الخميس 23 مايو 2024

الفنون القبطية ما بين الأصالة والحداثة

فن26-10-2020 | 20:51

تسعى كل الأمم للحفاظ على هُويتها ورعاية كل ما يميز ثقافتها ودعم أشكال الإبداع المختلفة, وتبرز القوة الكبيرة للحرف التراثية التي تستطيع من خلال مبدعيها أن تتشكل وفقا للتغيرات التي تدور من حولها.


والفن القبطي يتميز بأصالته بحكم توغله في القدم، وطابعه المميز وشخصيته القوية التي انفرد بها أدت إلى بقائه إلى الآن, واستطاعت عاداته أن تبقى في المجتمعات الشعبية التي تخضع للتغيير والتجديد، وهذا يدل على قدرته الفائقة على ابتكار أشكال تناسب التغيرات الحالية, والاستمتاع بتذوق الفن القبطى المصرى عبر العصور يتطلب بعض المعرفة بجماليات هذا الفن وتاريخه.

 

ومفهوم الفنون عند الدكتور صلاح الراوي، درب من النشاط الإنسانى النوعي, يسعى فيه الإنسان إلى إعادة تشكيل الواقع على نحو رمزى يوازى به الإنسان واقعه موازاة رمزية, تعكس علاقات هذا الواقع في تشكيل جمالى يعبر عن رؤية الجماعة للعالم. 


والحرف بدأت منذ عصر ما قبل الأسرات عند المصري القديم, فنجد من الحرف القديمة حرفة الفخار, وحرفة الحصير, والنحت على الحجارة, والنجارة بشتى فروعها، والنسيج، وكان هناك مدن للعمال، ومن أروع الأمثلة على أن المصري القديم كان يعمل عملا جماعيا يميزه عن كل الأمم هي مقبرة "رخميرع" في طيبة بالأقصر, وهي من النماذج الفريدة التي تعرض لنا الحرف المستخدمة في هذا العصر ومدى براعة المصري القديم في توثيق الصناعات بكل دقة وأمانة، ليخبر الأجيال القادمة بما قدمه للبشرية، ونجد أن الفنان المصري عبر عن عقيدته التي يؤمن بها عبر العصور في تلك الصناعات الثقافية، ونجد أن المصري القديم عبر عن عقيدته في جميع المقتنيات الأثرية, في كل المعابد والمقابر عن الديانة المصرية القديمة، أوجد من خلالها الكثير من القطع الفنية النادرة .


فأقام المصريون القدماء المعابد منذ أقدم عصور حضارتهم، واعتبر ملوك مصر إقامة المعابد وتعميرها من أهم واجباتهم، ولذلك حرصوا على إقامتها في جميع البلاد فيعد المعبد في نظر المصري القديم بيت الإله ومكانا مقدسا لأداء الطقوس الدينية, وفي العصر القبطي حرص المصري على إظهار عقيدته في فنه الذي ينتجه على جدران الكنائس من فن الأيقونات وفن الفسيفساء.


وساهمت الحرف التراثية الحضارية في تكامل الهُوية المصرية، فمنذ بزوغ الحرف والصناعت قديما والفنان المصري له طابع يميزه عن الآخرين، فعبر فيه عن روح الشعب المصري، وكان الفنان الحرفي المتمكن ذا نظرة فنية كبيرة، فلم يحرم نفسه من إظهار موهبته وأسلوبه الخاص عبر العصور، وكل عصر له أعماله الفنية التي تعكس ملامحه وفلسفته، وكذا الأحوال الثقافية والبيئية والاجتماعية، ففي الكثير من ورش الحرف التراثية المصرية لم يتغير موروثها الثقافي الشعبي، فيوجد الكثير من شيوخ الحرف العظماء يعملون بذات الطرق القديمة التي توارثوها عن آبائهم , كما توجد أخلاق الورشة وآدابها التي لا تزال محتفظة بكيانها الكبير بالرغم من دخول التكنولوجيا الحديثة في بعض من الصناعات إلا أن أصحاب تلك الورش يحتفظون بكل موروث تاريخي لهم سواء أخلاقي أو مهني.


فنجد الفنان الحرفي المتمكن في الدولة القديمة يخرج لنا من أعماله الفنية آثارًا تحار فيها الألباب حتى الآن وتأثيرات الإضاءة على التماثيل وبراعته في استخدام الأخشاب في التماثيل والتوابيت، حتى الأبواب الوهمية، يوجد باب وهمي من الخشب بالمتحف المصري وكذا من النحاس والبرونز، واستخدامه للترصيع وصناعة ورق البردي الذي لا يزال يصنع حتى الآن بقرية القرامواص مركز أبو كبير الشرقية وصناعة السفن، وبرع في النسجيات، ونرى ذلك واضحا جليا في نماذج "مكت رع" وهي عبارة عن ورش حرفية منذ الدولة الوسطى، وظهرت الكثير من المدارس الفنية مثل المدرسة الواقعية بطيبة، والمدرسة المثالية بمنف، والمدرسة الكلاسيكية التي جمعت بين المدرستين في الدولة الوسطى، وأيضا مدرسة تل العمارنة وظلت الفنون والحرف تتناقل بين المصريين حتى وصلت إلينا. 


ويستطيع المتتبع للفنون القبطية أن يجد مظاهر الثبات والتغير والعرض والتحليل وتجربة الإنسان المصرى عبر العصور في سعيه نحو أسلوب مميز في هذا الفن , كما بيّن التطور التاريخى والثقافي العام الذى وصل إلى رؤية ثاقبة ودراية في التعبير.


ويعد الفن القبطي من وجهة نظرى انعكاسا حضاريا لعب فيه الفن والفنان الحرفى دورا رائدا في تأريخ الفنون الإنسانية, ولقد حذا الفنان الحرفي المتمكن في هذا حذو أجداده المصريين القدماء الذين كانوا يزينون جدران معابدهم وأسقفها وأعمدتها بصور الطقوس الدينية والمقابر بمناظر الحياة اليومية والحساب, فالفنان القبطي برع كذلك في استخدام ما ورد في الكتاب المقدس على جدران الكنائس والأديرة، وأماكن العبادة، وصور حياة السيد المسيح والرسل والشهداء. 


وجاهد الفنان المصرى ليجعل نفسه منسجما مع الكون الذى يحس به ويتصوره موجودا وخالدا، ولذلك كانت قدرته على الإبداع ممتزجة تماما في قدرته علي التعبير عن الأوضاع الطبيعية لمظاهر الجزئيات والكليات.


وحفظت لنا الآثار المصرية أعدادا لا بأس بها من أعمال الحرفيين المتخصصين، أو الفنانين الذين قاموا بوضع التصميمات أو الخطوط الخارجية للأعمال المرسومة على جدران المعابد أو المقابر، أو على أسطح الأواني والقطع الأثرية الأخرى.


وتلاحظ لى أثناء زياراتي والجمع الميداني للفنون المتعددة في الكنائس في القاهرة أن أعمال النجارة تبدو مكتظة من الداخل، وذلك لتلبية احتياجات البناء من مقاعد وأحجبة ونوافذ وأبواب ومذابح وأيقونات ومشغولات خشبية أخرى. 


وتميزت الكنيسة القبطية باستخدام الأخشاب الجيدة في صنع وزخرفة الأحجبة الخشبية، ومن أقدم الأحجبة الخشبية المزخرفة بكنيسة مصر القديمة، حجاب كنيسة أبى سرجة , ولم يتبق من حشواته الزخرفية سوى خمس حشوات ذات زخارف آدمية, وقد زخرف الفنان كل الحشوات الخشبية على مسطح الحجاب بواسطة الحفر البارز العميق الذى يؤلف أشكالا زخرفية بارزة، وأحيانا من عدة مستويات بمهارة فائقة.


أما عن الزخارف النباتية فاتسمت تلك الزخارف بطابع التحوير والتجريد من القرن التاسع الميلادى بظهور أساليب سامرا الثلاثة الفنية منها التحوير الشديد في العناصر النباتية , مع اختفاء الأرضيات التي تقوم عليها الوحدات الزخرفية , واستخدام أسلوب الشطف في الحفر كما في الحشوتين المستطيلتين بالكنيسة المعلقة.


ثم الزخرفة الآدمية والحيوانية وأشكال الطيور والزخارف الهندسية والكتابية.


 والفن القبطي هو من الفنون التي تميزت بوضوح الزخرفة الهندسية إلى حد كبير، حيث ظهرت زخارف الدوائر وأنصافها, والمربعات والمعينات والمستطيلات والأشكال الخماسية والسداسية والتهشيرات الهندسية والجامات المختلفة, وامتازت النقوش الكتابية بوضوح الطابع الكنسى سواء في الكتابات العربية أو القبطية, إذ أنها مستمدة من الكتاب المقدس.


ومن أبرع الفنانين الذين احترفوا النجارة القبطية والعربية الفنان الحرفي المتمكن الأستاذ / حسين محمود وورشته قائمة في حارة برجوان بالجمالية.

  

ومن مشاهير الخرّاطين المرممين المعاصرين للكنائس الفنان الحرفي المتمكن الأستاذ / طلعت إبراهيم سيد الشهير بطلعت أرابيسك وهو من أبرع من رمم الكنائس والأديرة المصرية في هذا العصر.

 

ومن الفنون التي برع فيها الأقباط، فن زخرفة الفرسكو، وهو من الأساليب الزخرفية المهمة في الكنائس والأديرة المصرية، ويتميز هذا الأسلوب الفنى بخلط الألوان مباشرة مع الماء, دون استخدام لأي وسيط، ثم يرسم بالألوان على الحائط قبل أن يجف.


وتعتبر مقابر البجوات بالواحة الخارجة بمصر من أهم المناطق التي تحتفظ بكمية كبيرة من المناظر الدينية المسيحية والتي استخدم أسلوب الفرسكو في رسمها.


وبرع الفنانون الحرفيون المهرة في إنتاج الصناعات المعدنية، وكانت هذه التحف المعدنية تستخدم لأغراض منزلية مثل الأباريق والأوانى, ومنها لأغراض طقسية. 

 

ومن الفنانين الحرفيين المهرة الذين قابلتهم أثناء الجمع الميداني لمدينة القاهرة كان الفنان عمرو محمد السيد، والده كان الحاج محمد السيد عبد الغني الذي بدأ كصبى عندما كان عمره خمس سنوات على يد الفنان محمد جاد وورث حرفته لابنه وتخصص في الفنون القبطية المعدنية.

 

وكذلك الشيخ بيومي محمد تهامى، والذى أعتبره شيخا من شيوخ النقش على النحاس في حارة الدرب الأصفر بالجمالية, من مواليد الجمالية عام 1959م ، نقاش على المعادن والنحاس، ويعتبر من أشهر مبدعي ومنفذي تلك الحرفة، ودخل في فنه الفن القبطى، ورشحه الصندوق الاجتماعي للسفر وعرض منتجاته في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وكان خير سفير لمصر وكرّمه عمدة ميلانو على أعماله الخالدة، وطلب منه أن يبقى هناك ليعلم الطلاب سر صنعته، وكان ذلك عام 1992م،  وكرّمه كبار المسئولين بالدولة لدوره البارز في إحياء تلك الحرفة، ومثّل مصر في المحافل الدولية.


والحاج بيومي يجيد نقش الخط الهيروغليفي على القطع النحاسية بكل دقة ومهارة، ودعته ملكة إسبانيا لتعليم حرفته لأبناء وطنها، وهو نقاش معادن بدرجة خبير، وقد أخذت تلك اللقطة من مبادرتي "ياللا على الورشة" للحفاظ على الفنون والحرف التراثية برحلة يوم التراث العالمي بعدسة الفنان مايكل نبيل.

 

ومن أشهر الصواني النحاسية المكفتة جميعها بالفضة "الصينية التي برعوا فيها عائلة آل الحسين" وقطرها 160سم وبذلك تكون أكبر صينية من النحاس الأحمر مكفتة جميعها بالفضة في العالم وعليها كل الحضارة المصرية منقوشة بما فيها الفن القبطي.


ويعد الفنان الحرفي المتمكن شيخ طائفة فن التكفيت في مصر هو الحاج حسين عبد المقصود، وأولاده هم المنفذون لتلك الصينية الأسطورية.

 

أما عن الأيقونات فهي كلمة يونانية تعني في الأصل صورة، ثم صارت اصطلاحا يطلق على اللوحات الخشبية التي تحوى صورا بالألوان تمثل قديسين أو أحداثا وموضوعات دينية, ونجدها في الكنائس والأديرة معلقة على الجدران، أو الأحجبة الخشبية.


وتخضع الأيقونة لمعايير دينية عقيدية تتنازعها المذاهب المسيحية المختلفة, فيما يتعلق بالموضوعات المصورة في الأيقونات.


ومن أشهر الفنانين القدماء في هذا الفن هو إبراهيم الناسخ، وكان شخصا معروفا في المجتمع القبطى، واشترك في تدشين كنيسة يوحنا المعمدان والملاك ميخائيل بدير الأنبا بولا بالبحر الأحمر، ويسجل إبراهيم الناسخ بنفسه تفاصيل هذه الرحلة التي نظمها المعلم جرجس يوسف السروجى. 


وكان إبراهيم الناسخ يقوم بعدة أعمال في وقت واحد, كان يرسم الأيقونات والرسوم الجدارية ويزين قباب الكنائس.


أما من الفنانين المعاصرين البارعين في كتابة الأيقونات هو الفنان المحترف أمير رمزى، وهو من مدينة دمنهور العريقة، والفنان التشكيلي أمير رمزي معيد بكلية التربية النوعية قسم فنون جامعة الإسكندرية، وعضو الاتحاد العالمي بموسكو للفنون التشكيلية، وقد شارك بالعديد من المعارض والمهرجانات الدولية خارج مصر وداخلها، وتخصص  في رسم الكنائس بجميع الطرازات الفنية قبطي بيزنطي إيطالي والدمج بينها، لأنها مجال رسالته في الدكتوراه، حيث له العديد من الكنائس التي تم رسمها، والعديد من الجوائز الدولية واللقاءات، ورسم العديد من الأماكن العامة والخاصة داخل مصر وخارجها، ورسم فوق الـ ٨٠٠ بورتريه. 


ومن فناني كتابة الأيقونات الفنان فادي حنا وهو من محافظة المنيا، خريج جامعة حلوان بالقاهرة 2006م، وقام بعمل دراسة حرة بحتة في الفن القبطي، وتخصص في رسم الأيقونة القبطية منذ بداية 2010م،وله أعمال فنية قبطية فى القاهرة وكندا وأستراليا وبولندا وبلجيكا وجنوب إفريقيا.

 الفسيفساء، ومن منظور تقنى هي بناء العمل الفنى بقطع صغيرة متجاورة من خامة أو عدة خامات طبيعية مثل الأحجار والحصى والأصداف، وتثبت هذه القطع على السطح الحامل بوسيلة مناسبة من وسائل التثبيت. 


ومن الناحية الجمالية فالفسيفساء ليست حشوا للمساحات أو عناصر العمل الفنى بهذه القطع الصغيرة من خامات التنفيذ، بل الأهم هو كيفية تجاور هذه القطع بإيقاع معين.


الفنان ريمون صموئيل وهو فنان يبني عمله الفني بقطع صغيرة متجاورة من خامات من الأحجار والحصى والأصداف وقطع صغيرة من الفخار أو الزجاج الملون, فنان تعلم على يد الدكتور إيزاك فانوس في الفن القبطي, وتعلم الموزايك على يد الفنان الإيطالي أرنولد الذي كان يعيش في منطقة الزمالك بالقاهرة, كما تتلمذ أيضا على يد الدكتور مصطفى الرزاز، والدكتور طه حسين في تاريخ الفن بكلية الفنون التطبيقية, وتاثر الفنان بخاله الدكتور مراد وهبة رائد الفلسفة، وتحدث معي عن أنواع الخامات المستخدمة في هذا الفن الجميل, وكذا تطور هذا الفن عبر العصور, وتداول معي الفكر الجديد في فن الفسيفساء؛ وأيضا أنواع الفسيفساء, وكذا تقنيات التنفيذ، وأهم سمات الفسيفساء، كما أطلعني على المواد المستخدمة في التنفيذ, كما شرح لي الأسطح الحاملة مثل الأرضيات والجدران.