وأكد لها أن أوضاع المسيحيين المصريين تحسنت مع ثورة 30 يونيو 2013، والتي قام بها الشعب المصري مسلمون ومسيحيون، وحماها الجيش المصري.
وهناك خطوات جادة لتحقيق ذلك، منها إقرار أول قانون لبناء الكنائس في مصر، وزيارات الرئيس للكاتدرائية في الأعياد، وإصلاح الدولة للكنائس التي أحرقت ودُمّرت، وهناك خطوات أخرى تعبر عن المواطنة الكاملة وعدم التمييز والمساواة، وإننا جميعًا كمصريين مسلمين ومسيحيين نعمل على بناء مصر الحديثة، فضلا عن بناء أكبر كنيسة في الشرق الأوسط وهي كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة، وتحاول الكنيسة مع الدولة أن تحل بعض المشاكل من أجل أن تحيا مصر في أفضل صورة.
وأيضا عقب تفجير كنيستى مار جرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية، الذى راح ضحيته عشرات الضحايا والمصابين، خرج علينا كعادته، مشددًا على أن مثل هذه الحوادث لن تمس النسيج الواحد للمصريين، ووقوف الكنيسة بجانب الدولة.
وعقب وقوع الحادث الإرهابي الذي وقع في نوفمبر الماضي بمسجد الروضة بالعريش، أعلنت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن دق جميع أجراس الكنائس، وذلك تضامنا مع الإخوة في الوطن، وحزنا على أرواح شهداء المسجد .
ولعل أبرز المواقف الوطنية للبابا تواضروس، رفضه بصورة قاطعة أى حديث عن مشروع قانون أمريكى خاص بترميم الكنائس المصرية المتضررة، معلنا أن الحكومة المصرية قامت بواجبها الكامل فى إصلاح وترميم الكنائس بجهود وأموال مصرية، كما أصدرت الكنيسة بيانا لها فى هذا الوقت أكدت فيه أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أوفى بوعده بانتهاء هذه الإصلاحات بنهاية العام الحالى، مؤكدة أن هذا ما يتم فعلا وعلى أفضل وجه، وشددت الكنيسة، على أن الوحدة الوطنية المصرية فوق كل اعتبار ولا نقبل المساس بها إطلاقا، كما وضحت قدرة البابا تواضروس على التحكم فى الأمور بعد شهور من تجليسه على الكرسى المرقسى للكنيسة، وذلك عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة وتعرض الكنائس المصرية لهجوم شرس من قبل جماعة الإخوان، حيث أظهر حبه للوطن وتفهمه للأمور وقال "وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن"، وطالب كنائس المهجر بأن تكون سفارات شعبية لمصر فى الخارج تكذب الادعاء بأن ثورة 30 يونيو كانت انقلابًا وليست ثورة شعبية، وهذا ما كان يبرزه دائما خلال زياراته الخارجية كما روج البابا تواضروس الثانى من خلال زياراته الخارجية إلى ألمانيا واليابان وأكثر من دولة بالخارج لزيارة مصر، مؤكدا أن مصر بلد الأمن والأمان فى دعوة صريحة للترويج وللسياحة إلى مصر .
وبهذا كان البابا تواضروس يستحق حب واحترام الشعب المصري كله، فهو البطريرك الذى فى عهده تم وضع بروتوكول لزيارة رئيس الدولة المصرية لقداسة البابا فى قداسات الأعياد، شيء جديد على الكنيسة وتاريخ الكنيسة ووضع الكنيسة فى وسط الشعب المصرى ككل، أيضا هو البطريرك الذى فى عهده يفتخر رؤساء الدول الخارجية ورؤساء حكوماتها، بل وسفراؤها بزيارة قداسته بالمقر البابوى، واستحق تقدير الشعب المصري، فهو صاحب مقولة "وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن"، هذه الكلمة الخالدة للبابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، بعد أن أتاه نبأ اعتداء الإخوان وأنصارهم على الكنائس حرقاً وتدميراً عقب فض اعتصامَى رابعة العدوية والنهضة، وأتبعها للعالم كله بأن هذا ثمن بسيط نقدمه من أجل حرية الوطن.
تلك الكلمات الوطنية التى رفضت الفُرقة وأرادت إظهار وحدة المصريين أمام الجميع، وحدة الأرض والمصير، لم تكن جديدة أو غريبة على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ورجالها التى يحفل التاريخ المصرى بالعديد من الوقائع والأحداث التى سجلت المواقف الوطنية المشرفة لها، وأظهرت كيف التصق بابوات الكرازة المرقسية بتراب هذا الوطن والتحفوا بسمائه العالية الصافية.