الجمعة 31 مايو 2024

رحلتي مع أهل الخطوة

فن27-10-2020 | 21:34

مكالمة صديقي العزيز، خالد ناجح - رئيس تحرير الهلال - أسعدتني، بعد أن عرفت منها مشاركتي مع كتيبة المبدعين بموضوعات عن التصوف..

ولأنني من بلاد أَحبها الصالحون، حسب اعتراف والد زميلي العزيز إبراهيم سليم -الصحفي بالاتحاد الإماراتية-، عندما قدَّمني زميلي لوالده، بأنني مطعنيٌ، فرده والده بتلقائيةٍ؛ هو من بلاد الصالحين وأولياء الله الزاهدين، أنا بالفعل من قرى كانت عشقًا لأهل الخطوة والزٌهاد أضرحتهم تُزين القرى، وكراماتهم لا تزال تُروى، رغم موت بعضهم منذ عدة قرون.


القرى الجنوبية، بداية من نجع حمادي حتى آخر قرية جنوبًا في أسوان، سكنها الزُهاد المتصوفون؛ الذين وفدوا إلى مصر بلد الأمن والأمان.. وشيوخ الطرق الصوفية، كان الجنوب بالنسبة لهم، المراد المطلوب؛ خلوةً وعزلةً عن العباد؛ للتضرع والتذلل لرب العالمين، يرغبون حياةً موهوبةً للرحمن، يتعبدون فيها لخالقهم؛ ساحاتهم كانت الذكر والتضرع ليلاً ونهارًا، ومجالس تنم عن علم وفكر.

في سنوات المراهقة، كان الفراغ سببًا في حضورى العديد من دروس بعض الطرق الصوفية؛ لا أستطيع أن أقول إنني انضممت لأي طريقة لكنني كنت زائرًا للدروس التي تُقام بين العشاء وتمتد حتى الفجر؛ حضرت دروس العلم، وعرفت أذكار الطريقة ودروسها التي تزيد في نفسي محبة النبي، إذ إن دروسهم مُجملها عن النبى وصحبه فقط.

والجنوب تكثر به الطرق الصوفية؛ مثل الإدريسية، والخلواتية، والرضوانية، وكل هذه الطرق تدعو لإحياء سنة الرسول ومحبة الله دون طلب، نعبد الله لأنه هو الملك؛ نعبده ليس خوفًا من نارٍ أو طلباً لجنةٍ، ورغم أنني حضرت عشرات الدروس، وأحفظ العديد منها، فإن الصوفية البسيطة بعيدةٌ عن شكوك واتهامات البعض، فالصوفيون بشرٌ يعبدون الله.

تعلق قلبي بمتابعة أخبار الصالحين والزُهاد، كنت أفرح بالتواجد في ساحاتهم، ومن خلال عشقى للتواجد في الموالد، سمعت عشرات القصص لأقطاب التصوف وكراماتهم، مثل كرامة التمساح للشيخ الراحل إبراهيم الدسوقي، الموجود ضريحه في الدلتا، لكن أتباعه عشرات الآلاف في الجنوب، وسمعت بنفسي عشرات الحكايات عن كرامات القطب الصوفي، أحمد رضوان؛ الولي الذي تعلق به قلب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتكفل بعلاجه عندما اشتد عليه المرض، ويوم وفاته في ١٠ يونيو ١٩٦٧، وبعد أيام قليلة من نكسة ٥ يونيو، أصر الرئيس عبدالناصر على الإشراف على مراسم دفنه، وخرجت سيارات من رئاسة الجمهورية تحمل جثمان الشيخ لمسقط رأسه في البغدادي جنوب الأقصر، ولم أكمل الطريق، وذلك بعد أن خطفتني دراسة الصحافة من الإقامة في الجنوب، كما عشقت حياة قاهرة المعز.. وبين الحين والآخر أحن لأخبار أولياء الله وأهل الخطوة، وأخص مشاركتي بين نجوم الهلال بموضوعات عن أميرة الصوفية، وأشهر امرأة في طريق التصوف "رابعه العدوية"؛ العابدة التي لم تُنصف في كتب التاريخ، رغم أن الجاحظ أرّخ لها، وكتب عنها فقهاء ومشاهير القرن الثاني الهجري!

وحسبما تقول المراجع عنها، فإنها رابعه إسماعيل العدوية؛ من مواليد البصرة عام ١٠٠ هجرية، وهناك حكايات كثيرة عنها، إذ يُقال إنها كانت جاريةً، وعزفت العود  لفترة من الزمن، لكنها اعتزلت وتابت وتفرغت للعبادة، بعدما رفضت الزواج والارتباط، وهناك رواية أخرى أنها تعرضت للأسر، وكانت تعمل لدى سيدٍ لها أثقل عليها في العمل، لكنه أعتقها وهي في سن صغيرة....... وأياً كانت نصف حياتها الأولى - راقصةً أو عازفةً - فهي أنهت حياتها على أفضل حال، ويكفي أنها صاحبة أجمل عبارات التعبد في البشرية، كانت تُناجي الله بالقدر الذي يستحقه.. لم ينطق لسان عُباد القرن الهجري الأول بعبارة مثل عبارة رابعه "إلهي تحرق بالنار قلباً يُحبك"؟!

قيل عنها إنها كانت كثيرة البكاء، يُغشى عليها لوقت من الزمن؛ إذا  ذُكرت كلمة النار أمامها، وإذا سجدت لله تتضرع، كانت الأرض تتبلل دموعاً. وتُعد رابعة العدوية أشهر نساء الزهد في البشرية، إذا فرغت من صلاة العشاء، تُواصل قيام الليل حتى صلاة الفجر؛ تُناجي الخالق باكيةً، من يتفحص كلماتها لرب العباد، يظن أنها أشبه بنصوص الأدب، حروف الكلمات كلها عشق للواحد القهار، كانت تقول في سجودها (إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وأغلقت الملوك أبوابها؛ وخلا كل حبيب بحبيبه؛ وهذا مقامي بين يديك).

وعند طلوع الفجر تُناجي الله قائلة: (إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ؟ أم رددتها على فأعزى؟ وعزتك وجلالك لو طردتني من بابك، ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبينك.

هكذا كانت أميرة العشق الصوفي رابعة العدوية، ترى المحبة الصادقة سبباً ودافعاً للطاعة، وزهدها وعبادتها للرحمن لا لضمان دخول الجنة أو الهروب من النار، بل كان من أجل الفوز بمحبة الله.

في كتابه "التصوف الإسلامي بين أنصاره وخصومه"، قال د. عبدالرحمن المراكبي -رئيس قسم العقيدة بجامعة الأزهر- إن رابعة العدوية هي السباقة لوضع قواعد الحب والحزن في هيكل التصوف الإسلامي، ووصفها في كتابه بأنها زاهدة عابدة، محزونة خائفة، لا ترقأ لها دمعة ولا يطرف النوم لها جفن إلا على ندرة، فهي ساهرة باكية تقوم لله ساجدة وراكعة، الأرض موضع سجودها كالمستنقع؛ لكثرة دموعها.

ولم تكن العدوية من الشعراء، رغم أن لها قصائد حُب في رب العباد؛ تُعد من أجمل قصائد العشق الإلهي، ومن أبيات شعرها:

أحبك حبين : حب الهوى..  وحبا لأنك أهل لذاكا

فأنا الذي هو حب الهوى.  فشغلي بذكر عمن سواكا


رؤيا غيَّرت طريقها

رغم جمال رابعة الأنثوي، وجدل أولى سنوات حياتها، فإنها ماتت عذراء؛ لم تتزوج، ولم يلمس تضاريس جسدها أي رجل، وقيل إن الصوفي الحسن البصري، تقدم لخطبتها، لكنها رفضت الزواج.. وحياة رابعة، تبدَّلت بسبب رؤية، حيث شاهدت نفسها تسبح في بحر مظلم، وهي تُصارع الأمواج، ثم رأت نوراً، وسمعت هاتفًا يقول لها عودي للطريق السليم!، واستقيظت مذعورة في صباح اليوم التالي، وكانت قدماها تقودانها لأحد مشايخ البصرة، الذى فسَّر لها الرؤيا بأن تُوهب نفسها لعبادة الله وتنصرف عن الحياة التي كانت تحياها، وكانت التوبة، واستمرت عليها حتى وفاتها.

توبة السارق  فى دارها


في مشهد ليلى أشبه بمشاهد سينما القرن العشرين، ملثم يسير في شوارع البصرة، في ليلة باردة ممطرة، حيث الشوراع خالية من البشر؛ والملثم عيناه تراقبان نوافذ الديار التى معظمها مغلق عدا داراً واحدة بابها مفتوح.. الملثم كان أحد لصوص البصرة الذي يخرج ليلاً للسرقة، ولا يُفرق بين سرقة فقير أو ثري.. وإذا به يدخل دار رابعة، ولم يسمع صوتًا، فتسلل للدار على أطراف قدميه وتجول فيها، فلم يجد سوى إبريق وامرأة ساجدة لله، وطالت السجدة، فتماسكت قدم اللص بالأرض، وأمسك بالإبريق، وبعد فترة همَّ بالانصراف، وسمع صوت رابعة تُناديه، وتقول له: توضأ بماء الإبريق وصلِّ لله، وأعلن توبتك، وسيكتب الله لك رزقاً حلالاً.. كان اللص الملثم يُريد أن ينطق لسانه بكلمة، لا للمرأة التي تُكلمه، لكنه لا يعرف كيف استجاب لها، وبالفعل توضأ وصلى وأعلن توبته، والدموع تتساقط من بين جفنيه مثل حبات المطر..