الخميس 6 يونيو 2024

حكايات كتاب "تاريخ بطاركة الإسكندرية"

فن26-10-2020 | 20:58

لم يلتفت كثير من الباحثين إلى أهمية تاريخ البطاركة لدراسة تاريخ مصر ظنًا منهم أنه تاريخ للكنيسة أو تاريخ يروي حياة البطاركة الأقباط، وبالفعل يتكون تاريخ بطاركة الإسكندرية من مجموعة من سير بطاركة كنيسة الإسكندرية، ولكن هذه السير لا تمثل سوى إطارا زمنيا يروي من خلاله المؤرخون الأقباط ليس قصص حياة البطاركة فحسب، ولكنهم يرصدون كل ما يمر بعصرهم من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية عاشتها مصر،

فيصبح بذلك تاريخ البطاركة ليس مجرد تاريخ كنسي يروي أحداثا كنسية ولكنه مصدر أساسي لتاريخ مصر.


من هو كاتب تاريخ البطاركة؟


ارتبط اسم كاتب تاريخ البطاركة لسنوات عديدة باللاهوتي الشهير ساويرس بن المقفع، ونسب إليه هذا العمل إلى أن قام يوهانس دن هاير Johannes den Heijer بإثبات أن العديد من الكتاب الأقباط قد قاموا بكتابة هذا النص على فترات متفرقة، وأكمل كل منهم ما كتبه سابقوه. 

وفي القرن الحادي عشر الميلادي قام شماس إسكندراني يدعى موهوب بن منصور بن مفرج بمعاونة آخرين بتجميع كل ما كتب قبله وترجمته من القبطية إلى العربية، حيث جمع وترجم السير من السيرة الأولى وهي المخصصة للقديس مارمرقس الرسول، باعتباره أول بطريرك لكنيسة الإسكندرية، إلى سيرة البابا شنودة الثاني (٦٥) إلى اللغة العربية، ثم كتب باللغة العربية مباشرة سيرة البابا خرسطوذولس (٦٦) والبابا كيرلس الثاني (٦٧)، ثم استكمل الكتابة بعده آخرون وصولًا إلى البابا يؤنس التاسع عشر (١١٣)، ومع ظهور الطباعة وانتشارها كتب القمص صموئيل تاوضروس السرياني سير الآباء البطاركة من البابا بطرس الجاولي(١٠٩) إلى البابا كيرلس السادس (١١٦) من خلال كتاب كان عنوانه: تاريخ باباوات الكرسي الإسكندري (١٨٠٩-١٩٧١) مع موجز لمعاصريهم من أساقفة الأقاليم، فإلى أي مدى يمكن اعتبار هذا الكتاب جزءا مكملا لنص تاريخ البطاركة الذي كتبه السابقون؟ سؤال يحتاج إلى مزيد من الدراسة النصية للوصول إلى إجابته.


النشرات المختلفة لنص تاريخ البطاركة

نشر المستشرق إفتس Evetts المجلد الأول من كتاب تاريخ البطاركة بعنوان "سير الآباء البطاركة" أو "تاريخ بطاركة الكنيسة القبطية في الإسكندرية" ضمن مجموعة PatrologiaOrientalis أية كتابات آباء الكنيسة في الشرق، وذلك في الجزء الأول من هذه المجموعة الذى نشر في باريس عام 1907م، والجزء الخامس، عام 1910م، والجزء العاشر، عام 1915م.

كما نشر نفس النص المستشرق سيبولد Seybold: "الجزء الأول من كتاب سير البطاركة الإسكندرانيين من مار مرقس حتى خاييل من سنة 61 حتى سنة 767 لساويرس بن المقفع نقله وطبعه من الخط الأقدم الهامبورغي المنسوخ سنة 1266 المسيحية خرستيا نفريدخ سيبلد الطوبينكي، طبع بدار الفنون طوبينكن المحروسة سنة 1912".

ثم تولت جمعية الآثار القبطية، نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب بمعاونة الأستاذ يسى عبد المسيح أمين مكتبة المتحف القبطى والدكتور عزيز سوريال عطية أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الإسكندرية وآخرين.

ثم ظهرت نشرات عديدة بعد ذلك من تاريخ البطاركة وظهرت نشرة حديثة : "تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادى حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفع، إعداد وتحقيق عبد العزيز جمال الدين، الجزء الثالث المجلد الأول، مكتبة مدبولى 2006 ".


ويذكر للمؤرخ أنه يعد من أول الباحثين المسلمين الذي أولى اهتمامًا لنص تاريخ البطاركة بل وإنه أطلق على النشرة الذي قام بتحقيقها : "تاريخ مصر، من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة"، فلقد أدرك جيدًا أهمية دراسة هذا النص المكتوب بأيدٍ قبطية لدراسة تاريخ مصر، وإذا كانت الميزة الكبرى لهذه الطبعة جذب انتباه الباحثين إلى أهمية نشر ودراسة تاريخ البطاركة، إلا أننا ندعو القارئ ليتوقف قليلًا أمام العنوان حيث نجده يؤرخ من بدايات القرن الأول الميلادي حتى نهاية القرن العشرين، فلقد طبعت هذه النسخة في حبرية البابا شنودة الثالث (117) وكان هو آخر بطريرك توقفت عنده السير الموجودة في هذه النسخة.

ومن الضروري قراءة مقدمة المحقق ليكتشف القارئ أنه لجأ إلى المخطوطات المختلفة لنشر سير البطاركة حيث كانت آخر سيرة في المخطوطات سيرة البابا كيرلس الخامس (112)، وأضاف المحقق في نهاية هذه السيرة ملحوظة كتب فيها: "إلى هنا ينتهى المنتخب من مخطوطات تاريخ البطاركة وتراجم البابوات التالية من وضع المحقق"، وبذلك فلقد قام المحقق بوضع سير البطاركة الأقباط من سيرة  البابا يؤنس (113) حتى كتب سيرة البابا شنودة الثالث (117)، ويعد هذا تغييرًا نوعيًا هامًا في كتابة سير تاريخ البطاركة حيث لأول مرة يهتم مؤرخ مسلم ليس فقط بنشر السير ولكن بصياغتها،

ومع ذلك يؤخذ على المحقق أنه عنون طبعته بنسبة تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفع، وقد أثبتت كل الدراسات الحديث أنه لم يكن هو مؤلف النص، كما يؤخذ عليه أنه لم يقدم نشرة نقدية تعتمد على مقابلة المخطوطات المختلفة للنص كما هو متبع في التحقيق العلمي للنصوص.


المحتوى

جمع مؤرخو تاريخ البطاركة معلوماتهم من المخطوطات الموجودة في مختلف الأديرة، وقد كان بعضهم شاهد عيان لكثير من الأحدات التي عاصرها ورواها، كما استمد العديد منهم المعلومات من الوسط المحيط به من الأهل والأصدقاء، إلخ ولكن بعضهم لجأ أيضًا لكتابات مؤرخين آخرين مثل سعيد بن بطريك، ومما يجعل تاريخ البطاركة تاريخًا منفردًا ويزيد من أهميته أنه يقدم نظرة للتاريخ من وجهة نظر الأقباط التي قد تتفق أحيانًا مع وجهة نظر المؤرخين المسلمين، ولكنها بلا شك تختلف في أوقات أخرى، كما أن وجهة النظر تلك تهتم بتفاصيل سياسية واجتماعية لم تلفت بالضرورة انتباه المؤرخ المسلم، فيقدم بذلك مؤرخو تاريخ البطاركة أحداثا لم يهتم بها المؤرخون غير المسيحيين، وتعد اليوم مصدرًا أساسيًا لدراسة التاريخ الاجتماعي للمصريين، وتعد بعض الأحداث التي أفرد لها المؤرخون الأقباط ورقات عديدة معبرة جدًا عما كان يوليه الأقباط من أهمية للأحداث دون غيرهم.


تاريخ كنسي


يقدم تاريخ البطاركة قبل كل شيء تاريخ كنيسة الإسكندرية، فنتعرف من خلاله على كيفية اختيار البطاركة على مر العصور، فنرى في أحيان كثيرة مبدأ الشورى في الاختيار، حيث يجتمع الشعب ويتفق على شخص، أو يجتمع الأساقفة والأراخنة "جمع أرخن"، وهي كلمة من أصل يوناني تعني رئيس أو متقدم ويُقصد بها أعيان الأقباط، لاختيار شخص، وأحيانًا أخرى كانت تقام القرعة وفي بعض السير نرى حدوث أعجوبة تجعل الأنظار تتجه لاختيار شخص بذاته،

ويذكر تاريخ البطاركة بالتفصيل في بعض السير تاريخ المجامع وانشقاق الكنيسة، ويتبارى المؤرخون الأقباط للشهادة بالدور الذي قام به بعض الآباء والبطاركة للدفاع عن الإيمان الأرثوذكسي.


وإذ يبدأ تاريخ البطاركة بسرد سيرة القديس مارمرقس باعتباره مؤسس كنيسة الإسكندرية وأول بطريرك لها، يسرد تفاصيل دخوله إلى مصر والتبشير فيها بالمسيحية واستشهاده على الأراضي المصرية، ونشهد مع تتابع سرد السير اهتمام المؤرخين بازدياد أعداد المؤمنين والكنائس، ويتخلل السرد التاريخي للأحداث الخاصة بالبطاركة سير قديسين أقباط وغيرهم ومعجزاتهم، إذ يهتم جميع مؤرخو سير البيعة بسرد سير الشهداء والعذابات التي تعرض لها المسيحيون في مختلف العصور من أجل إيمانهم، ونشهد أيضًا الطقس الذي يمارس في تلك الكنيسة وكذلك ليتورجياتها وصلواتها المختلفة، يرصد أيضًا المؤرخون البدع والهرطقات التي حاول البعض زجها وترويجها، ويؤكدون على تصدي الآباء لها ورفض الشعب القبطي على مر العصور لكل فكر غريب دخيل عليهم، ونشهد نشأة الرهبنة القبطية ونموها على مر العصور وفترات الازدهار والاندثار التي تعرضت لها الأديرة القبطية والكنائس، فنستطيع أن نتتبع تاريخ بعض الأديرة والكنائس بل وأحيانًا الوصف التفصيلي لبعضها، ونقف على أسباب هدم تلك المباني الدينية أو أسباب التعمير،

ولا يقدم تاريخ كنيسة الإسكندرية فحسب بل يتعرض لكنائس أخرى، مثل الكنيسة الملكانية والسريانية والحبشية، حيث يعرض العلاقات التي كانت تربط هذه الكنائس بكنيسة الإسكندرية، ونشهد مع قراءة نص تاريخ البطاركة منذ بداياته العلاقة الوثيقة التي تربط كنيسة الإسكندرية بكنيسة الحبشة، فكان بطريرك الأقباط هو الذي يرسّم مطران الحبشة، ولم يكن لمطران الحبشة دورٌ ديني فحسب، بل كان يقوم بتتويج كل ملك جديد ويباركه ويصحبه في حروبه وغزواته، وكانت تلك العلاقة الوطيدة لها تأثير مباشر على علاقات المؤسسة الحاكمة في البلدين. 


 

تاريخ سياسي

بدأ تاريخ البطاركة مع دخول العرب مصر يأخذ شكلًا أكثر اكتمالًا، فلقد بدأ مؤرخو السير يهتمون أكثر برصد كل ما يدور حولهم من أحداث سياسية وحروب وخلافه، فيستطيع القارئ للنص رصد تاريخ مصر السياسي من خلال تاريخ البطاركة، فالثورات التي قام بها الأقباط بل وفي أحيان كثيرة انضم إليهم المسلمون بسبب الإفراط في فرض الجزية والخراج والضرائب المختلفة والتي يجهل الكثيرون تاريخها نقرؤها بالتفصيل في هذا النص، فنقرأ مثلًا عن الثورة البشمورية وهي تعد من آخر الثورات التي قام بها الأقباط والتي تم قمعها بشكل شديد الدموية، فلقد عانى أهل مصر من الضرائب الفادحة التي كانت تفرض عليهم، فكان متولو الخراج يؤذون الناس في كل مكان حتى باع الناس أولادهم من كثرة العذاب "لأنهم كانوا يربطونهم في الطواحين ويضربونهم حتى يطحنوا مثل الدواب"، وكان من أكثر من يعانون هم البشموريون فبدأوا يمتنعون عن دفع الخراج، وأرسل المأمون إليهم الأنبا يوساب (52) والأنبا ديونسيوس بطريرك أنطاكية لإثنائهم عن ثورتهم وطلبهم الخضوع للخليفة، ولكنهم رفضوا الانصياع للبطريرك وللخليفة، واستمروا في ثورتهم، وتسلحوا وانضم إليهم كثير من العرب، فأمر المأمون الأفشين بأن يهاجمهم فلم يقدر عليهم لمناعة منطقتهم المحاطة بالمياه، وكانوا يقتلون من جنوده كل يوم عددًا كثيرًا، فأرسل الأفشين إلى المأمون مرة أخرى طالبًا منه دعمًا، فسار الخليفة بجيشه ليحارب البشموريين، وأمر أن يجمعوا كل من يعرف طرق ومسالك مناطق البشموريين كدليل، فجاء عدد من أهل المدن والقرى المجاورة لهم، واستطاع جيش الخليفة الانتصار عليهم بعد معارك ضارية فأهلكوهم وقتلوهم بالسيف ونهبوهم وأخرجوهم من مساكنهم، وأحرقوها، وأفرد النص في بعض الأحيان ورقات مطولة لسيرة والي أو خليفة، فنراه يسرد من خلال سيرة البابا زخرياس (64) تفاصيل كثيرة تخص الحاكم بأمر الله، فلقد أرخ لتلك الفترة من تاريخ مصر ميخائيل أسقف تنيس، وذكر أنه كان طفلًا في زمن ذلك الضيق وكان يقصد بذلك فترة حكم الحاكم، وقد قدم وصفًا للحاكم يتفق كثيرًا مع ما قدمه المؤرخون المسلمون، فيذكر أنه كان حقيرًا في خلقته، وكان كالأسد في منظره، وعيناه واسعتان وأنه إذا نظر إلى واحد قد ارتعب من هيبته، وكان صوته جهوريا، وفى ذكر أنه في بداية حكمه قتل أكابر دولته وكتابه وقطع أيدي قوم، فأول من قتل كان برجوان الذي رباه، وأفرد قصة تخص سبب قتله لأستاذه الذي رباه، إذ كان يدعوه في صغره الوزغة فعندما تولى الحكم أرسل من استدعاه وقال له: هوذا الوزغة قد صار تنينًا وقام بقتله، ويذكر أيضًا أنه فعل أفعالًا لم يسمع أن أحدًا من الملوك فعلها، ولم يكن يثبت على رأي واحد، ولا اعتقاد واحد، وأنه كان يخدم النجم المعروف بزحل، وكان مداومًا لطواف الجبل الشرقي بمصر ليلاً ومعه في أكثر أوقاته في حين طوافه ثلاثة ركابية، ورفض لباس الملوك ولبس ثوب صوف أسود وربى شعره حتى نزل على أكتافه وكان يمشي في الليل فى الشوارع، ويتسمع على الناس ما يقولون بسببه، وكان له جواسيس كثير، ومخبرون يطوفون ليلاً ونهارًا ويرفعون إليه الأخبار ولا يخفى عنه شيء من أخبار مصر، ويذكر بكثير من التحفظ دعوة الهادي بتأليه الحاكم، ويتحدث بشيء من الإطناب عن الأوامر التي أصدرها الحاكم ومنها تلك الخاصة بمنع مأكولات معينة وقتل الكلاب والخنازير، ولم يفته أيضًا أن يذكر الأوامر التي أصدرها الحاكم ضد المرأة وعدم إمكانية خروج المرأة من منزلها في ذلك العصر بسبب تلك الأوامر المتشددة ضدها، وبالطبع سرد بكثير من التفصيل اضطهاد الحاكم بأمر الله لأهل الذمة من يهود ومسيحيين، وروى بكثير من الأسى استشهاد الأراخنة الأقباط مثل الريس فهد، وإذ تشهد السنة الأخيرة قبل اختفاء الحاكم تغييرًا جذريًا في سياساته حيث يأمر بفتح الكنائس واطلاق الحريات الدينية، نرى تلك الفرحة التي تغمر ذلك الأسقف المؤرخ تجاه هذه السياسة الجديدة، وهنا يظهر بوضوح كيف تؤثر سياسات الحكام على مشاعر المؤرخ القبطي الذي لا يستطيع أن يفصل نفسه عن حياة الأقباط، فنرى بوضوح من خلال صياغته للأحداث فرحه حين يرصد فترات الهدوء والسلام والرخاء في الكنيسة وبين الشعب القبطي، كما نرى أحزانه التي تتجلى في فترات الاضطهاد وهدم الكنائس، ونتبع مع النص أحداث حرب الفرنج (الحروب الصليبية) وموقف الأقباط منها، ونرى المواقف الوطنية للمصريين جميعًا ودفاعهم عن بلادهم وخروجهم دون مقابل أو استدعاء للدفاع عن أرضهم وللحرب، فيذكر أنه عند وصول الفرنج إلى دمياط "خرج من مصر والقاهرة خلق عظيم للجهاد، فمنهم من أنفق فيهم السلطان ومنهم من أنفق فيهم وجوه المدينتين، ومنهم من خرج من ذات نفسه دينا"، ويسرد المؤرخ القبطي تفاصيل حربية دقيقة لوصف المعارك الدائرة، ويوضح ما تعرض له المسيحيون المصريون (أقباط وملكانيون) من شدائد ظنًا من الكثيرين أنهم موالون للفرنج وخاصة الملكانيين، ويرسم تاريخ البطاركة صورة لصلاح الدين الأيوبي توضح مدى عدله، ولا يشوب تلك الصورة الجميلة – من وجهة نظر المؤرخ – إلا اضطهاده للنصارى في بداية حكمه، فلقد اضطهد صلاح الدين الأقباط في بداية عهده اضطهادًا شديدًا، إذ أمر بانتزاع الصلبان من على قباب كل الكنائس في ديار مصر، وأن تلبس الكنائس بالطين الأسود من الخارج وألا تدق النواقيس، وأن يغير الأقباط زيهم، ولا يركبون الخيل ولا البغال بل يركبون الحمير، وأن يخفضوا أصواتهم في صلواتهم، كما أمر بصرف الأقباط من وظائفهم ومنع استخدامهم في النظارة والدواوين، ولكن لم يدم ذلك طويلًا، إذ تغيرت الأحوال، فقرب صلاح الدين إليه النصارى وسمح لهم بركوب الخيل، بل وساروا معه في الغزوات كتاباً لديوانه ولجنوده، ولم يترك مؤرخ تلك الحقبة من تاريخ البطاركة مناسبة إلا وأعلن تأييد الله للسلطان وتمكينه له من النصر.

 

وهنا نرى بوضوح كيف أيد المؤرخ القبطي فتوحات صلاح الدين وأوضح مساندة الله له في حربه ضد الفرنجة، فلقد برزت النزعة الوطنية عند المؤرخ القبطي الذي لم ينخدع بحاملي الصليب ولم يؤيدهم بل تغنى بفتوحات وانتصارات صلاح الدين الأيوبي في حربه ضدهم.


ومن الملفت في تاريخ البطاركة أن المؤرخين – في أحيان كثيرة – يبررون الأحداث ويرجعونها لأسباب دينية بحتة ترتبط برضا الله على رعيته أو غضبه عليها، فالتغيير الذي حدث في سياسة صلاح الدين مع الأقباط أرجعه المؤرخ لصلوات البابا مرقس (73).


وجدير بالذكر أن كثيرا من الحكام قد اتخذوا رجال دولتهم وأهل ثقتهم من الأقباط فنجد منهم الوزراء والكتاب والمباشرين وأطباء الخلفاء .. إلخ.

 


الخاتمة

قدمت تلك السطور القليلة فكرة سريعة جدًا عن نص من أهم النصوص الذي ينبغي أن يلتفت إلى أهميته جموع الشعب المصري، فإن مخطوطة تاريخ البطاركة تعد أكبر المخطوطات من حيث الفترة التاريخية التي تغطيها فهي المخطوطة الوحيدة التي تغطي تاريخ مصر منذ الاحتلال الروماني وحتى بدايات القرن العشرين، وهي ترصد كل الظروف الحياتية في مصر من خلال معلومات كتبها في بعض الأحيان شهود عيان للأحداث أو جمعوها ممن شاهدوها وعاشوها في أحيان أخرى.


كما يرصد الظواهر الفلكية التي تعرضت لها مصر على مر العصور واللطيف أنه يرصدها كظواهر عجيبة بشيء من الخوف ويرجعها لغضب الله.