إنَّ نصوص "أحلام فترة النقاهة" هي آخر عمل سردي للأستاذ نجيب محفوظ، وقد طرح في هذه الأحلام أفكاره وآراءه، وأمنياته، وتأملاته الفلسفية والصوفية. حاول من خلالها قراءة الماضي قراءةً تأمليةً، ممتزجةً بآلام الواقع، راصدًا من خلالها قضاياه الذاتية والاجتماعية، ومستشرفًا من خلالها أيضًا قراءة أحداث المستقبل وقضايا وطنه.
صحيحٌ أن "للأحلام حضورًا قويًّا في قصص وروايات نجيب محفوظ، ولكنها في أحلام فترة النقاهة تنفرد بالبطولة، ومن ثَمَّ فهي تثير سؤالًا عن النوع الأدبي عند محفوظ في أحلام فترة النقاهة. فنحن - بالتأكيد - لسنا أمام أحلام يستعيدها شيخٌ على أعتاب التسعين من العمر، ليكتبها لنا كما حَلُمَ بها، وكذلك لسنا أمام قصص قصيرة تخضع للمعايير الفنية لكتابة القصة، ولكننا – بالتأكيد - أمام كتابة فنية بالغة التكثيف والدلالة.
وإذا كانت آليات إنتاج الحُلم رَهْنًا باللاوعي، فإن آليات إخراجه سردًا شفهيًّا أو مكتوبًا هي درجة من درجات الوعي باللاوعي، وهي عند محفوظ ترقى إلى مستوى النوع الفني المستقل عن كل من القصة والرواية، بحيث يمكن للأجيال القادمة أن يكتبوا في رحابها بوصفها نوعا أدبيا".
هكذا انتقل محفوظ من خلال الحلم من اللاوعي إلى الوعي بشخصيات وأماكن متنوعة، متأملًا فيها، و متأثرًا بها من خلال علاقته الروحية بأركانها وتفاصيلها الصغيرة، مستدعيًا شخصيات بعينها في الحُلم كان لها أثرها الجليُّ في الواقع الأدبي والسياسي المصري - إن جاز القول - لما لها من خصوصية في الرؤية والتشكيل الفني، الذي ارتآه محفوظ، حتى يصل به إلى ترسيخ لون أدبي جديد يمكن الانطلاق منه، كي تعبر الأجيال القادمة عن طموحاتها الفنية من خلال كتابة الحلم.
وبالتالي فقد تكون "أحلام فترة النقاهة قد نجحت في أن تجعل كتابة الأحلام عملًا فنيًّا مستقلًّا في بنيته ولغته، يحقق مستويات من التعبير أكبر مما قد تحققه القصة بانهماكها في الواقع اليومي المعيش.
فلم تعد تجربة وحيدة تخص نجيب محفوظ وحده، بقدر ما هي دعوة للالتفات إلى أن كتابة الأحلام شكل سرديٌّ جديد، يقف على التخوم بين الأقصوصة في بنيتها المُكثفة، والحُلم في فضائه التخييليّ، والشعر في فضائه اللغوي.
إنها دعوة رائدة، لنكتب أحلامنا كما كتبنا قصصنا وقصائدنا"، فالحلم له نسيجه الفني الخاص به، تتشكل من خلاله عوالم مُغرقة في الخيال من جهة، وفي الواقع المُتخيل من جهة أخرى.
وتظل "أحلام فترة النقاهة هي العمل الأكثر التباسًا من بين هذه الأعمال؛ إذ يراه البعض لا يدخل في سياق أعمال محفوظ من حيث النوع (الرواية، القصة، الحكاية، المسرح)، ويراه البعض كتابة أدبية رفيعة، ونراه نوعًا منفردًا من أنواع الكتابة الأدبية، يجب الاعتراف به واعتماده من بين أنواع أدبية عديدة طرحتها قوانين التطور الطبيعي في الكون مثل: السيناريو، والقصة القصيرة جدًّا، والقصة الومضة، والكتابة النصوصية، وكلها أشكال تقارب بين الشعري والسردي والسينمائي والمسرحي، وكلها تتحقق في أحلام نجيب محفوظ كما كتبها" ؛ لأنها تمثل لونًا مبتكرًا من ألوان التعبير الأدبي، يحمل قدرًا من تداخل الأنواع نفسها، مرتكزًا على شعرية النص بشكل واضح.
جاءت أحلام فترة النقاهة في كتابين منفصلين الأول صدر عام 2006، وهو الكتاب التذكاري الذي صدر مع مجلة "نصف الدنيا في 2006 " بعد وفاة نجيب محفوظ، أما الكتاب الثاني فقد صدر عام 2015 بعنوان "أحلام فترة النقاهة"، وقد تمت طباعته ونشره في دار الشروق بعد إضافة عنوان فرعي على الغلاف: (أحلام فترة النقاهة "الأحلام الأخيرة") القاهرة 2015".
إشارة إلى أن هذه الأحلام هي الأخيرة في حياة نجيب محفوظ التي أملاها على سكرتيره الخاص وكاتبه الحاج محمد صبري. فكان عدد نصوص الأحلام التي صدرت في مُلحق مجلة نصف الدنيا حوالي (209) أحلام.
أما عدد الأحلام التي صدرت في دار الشروق عام (2015) فكانت حوالي (297) حُلْمًا تقريبًا، فيصبح مجموع الأحلام التي كتبها نجيب محفوظ (506) أحلام تقريبًا.
وهي كل الأحلام التي ذكرها الحاج محمد صبري في حواره مع مجلة نصف الدنيا، بعد وفاة نجيب محفوظ. وقد جاءت الأحلام في القسم الثاني مُذيلة بنسخة مصورة من المخطوط بقلم الحاج صبري، مما يدل على وجود أحلام كثيرة كان نجيب قد أملاها على كاتبه ولم تُنشر.
إنّ أحلام فترة النقاهة - في ظني - نوع أدبي جديد يقترب من فن القصة القصيرة جدًّا، لكنه ليس قصة قائمة بذاتها، بل يمكن أن نطلق عليه فن "الحُلم الأدبي"، وكأن الحلم نوع من أنواع الأدب له سماته الفنية التي يمكن للنقد أن يحتكم إليها أو يستخرجها من خلال القراءة التطبيقية لنصوص الأحلام.
ومن الأحلام التي جاءت في كتاب محفوظ يقول في حلم رقم:(5): "أسير على غير هُدًى، وبلا هدف، ولكن صادفتني مفاجأة لم تخطر لي في خاطري، فصرتُ كلما وضعتُ قدمي في شارع انقلب الشارع سيركًا، اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحل محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرجة، وحبالها المدودة، وأراجيحها، وأقفاص حيواناتها، والممثلون والمبتكرون والرياضيون حتى البلياتشو، وشد ما دُهشتُ وسُررتُ وكدتُ أطير من الفرح.
ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع، وبتكرار المعجزة، مضى السرور يَفْتُر والضجر يزحف، حتى ضِقْتُ بالمشي والرؤية، وتاقت نفسي للرجوع إلى مسكني، ولكن فَرِحْتُ حين لاح وجه الدنيا، وآمنتُ بمجيء الفرح، وفتحتُ الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلني مُقَهْقِهًا".
إنَّ القراءة الأولى لهذا الحلم، تحتمل قدرًا من المعرفة الجمالية بالنص، والغوص في المعنى الباطني للتركيب، فيرتكز حلم محفوظ على رصد لقطات بعينها في صياغة المشهد الشعري الأول في الحلم، فيبدأ الحلم بحركية اللغة (أسير على غير هدى - بلا هدف - صادفتني مفاجأة لم تخطر لي في خاطري)، يصبح المشهد حزينًا في لغته المباشرة، ومشهدًا كوميديًّا في باطنه، حيث ينقلب الشارع سيركًا، وهي صورة مجازية صادمة ترصد التحول من النظام إلى الفوضى اللانهائية، وكأن محفوظ أراد توجيه رسائل نصية متعددة من وراء هذا الحلم، منها إصابة الذات الجمعيّة بالحيرة والخوف معًا، جراء انهيار قيم الخصوصية التي تميز المجتمعات وتنظمها، وتَوَغُّل الملل والضيق في أركان النفس البشرية التي تعيش في هذه الفوضى مجبرة، وعندها تنطفئ الأفراح في عيون الآخرين الذين لا يذكرهم الحلم، ولكن يشير إليهم من خلال الضجر والفتور، حتى يلجأ صاحب الحلم إلى الانزواء الداخلي والبحث عن العودة إلى مسكنه الأول / الزمن الذي يحبه، فيصنع نجيب صورة مفارقة صادمة عندما يجد البلياتشو في مسكنه، فيستقبله مُقَهْقِهًا، علامة على السخرية والفوضى التي سيطرت على العقل الجمعي، بل اقتحمت كل خصوصيات الإنسان، حتى باتت تسكن بيوتنا، وعلامة أخرى على أن الفوضى لم تعد خارج الفضاء الإنساني، بل صارت قابعة في عمقه وزواياه الداخلية. ثُمَّ ينجرف نجيب محفوظ وراء حلمه، فيسقط الزمن، ليدخل في أحداث متشابكة أخرى تجمعها قضايا متنوعة، لا يهمها سوى البحث عن حياة حقيقية تليق بالإنسانية كلها.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020