السبت 15 يونيو 2024

احتفالية المولد.. كرامات آل البيت مدد بلا عدد

فن27-10-2020 | 20:36

 يا أهل بيت النبي دا أنا خدام في واديكم 

  طمعان في نظرة رضى ليا العشم فيكم 

  إنتو رجال الحمى طالت أياديكم

تاخدُمْ بيد العيان اللي احتمى فيكم’’


بركات آل البيت وطلب المدد والاعتقاد في الأولياء وأيضًا القديسين يُعد معتقدًا راسخا في العقل الجمعي، وربما يعتقد البعض أن التبارُك بالأولياء وآل البيت له بُعد طبقي، إذ يقتصر على البنية التحتية من المجتمعات فقط، لكن هذه نظرة ربما تتسم بالسطحية فالمعتقد الشعبي في واقع الأمر لاتقيده تلك الأبعاد الاجتماعية الطبقية أو مستوى التعليم، على العكس هذه المعتقدات تعتمد في أساسها على أبعادٍ روحية وسيكولوجية، حيث يلتمس الإنسان العون عن طريق هذا الوسيط الروحاني, وربما شيوع الكرامات جعل اللجوء للأولياء والقديسين دربًا من دروب البحث عن العلاج والحل.


 فيعرف د. محمد الجوهري "الأولياء " بأنه مصطلح يُشير إلى تلك الفئة من الشخصيات الدينية التي تحظى بتكريم خاص من جانب الناس، ولكنها لا تنتمي بطبيعة الحال إلى فئة الأنبياء أو غيرهم من الشخصيات المقدسة، وقد ترسخ في الاعتقاد الشعبي فكرة أن الأولياء هم الواسطة بين الإنسان وخالقه، كما يعترف المعتقد الشعبي أن للأولياء سلطانا لا حدود له، ويضفي عليهم بعض الخوارق والمعجزات، والاعتقاد في الأولياء يشغل مساحة كبيرة لدى الجماعات الشعبية، فالأولياء يجسدون أحلام وآلام هذه الجماعات في مختلف العصور.


والمجتمعات الصوفية تمثل فصيلا اجتماعيا وثقافيا ودينيا له شعبية كبيرة، ويؤثر بشكل واضح على الفكر الديني الشعبي خاصةً في دعوتها إلى عالم أولياء الله الصالحين سواء كان هذا الولي مصريًا أو وافدًا ومات ودفن في أرض مصر، وهذا التقديس يحمل في طياته عبق النبوة والحنين إلى المرشد والدليل صاحب الدعوة والكرامة العارف بالله وطرقه.


ومن هنا  كان آل البيت في قمة هرم البركات وخاصةً أن التاريخ يؤكد وجود هذه الشخصيات المباركة في أرض مصر، مثل السيدة نفيسة، السيدة زينب، السيدة عائشة، وسيدنا الحُسين  -رضي الله عنهم وأرضاهم-  ويليهم مباشرة الوليّان السيد البدوي وأبي الحجاج الأقصري وغيرهما من الأولياء وأصحاب الكرامات في كل المحافظات، بل يصل الأمر في بعض القرى أن هناك عدة شخصيات لها مقامات تُقام من أجلها الموالد والاحتفالات وتمثل خصوصية لتلك المنطقة كما هو الحال في جنوب مصر (الصعيد) في قنا ودندرة، حيث تكثر الاحتفالات والموالد بشخصيات لها بركات وأهمية روحية كبرى لدى هذا المجتمع، والمُلاحظ أن الضريح( المقام) خاصةً في الأماكن الريفية التقليدية  والجنوب يتسم  بطابع خاص في البناء، يغلب عليه البساطة وذلك على خلاف المساجد الكُبرى المخصصة لأهل البيت -رضي الله عنهم.


مظاهر الفنون والإبداع داخل الاحتفالية الصوفية:


ولابد وأن نتأمل مظاهر الاحتفال بالموالد والعادات، وأيضًا لا يمكننا أن نغفل النصوص الأدبية الروحية سواء كانت شعبية بلهجة دارجة أو بالفصحى كأغاني المديح والتصوف، فهذه الاحتفاليات يتخللها الإيقاع باستخدام الدفوف والطار والطبل البلدي، ونجد من هم محترفون في الرقص والعزف بالطورة، وهي تشبه الصاجات النحاسية ولكنها كبيرة الحجم ولها عدة مقاسات ولكل مقاس منها تون خاص، وتستخدم دائمًا في الحضرة والجلسات الصوفية، ويعزفها بشكل خاص وأساسي الرجال.


والأرغول آلة موسيقية لها حضور أيضًا داخل الاحتفال، وحديثًا نرى الكمانجا، وذلك كنوع من الحداثة داخل الاحتفال، ولكن الآلة الشعبية الوترية الأساسية الربابة. 


ونجد أثناء الحضرة الصوفية راقص التنورة والمولوية، وهنالك فرق بينهما حيث إن الأول راقص التنورة "المصري"،يتميز بالزي الملون والمبهج، ويعتمد على العديد من الحركات الاستعراضية، فهو استعراض أكثر منه حالة دينية روحية كما في المولوية وهي رقصة تجلٍ، موطنها الأصلى عثماني، وهذه الرقصة لها حالة روحانية وقواعد وإشارات باليد والرأس، ويقوم الدرويش بالتمركز في المنتصف ويدور حوله الراقصون ويستمرون في الدوران إلى الوصول للنشوة الروحية فهي بمثابة صلاة، أما عن حلقات الذكر فهناك الأداء الحركي المتعارف عليه، وهو أن يقف الرجال ويقومون بحركات هز الرأس يمينا ويسارا ببطء، ثم تزداد السرعة تدريجيًا، وهذا الأداء أيضًا يعبر عن تواصل روحي وانفصال عن الوعي والوصول عبر اللاوعي إلى عوالم أخرى، والجدير بالذكر أن العديد من المستشرقين قاموا برصد كل ما يتعلق بالاحتفال وحلقات الحضرة والذكر مثل كتاب إدوارد وليم لين، وكتاب (وصف مصر)، والحملة الفرنسية في المبحث الثامن تحت عنوان "حفلات زفة المولد"، ولأهميته سأورد بإيجاز شديد ما ذكره المؤرخون والمستشرقون الفرنسيون عن هذه الاحتفالية، يفتتح هذا الفصل بالحديث عن "مولد ستي زينب"، هكذا كما ورد في الكتاب حرفيًا وهي من أكثر شيخات أولياء المسلمين قداسة.


زفة المولد وما يتبعها من تواشيح ويكون عبارة عن حشد هائل من الطرق الصوفية والفقراء، وذكر الكتاب العديد من الطرق مثل العلوانية، الرفاعية، الشناوية، القاسمية، والبرهامية. 


وذكر المبحث الآلات المستخدمة:  طبول نقرزان طبول الباز – طبلة المسحراتي-  الدفوف- دف البندير.


الرقص في حلقات الذكر: وصف لحركة الرأس كما ذكرنا سلفًا بطيئة ثم تتسارع.


ويذكر في المبحث التاسع وصفا لحلقة الذكر على الطريقة السمانية وهو ذكر يؤدى بالقرب من الإمام الشافعي يستمر لمدة أربعة أيام من 8 محرم إلى 12 ويستغرق ساعة إلا ربعا.


هذا ما جاء في كتاب وصف مصر عن الاحتفالات قديمًا ونلاحظ أنها مازالت تحتفظ بنفس الطقوس ولكن ما يمكن أن نرصده من تغير هو فيما يخص العادات التي كانت تتم أثناء المولد.


قديمًا كان هناك المزين وكان يتم ختان الذكور في المولد،  وكان هناك رقص غواز، ربما موجود حتى الآن ولكن بصورة نادرة، ويصاحب الغوازي البهلوانات والقرداتي وهي مهنة اندثرت أيضًا.


ولكن من المظاهر التى لا تزال راسخة لا تتغير نذكر على سبيل المثال عادات الطعام في المولد وقبله بأيام، حيث يحضر المريدون من جميع المحافظات وربما من بلاد خارج الإطار الجغرافي لمصر لحضور المولد وأخذ البركة والنظرة، ومن هنا نرى الطعام بكثرة وبكميات كبيرة جدًا لإطعام الغني والفقير، ويحضرني في هذا السياق المثل الشعبي القائل


"خرجت من المولد بلا حُمص" فسياق هذا المثل الأصلي خاص بالمولد والحمص الذى يتواجد بكثرة أثناء هذا الاحتفال ولكن مع الاستخدام أصبح له مدلولات أخرى. 


الطب الشعبي عند أولياء الله الصالحين


هناك شواهد ميدانية تؤكد أن بعض خُدام أضرحة الأولياء ابتدعوا لأنفسهم أسلوبًا خاصًا في العلاج وهو أن ينصح المريض بأن يعطيه في ليلة الجمعة شيئًا من متعلقاته كقطعة ملابس مثلا، والباقي على خدام الضريح حيث يتولي هو الأمر واضعًا تلك الملابس أعلى مقصورة الضريح حتى صلاة الجمعة وبعدها يسلم الشيء لصاحبه ويتلقى الأجر ويطلب من المريض أن يرتدي هذه الملابس "وببركة صاحب المقام يتحقق الشفاء". 


هذا الدور العلاجي لبعض خدم الأضرحة لو تأملناه جيدًا سنجده عادة قديمة والكثير سمع عنها، وربما لجأ إليها أيضًا وهذا الدور العلاجي ينطوي على دلالات عميقة فهو ليس مجرد وسيلة ينتفع بها هؤلاء وتكون باب رزق جديدا لهم، وإنما الأمر في حقيقته يتجاوز ذلك ويتعلق بأوضاع المعتقدات الشعبية بوجه عام ومظاهر الاعتقاد في كرامات ومدد الأولياء بوجه خاص.


المياه المباركة عند السلطان الحنفي


وهناك شاهد ميداني آخر قمت برصده يدخل في إطار العلاج وهو الاعتماد على المياه الموجودة في مسجد الحنفي بالسيدة زينب، وبناؤه تاريخي ويأتي إليه الناس من كل حدبٍ وصوب طلبًا للماء، وقصة هذا الماء يإيجاز أنها بئر من زمزم حيث يروي شيخ الجامع شفاهيًا قصة متواترة عن هذه البئر فيذكر أن السلطان الحنفي ذهب ليحج وهو عند بئر زمزم أضاع إناء كان يشرب به وعندما عاد في ليلة ما بعد مرور فترة طويلة وجد هذا الإناء في البئر الموجود حاليًا داخل المسجد، وهذه هي أقدم الروايات عن القصة وهذا المسجد والبئر عمرهما يتجاوز الـ 700 عام أكثر من سبعة قرون من الزمن، وهو مُدرج ضمن الآثار المصرية الإسلامية، وهذا الاعتقاد فيما يخص مياه هذه البئر بغرض التماس البركة والشفاء، ولكن الوعي تغير خاصةً فيما يخص الأمراض المستعصية والعلاج فللعلم والطب اليد الطولى في العلاج بإذن الله تعالى.


هنا نصلي معًا شعار الصوفية


السلام بين الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام، والذي نادى به الحلاج وجلال الدين الرومي في أقوالهما، فيقول جلال الدين الرومي "مسلم أنا ولكني نصراني برهمي وزرادشتي توكلت عليك أيها الحق الأعلى فلا تنأ عني، لا تنأ عني" فوحدة الأديان أحد الأفكار الوافدة مع الأولياء إلى مجتمعنا المصري، فامتزجت بالثقافة الصوفية التي آثرت حب آل البيت وجعلتهم في مقامٍ عليين، فالحب هو الإيمان ولا داعي للفرقة، فالله الواحد نجتمع جميعًا في محبته، ونجد أعلامًا للصوفية في عصرنا الحالي نذكر منهم الإمام علي جمعة والحبيب الجعفري، ونرى تسامحهما ومحبتهما في جميع المواقف والفتوى، ولن أنسَى الاحتفاليات التي تقام في سيناء ومجمع الأديان بالقاهرة على شرف السلام والمحبة وفرق الإنشاد الديني من كل العالم، وهذه الأوقات العصيبة التي يمُر بها العالم  الآن تؤكد لنا  قول الحبيب الرسول -صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"  . جميعنا كيان واحد ونصلي معًا طلبًا للمحبة والرحمة والسلام.