السبت 29 يونيو 2024

"المطارد".. فصل جديدا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"

فن28-10-2020 | 10:54

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل..المذكرات المخفية" للكاتب "محمد الباز" والفصل جاء تحت عنوان "المطارد".

لماذا كتبت خريف الغضب؟

(1)  

لم يكن "خريف الغضب" غضبى أنا شخصيا.

أنا لم أكن غاضبا، لكن مصر كلها هى التى كانت غاضبة بما فيها هو، ربما كان هذا سببا فى أننى لم أشعر بالندم إطلاقا على أية كلمة قلتها فى خريف الغضب، لأن الكتاب شأنه شأن الشهادة محكوم بزمن ورؤية، وفى وقته، أعتقد أنى كنت منصفا.

بدأت أفكر فى كتابة "خريف الغضب" منذ اللحظة الأولى لاعتقالى فى 3 سبتمبر 1981، حين التفت ورأيت حولى فى السجن كل هؤلاء الذين يمثلون الرموز الحية لأهم التيارات السياسية والفكرية المؤثرة فى مصر.

تحققت ساعتها أن المقامر الكبير قد قام بآخر لعبة كبرى، وجازف بأوراقه كلها مرة واحدة، ولقد كنت مقتنعا – بشكل شبه وجدانى – أننى أعيش فى دراما سوف تصل إلى نهايتها فى يوم من الأيام وبشكل من الأشكال، وأننى كصحفى قد أكون مطالبا بان أروى قصتها قبل غيرى.

أثناء شهور السجن تحدثت مطولا إلى آخرين عما يحدث (وعلى أى حال فلم يكن هناك ما يمكن عمله غير الحديث) أولا مع هؤلاء الذين كانوا فى زنزانتى، ثم بعد ذلك مع غيرهم حينما سمح لنا بالتجول بعض الوقت فى فناء السجن.

تحدثت مع كثيرين بغير عدد: وزراء سابقين ( كان فى ملحق مزرعة طرة عدد من الشخصيات تكفى لتشكيل مجلسين أوثلاثة مجالس من الوزراء) ومع اقتصاديين بارزين، ومع زعماء نقابيين من الطراز الأول، ومع أساتذة جامعات لهم إسهامهم المشهود فى جميع المجالات، وتحدثت أيضا مع مشايخ وشباب من الأصوليين الاسلاميين، وفيما بعد مع عدد من رجال الدين المسيحى، وأعتقد أننى مدين لكل هؤلاء ليس فقط بصداقتهم، ولكن أيض للخصب الذى أضفوه على مناقاشتنا.

بعد أن خرجت من السجن تلقيت برقية من إحدى الدور العالمية التى تنشر كتبى، وكان نصها" ما هو رأيك فى كتاب عنوانه" السادات بقلم هيكل"؟

 رددت على الفور بالإعتذار قائلا أن الوقت ليس سانحا بعد لمثل هذا الكتاب بمثل هذه الدرجة من الصراحة، ولا أتصور أن أقدم على مثل هذا المشروع قبل أن تمضى سنوات بحيث يتسع الوقت للدرس والتأمل والتقييم، ومن ثم تصبح الكتابة أكثر من مجرد سرد وقائع ومشاهدات وتجارب.

وعندما التقيت بالرئيس مبارك فى ديسمبر 1981، ذكرت له ما جرى.

سألنى: كتاب عن الرئيس أنور؟

قلت: ليس عنه، ولكن عن عملية الإغتيال بالتحديد، وقد عثرت على عنوانه  وأنا فى السجن، فقد كنت لا أفكر فى شئ من هذا القبيل حتى قبل أن يتصل بى أحد من لندن، وعثرت أثناء تفكيرى فيه على عنوان " خريف الغضب".

كرر الرئيس عنوان الكتاب المقترح كما سمعه منى، وبدا حائرا فى فهم مقصدى به، لكنه تجاوز حيرته، وعلق بقوله: ولكن هذا سوف يسبب لك مشاكل كثيرة، لأن الرئيس أنور له جماعات كبيرة.

وقلت: أما عن المشاكل فقد تعودت عليها، ثم إننى أرجوك أن تعرف أن الرئيس السادات كان صديقا، وليس مشكلة أن تختلف آراؤنا، وأن تتباعد الطرق بيننا، لكن ذلك لم يترك لدى أثرا.

زدت على ذلك أنه عندما وقع اغتيال الرئيس السادات وعرفت به فى السجن، فإنى بكيت عليه بصدق، وساعتها زال كل أثر للخلاف وما ترتب عليه، لأن الدم والدموع غسلت كل شئ.

(2)  

لم تكن كتابة هذا الكتاب مسألة سهلة.

كان هدفى فى المقام الأول رواية قصة سياسية كبرى يجب أن تروى، بل كان ضروريا أن تروى إذ أريد لنتائجها المأساوية أن لا تتكرر فى المستقبل.

كان أول الأسباب فى أن كتابتها لم تكن سهلة، هو أن وقائعها سوف تكون صدمة لكثيرين فى الغرب، تولدت لديهم انطباعات معينة عن شخصيات وسياسات، وكانت هذه الانطباعات غير متسقة مع الوقائع، بحيث أن ظهور هذه الوقائع كان خليقا بأن يكون مفاجأة مستغربة.

والسبب الثانى فى أن كتابتها لم تكن سهلة، هو العنصر الشخصى فى الموضوع.

 ففى الحقيقة فإن هذا الكتاب لم يكن حكما على السادات انطلاقا من ضغينة شخصية ضد الرئيس الذى اختلفت معه، وانتهى خلافنا إلى قراره بوضعى فى السجن شأنى شأن آلاف غيرى فى حملة اعتقالات سبتمبر 1981.

لم يكن هذا التصور صحيحا، بل ولم يكن قائما.

إننىى لم أحمل ضغينة شخصية على الإطلاق ضد السادات، فإختلافنا كان اختلاف فى وجهات النظر، واختلاف رؤى، ولم يكن فيه عامل شخصى على أى وجه من الوجوه.

الحقيقة أننى كنت شديد التعاطف مع السادات كإنسان.

فى السنوات الأربع الأولى من رئاسته كنت كما اعترف هو فى حديث صحفى أدلى به إلى مجلة " الأسبوع العربى" اللبنانية، أقرب إليه من أى شخص آخر، وكان الرئيس السادات فيما أظن صادقا فيما قاله.

 وأعتقد أننى لعبت دورا مؤثرا سواء كوزير للارشاد أوكعضو فى مجلس الأمن القومى وقتها، أو كرئيس لتحرير الأهرام، فى المداولات والمشاورات السياسية التى أدت إلى اختيار السادات رئيسا للجمهورية بعد رحيل جمال عبد الناصر.

لم أكن غافلا عن بعض أسباب القصور فى شخصيته، لكنى تصورت أن أعباء المنصب و المسئولية سوف تقوى كل العناصر الإيجابية فى شخصيته، وسوف تساعده فى التغلب على جوانب الضعف فيها، ولذلك لم أتردد فى إدارة حملته للرئاسة كوزير للإرشاد القومى، رغم أننى كنت قد قدمت استقالتى فعلا من الوزارة عقب الفراغ من تشييع جنازة عبد الناصر.

ظللت بعد ذلك على اتصال يومى بالسادات، وأعتقد أننى أديت دورى بأقصى ما أستطيع من جهد وإخلاص حتى جاءت حرب أكتوبر 1973 التى شاركت فى وضع الخطة السياسية والإعلامية التى مهدت ورافقت المعركة العسكرية فيها.

(3)

لم يكن صحيحا أيضا أن الرئيس السادات أقصانى من منصب رئيس تحرير الأهرام، وأن القيطعة بسبب ذلك استحكمت بيننا، لقد كانت هناك خلافات فى الرأى بيننا، واستحكمت هذه الخلافات أثناء فك الارتباط الأول وبعده مباشرة إلى درجة لم أعد أستطيع معها أن أشارك فى التعبير عن السياسة المصرية.

كان قرار الخروج من الأهرام قرارى.

 كنت أعلم حين عارضته علنا فى أسلوب مفاوضاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفى الأهداف المرحلية والبعيدة المدى لهذه المفاوضات أن الأمور سوف تصل بيننا إلى صدام، ولم نتحول بهذا الصدام إلى أعداء، ثم عرض على أكثر من منصب فى الدولة، ومرة أخرى اعتذرت لأننى أحسست أنه ليس بمقدروى أن أخدم سياسات تتعارض مع ما أؤمن به.

كانت هناك فترة فى علاقتى بالرئيس السادات توحدت فيها مقاصدنا.

كلانا كان يطلب سلاما قائما على العدل فى الشرق الأوسط.

وكلانا كان يريد أن يرى مصر حرة ومزدهرة، والعالم العربى موحدا وقويا.

ولكن تطورات الأمور جاءت بتباين فى رؤانا بدأت باختلاف حول الوسائل وانتهت بتباين أو حتى بتناقض بين الغايات.

لم أكن أعتبر نفسى معارضا للرئيس السادات، ولكنى كنت أحاول أن أحتفظ بصوت مستقل، وحينما بدأ الرئيس السادات يهاجمنى بانتظام وعلنا، وبالاسم فى كل مرة يتحدث فيها – وحتى عندما زج بى فى السجن – فإنى أشهد أمام الله وأمام كثيرين يعرفون الحقيقة، أنى لم أشعر فى أية لحظة بكراهية له، ولم يكن هناك ما يدعونى إلى ذلك حتى من الناحية العملية، فإنه حين يجعل رئيس الدولة من أحد مواطنيه هدفا دائما لهجماته فهو بذلك يرفع قدره ولا ينتقص منه، وهو ما يجعلنى أقول أننى على نحو ما مدين للرئيس السادات بما أضافه دون أن يقصد إلى قيمتى فى الساحة الوطنية والساحة الدولية عل السواء.

(4)

لم يكن "خريف الغضب" أبدا هجوما على السادات.

ومع ذلك فإننى كنت أعرف أنه سيغضب بعض الناس فى مصر، وسوف يثيرهم ويدفعهم إلى حملات متجددة على، وكنت أفهم أسبابهم، فأنا أعرف أن طبقة معينة أو لعلها جماعات أكثر منها طبقة، وربما أفراد أكثر منها جماعات استفادت من حكم السادات وحصلت فيه على مزايا وثروات لم تكن تخطر بخيالها، ومن الطبيعى أن يحس هؤلاء أن أقدارهم ارتبطت بقدره، لكن مصر وكذلك الأمة العربية والعالم كانوا يحتاجون إلى نظرة طويلة ودقيقة على ما كل ما حدث.

كان السياسى المصرى المخضرم الدكتور محمود فوزى قد قال لى فى وصف دقيق لحكم السادات عندما كان فى أوج سلطته: " إننا نشهد فنا جديدا لأول مرة فى التاريخ، وهو فن المسرحية دون مسرحية، فنحن أمام مشاهد مرسومة فى خلفية المسرح وأصوات وأضواء وألوان وموسيقى تدق وستار يرفع وينزل كل هذا بدون نص".

عرفت فيما بعد أن هذا الحديث مع الدكتور فوزى الذى ورد فيه هذا التشبيه سجل بواسطة أجهزة الأمن ووصل إلى الرئيس السادات وهو الأمر الذى استوجب غضبه عليه حتى توفى الدكتور فوزى، ولم يحظ بتكريم من الدولة كذلك التكريم الذى حصل عليه آخرون غيره أقل منه منزلة واسهاما فى حياة مصر.

كان توصيف الدكتور فوزى حاضرا معى وأنا أفكر فى " خريف الغضب" فقد انتهت المسرحية وانطفأت الأنوار، وانقضى زمن النجوم الكبيرة، وأصبح محتما على البشر العاديين أن يتعلموا كيف يعيشون معا.

قبل خريف الغضب، كنت أحجم عن ترجمة كتبى بنفسى إلى لغتى الأصلية، وإلى لغة قرائى الأصليين – اللغة العربية – وكنت أظن أن قيامى بهذ الترجمة يحملنى ما لا طاقة لى به، إذ أنه يفرض على كتابة كل كتاب مرتين، مرة بالإنجليزية التى أقدمه بها إلى القارئ فى العالم، ومرة ثانية إلى القارئ العربى.

لكن مع " خريف الغضب" آثرت أن أتصرف على نحو آخر، فلقد وجدت من العدل إعفاء أصدقاء وزملاء لى من مشقة ترجمة كتاب هو بالطبيعة صعب ودقيق، وتحملت بنفسى هذه المسئولية، فقمت بالترجمة عن الإنجليزية إملاءا باللغة العربية، والترجمة بالإملاء لها محاذيرها، ومع ذلك فلم يكن أمامى سبيل آخر.

 

(5)

ما نشر من هجوم على " خريف الغضب" فى مصر وحدها، يوازى ثلاثة أمثال حجمه، وتنبأت أن الحملة ستستمر وتتصاعد إلى أن تصل إلى عشرين مثل حجم الكتاب.

لم تكن هناك زوابع من حولى، كانت موجودة فقط فى رؤوس الغاضبين والمحرضين والصاخبين، وأعتقد أن منظرهم غريب أمام الناس، إننا فى الحقيقة أمام مسرحية عبثية من الطراز الأول، فأمامك قوم غاضبون متشنجون يحرضون الناس ضدى وضد الكتاب ويستفزونهم، ويبتزونهم ويحرجونهم ويزورون أقوالهم، ويسوقونهم سوقا للهجوم على كتاب لم يقرأه كاملا أحد من الذين يهاجمون ولا يكاد أحد من الذين يقرأون الهجوم قد اطلع على شئ منه.

الهجوم على "خريف الغضب" كان هجوما على شبح.

 فعلى أى شئ يعلق المعلقون؟ وأى كتاب يهاجمون؟ أليس هذا عبثا؟

هل أنا الذى خنت أمانة القلم، أم أنا الذين طالبوا بمصادرة حقى فى أن أكتب – مصادرة تمتد من داخل الوطن إلى كل حدود الدنيا – هم الذين خانوا تلك الأمانة؟

هل أنا الذى خرجت عن ميثاق الشرف الصحفى، أم أن الذين فعلوا ذلك ويفعلونه، هم الذين يهاجمون ما لم يقرأوه، ويحرضون على مصادرة الكتب والأفكار؟ أليس هذا عبثا مرة أخرى؟

فى الطبعة الدولية من " خريف الغضب" كنت أتوقع أن يثير الكتاب حملات من الهجوم الضارى، وفى مقدمة الطبعة العربية إشارات متعددة ومؤكدة إلى الريح القادمة، ولم يكن الأمر فى حاجة إلى بعد نظر، ولكن إلى نظر فى الأمور فقط.

فى الواقع لم أتضايق من الحملة المركزة التى شنت ضدى، ولكن أكثر ما ضايقنى كان محاولة حسنة النية للوقوف بجانبى، اختارت لها عنوانا " هيكل يدافع عن نفسه"، ومع الأسف فإن ذلك لم يحدث على النحو الذى قيل أنه حدث مع تقدير لسلامة القضية هو" خريف الغضب" وقد صودر الكتاب، ولهذا فلا قضية هناك.

عندما نشرت جريدة الأهالى فصولا من الكتاب قبل صدور الطبعة العربية، لم أكن على علم مسبق بنية " الأهالى" محاولة نشر الكتاب، عرفت قبلها بيومين فقط، وأن النشر سيتم بالترتيب مع جريدة الوطن الكويتية، وقد قدرت ذلك وشكرت القائمين على النشر، لأنهم قاموا بمخاطرة، فقد كنت واثقا أن تدخلا سوف يحدث بشكل ما فى لحظة ما، ولم أتصور على الإطلاق أن يكتمل نشر الكتاب، وهو ما جرى، فلا أستطيع أن أتحدث عن حقوق الحرية، أن أنسى أحكام الأمر الواقع، وإلا كنت أترك نفسى للسراب.

قررت ألا أرد على هذه الحملة، لأننى لا أرد على حملات، إذا كان هناك حوار موضوعى فإننى على استعداد له، وأما حين يصبح الأمر شتائم وسباب فإن المسألة تختلف، بعض ما كتبوه عنى يشكل قذفا صريحا، وقد طالبنى بعض أصدقائى من المحامين أن أرفع قضية قذف، وناقشتهم طويلا، كان من رأيى أننى لا أستطيع أن أكون طرفا فى أى شئ، ولا حتى فى خصومة مع بعض الناس، هذه ليست فقط قضية كبرياء، ولكنها أيضا قضية كرامة، فأنا لا أعتبر أن ما قيل عنى – خصوصا من قائليه – يمكن أن يسبب لى ضررا بل العكس.

كانت الحملة على وعلى الكتاب بدعوى الوفاء والحرص على ذكرى ما فات بما فيه حرمة الأموات، وهو ادعاء حق يراد به باطل، الحقيقة أن هناك مصالح وأقدار ومقادير تريد أن تحافظ على نفسها وليس على أنور الساددات.

وقتها رآنى مواطن مصرى بسيط وأقبل على مشجعا يقول لى: لا تخف من أحد، الحقيقة كلها ظاهرة أمام الناس، الحقيقة فى القفص، وكلنا نراها فى عصمت السادات، ولا نحتاج إلى غير ذلك من شئ.

ما قاله هذا المواطن البسيط لى، هو الحق مقطرا وصافيا، فحيثيات الحكم التى أصدرها قاض نزيه صنع بها تاريخا جديدا فى القضاء، وحول قانونا أريد به أصلا أن يكون أداة بطش، فجعل منه باب عدل، أوضح وأصرح من أى شئ يمكن أن يقوله كتاب أكتبه أنا أو يكتبه غيرى من الناس.

إن حيثيات الحكم حسمت فى منطق عصر بأكمله، لكن بقايا القوى والجماعات المستفيدة من ذلك العهد كانت تحارب معركة بقائها، وأظن أن ما قلته فى " خريف الغضب" كان يمس كثيرا من النقط الحساسة بالنسبة لهذه القوى والجماعات، وحين علمت بقرار مصادرة الكتاب لأسباب أمن، فإنى كنت على استعداد لأن أفهم بل وألتمس الأعذار للقارئ مع أسفى له، وأعترف أننى ابتسمت عندما أخبرنى أحدهم بقرار المنع، وهو يضيف أن هناك قصة عنوانها " الشمس لا تشرق مرة واحدة".

(6)

هناك أيضا الذين انتهزوا الفرصة من الكتاب المحترفين لتصفية ما يعتبرونه حسابات معى، وهؤلاء يقولون إننى كنت الكاتب الأوحد فى عهد " عبد الناصر" وإننى غاضب لأننى فقدت هذه المكانة، وأنا لم أكن كاتبا أوحدا، فقد كانوا جميعا يكتبون وينشرون، وليس من بينهم من لم أقف معه فى أحلك الظروف ولم أفعل كل ما فى وسعى لمساعدته، ولولا أننى لا أريد أن أمن على أحد، لذكرتهم واحدا واحدا وبالإسم ورويت ما قدمته لهم.

لقد تفهمت هجوم الغرب على " خريف الغضب"، فهذا رجل بدا لهم صديقا على استعداد لأن يعطيهم كل ما يطلبونه وأكثر، فى منطقة كانت بالنسبة لهم مصدر خطر وقلاقل، وعندما سلمت مخطوطة كتاب " خريف الغضب" لمجموعة الناشرين الدوليين التى تملك حقوق نشر كتبى، قلت لهم: إن هذا الكتاب سوف يكون صدمة للقراء فى الغرب، وإننى أتوقع أن تكون التعليقات عليه شديدة، ونبهتهم إلى أن الناشرين الأمريكيين قد يجدون صعوبة فى نشره، لأنه يحمل الولايات المتحدة الأمريكية ووسائل الإعلام فيها بالذات جزءا كبيرا من الظروف التى أدت بالسادات إلى النهاية المأساوية التى انتهى إليها، وقد ظللت أتابع باهتمام لم أشعر به من قبل حركة التعاقدات على هذا الكتاب الجديد فى اللغات المختلفة فى الغرب.

وحين عرفت أن إحدى كبريات دور النشر الأمريكية وهى " راندوم هاوس" قد سارعت إلى الحصول على حقوق الكتاب أحسست أن الإعتبارات المهنية غلبت على الإنطباعات الغريزية.

 والواقع أنه كان هناك فارق بين تناول الصحف الأمريكية للكتاب، وتناول الصحف الرسمية المصرية له، فالقارئ الأمريكى يقرأ الكتاب فى الوقت الذى يقرأ النقد له، والذين نقدوا الكتاب فى الصحف الأمريكية وافقونى على بعض ما فيه واختلفوا معى على بعضه الآخر.

إن مجلة " نيوزويك" الأمريكية مثلا، خصصت للكتاب كل المساحة المخصصة لباب الكتب، وهذا دليل على تقديرها لأهميته، وفى مناقشته قالت أنها لا تختلف معى فى أن السادات كان كسولا، وأن حكمه كان فاسدا، ولكنها ترى أنه رجل عظيم لأنه كان رجل سلام.

الغريب أن الصحف المصرية التى تنقل ردود أفعال الصحف الأمريكية، نقلت ما اختلفت فيه مع النيوزيوك، ولم تنقل لقرائها طبعا ما اتفقت فيه معى من آرائى فى السادات.

الغريب أن بعض الذين هاجمونى يزعمون أننى قلت أن السادات كان بهلوانا، لكنى لست قائل هذا الوصف، ولكنه " هنرى كيسنجر" .

لماذا نذهب بعيدا، هذه فقرة من مذكرات " ريجنيو كارتر" النجم الآخر فى ثالوث كامب ديفيد.

يقول برجنيسكى بالحرف فى هذه الفقرة: بين كل الساسة الأجانب الذين تعامل معهم كارتر، فإن السادات كان أقربهم إليه، كان حبا من أول لحظة بين الطرفين، وليس هناك أدنى شك فى أن كارتر كان مهتما بهذا المصرى الطائش والمندفع، الذى كان يمثل خصالا أبعد ما تكون عن خصال كارتر الذى كان قوى السيطرة على نفسه، وذا عقل أدق من جهاز الكمبيوتر، وكثيرا ما جلسنا معا، وكارتر وأنا، نضحك سويا على التناقضات التى تكشف عدم صحة أقوال السادات، وكذلك على تصوراته الجامحة، ولكننا مع ذلك كنا نعجب بجرأته ورؤيته التاريخية المبالغة فى تصورات العظمة، وفى لقاء بينى وبين السادات، صفق الرئيس المصرى فجاؤوه بنموذج للكرة الأرضية وضعه فى وسط غرفة بيته وكنا نجلس فيها، وأمسك بمؤشر وراح يعطينى درسا فيما ينبغى أن تكون عليه الاستراتيجية الأمريكية، وكانت وصفاته جديرة بأن تجعل " تيودور روزفلت" أشهر الرؤساء الاستعماريين يبدو وكأنه حمل وديع.

(7)

اندهشت من رد الفعل العربى الذى بدأ ببيان نشرته جريدة الشرق الأوسط، قالت فيه أنها مضطرة لأن تتوقف عن نشر حلقات " خريف الغضب".

سبب اندهاشى أننى لم أكن طرفا فى أى تعاقد مع جريدة "الشرق الأوسط" ولا مع أى جريدة أخرى عربية أو أجنبية، فأنا أتعاقد مع مجموعة الناشرين الدوليين الذين ينشرون كتبى وأعطيهم كل حقوق الطبع والنشر، بما فى ذلك النشر فى الصحف والإعداد الإذاعى والتليفزيونى وبكل اللغات، وأنا أفعل ذلك لأننى لا أستطيع من حيث الجهد أو الوقت أن أتابع عملية طبع ونشر وتوزيع حسابات كتبى فى بلاد بعيدة فى أنحاء العالم، وأنا أشترط فقط ألا تباع لى حقوق نشر فى إسرائيل، وألا تباع لى حقوق فى أى دولة عربية بينها وبين مصر نزاع، وبالتالى فإن العقد كان يمنع الناشر من أن يبيع لى حقوق نشر فى ليبيا مثلا أو غيرها ( فى وقت ما )، درءا لحسابات أعرفها، وأعترف أننى أشترط ذلك وأنا خجل، وبالنسبة لخريف الغضب فإن حقوق نشر الطبعة العربية منه فى كتاب وفى الصحف قد اشتراها ناشر لبنانى من الناشرين الدوليين والشرق الوسط اشترت الحقوق منه.

وقد دهشت حين علمت من الناشر أن الشرق الأوسط قد طاردته لتحصل على حقوق النشر، لأن الكتاب يضم نقدا كثيرا للسياسة السعودية، ومع أن هناك ما اتفق معه فى السياسة السعودية، إلا أن الكتاب يتعرض بالنقد لبعض هذه السياسات وأنا أعلم أن الشرق الأوسط صحيفة مملوكة لشخصيات سعودية رسمية.

لم أناقش أحدا من ناشرى الشرق الأوسط  عن خريف الغضب، وحين زارنى أحدهم فى فبراير 1982 بفندق فى لندن، وطلب منى أن أكتب لهم مقالات أسبوعية، اعتذرت وقلت له إذا كتبت فسوف أفقد حريتى فى الكتابة عن سياسات السعودية، وكنت أعلم من السيد كمال أدهم نفسه وهو رجل زكى، أنه كان المالك الأكبر لأسهم شركة الشرق الأوسط، قبل أن يبيع نصيبه للأمير سلمان، ومع اعترافى باستنارة الأمير سلمان، إلا أن الجريدة تظل فى النهاية جريدة سعودية رسمية، وأنا لا أخدع نفسى.

قلت له: أنا على أى حال لا أتعاقد الآن على كتابة مقالات فى أى جريدة، وقد توقفت عن كتابة مقالات فى العالم العربى منذ يناير 1980، وإذا كتبت فسوف أكتب فى الوطن الكويتية، لأن الرئيس السادات مارس ضغطا رسميا قويا عليهم كى يمنعهم من نشر كتاباتى، ولكنهم رفضوا كل الضغوط، وهو يجعلنى أشعر بأن هناك ارتباطا أدبيا بينى وبينهم.

 أى لعبة إذن لعبتها مع الشرق الأوسط؟

لقد كنت أستطيع أن أفهم توقفهم عن النشر فهذا حقهم، أما ما يدعو للاستغراب فهى الأسباب غير الحقيقية التى أذاعوها تبريرا للتوقف، إنهم يقولون أنهم توقفوا عن النشر لأن فى الكتاب تطاولا على أموات وخروجا على أخلاق، ومما أدهشنى فى الشرق الأوسط أنها نشرت الفصول الأولى عن حياة السادات وهى التى يتهمها البعض بالتطاول على الأموات، ثم توقفت عن النشر حين بدأت أتحدث عن دور السعودية فى حياة السادات.

حاولت " الشرق الأوسط" أن توحى لقراءها أنها تروج لى، وأنا أتصور أننى الذى استخدمت للترويج للشرق الأوسط، حتى فى منع النشر، ومقالاتى تنشر فى "الصنداى تايمز" فى ذات المدينة التى تصدر فيها الشرق الأوسط وتوزع على 2 مليون قارئ فلست فى حاجة إذن إلى من يروج لى.

(8)

لقد عابوا على التطرق إلى الجوانب الخاصة من حياة الرئيس السادات، والذين قالوا ذلك أما إنهم لم يقرأوا كتب المؤرخين العرب والمسلمين، وأما أنهم يحتقرون عقلية القارئ المصرى، ولو قرأوا كتب السلف الصالح من المؤرخين مثل المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى والسخاوى، لوجدوهم جميعا يربطون ظروف نشأة الحاكم وصفاته النفسية الخاصة بطريقته فى الحكم.

 ولو راجعنا أبواب التراجم فى تلك الكتب، لوجدنا حديثا كثيرا عن أحوال السلاطين الأسرية وزوجاتهم، وأهوائهم وكل ما له تأثير على قراراتهم، صحيح أننى لست مؤرخا ولا أزعم لنفسى مكانة هؤلاء المؤرخين العظماء، ولكنى مجرد صحفى يكتب عما شاهده ويحلل ما عرفه إلا أن ما قاله هؤلاء، ليس صحيحا بل أن المصريين العاديين فى كل العهود لم يكفوا أبدا عن الاهتمام بسلوك حكامهم الشخصى، وهم حساسون جدا من هذه الناحية وهم أذكياء فى التقاط ما هو مؤثر من الصفات الشخصية فى أسلوب الحكم وفى طريقة إدارته.

ليس صحيحا إذن أن القارئ العربى لم يتعود أن يقرأ عن حكامه بالطريقة التى كتبت بها " خريف الغضب" والذين يقولون ذلك فى الواقع يقرون بتميز القارئ الأوربى على القارئ العربى، وإنه يستطيع أن يتناول حكامه بما لا يجسر عليه المصرى حتى بعد أن يصبح هؤلاء الحكام تاريخا.

عاب على البعض أننى تعمدت أن أحقر الفقر والفقراء، وأننى بما رويته عن والدة السادات كنت أتعمد الإزدراء به، وهذا فهم مغرض لما كتبت، فأنا لم أعير السادات بفقره، لكننى لمته لأنه وهو الذى ظلم فى طفولته قد انحاز حين حكم إلى الظالمين، وأخذت عليه أنه لم يحب أمه ولم يحترم تعاستها، ولم يفهم تضحيتها، وهذا عيب فيه لا فيها، إن الفقر ليس عارا، هذا صحيح، ولكنى لم أكن بصدد إصدار حكم على الفقر، ولكن بصدد تحليل تأثير طفولة قاسية على رجل حكم مصر 11 عاما، وأصدر قرارات غيرت مسار سياسة المنطقة، وأنا مع الذين يقولون أن الحرمان قد يلد عبقريا، ولكنه أيضا قد يلد شيئا آخر، والفيصل هو الطريقة التى يتفاعل بها الإنسان مع ما يتعرض له من حرمان أو قهر اجتماعى.

أنا لم أعير أنور السادات بفقره ولا بلون والدته، ولكنى فقط فسرت الطريقة التى تفاعل بها مع تلك الظروف التى لم يكن الوحيد الذى تعرض لها، وليس بالضرورة أن يتفاعل كل الذين تعرضوا للظروف ذاتها، معها بنفس التأثير، إن نشاة السادات المتواضعة لم تكن موضع انتقادى لا صراحة ولا ضمنا، ولا يمكن أن يكون الفقر محل انتقادى ولكنى ربطت بينها وبين انتقاله حين حكم إلى مصادقة " آل روكفلر" و" آل أوناسيس" و" آل بهلوى" والتأثر بأسلوب حياتهم، وذلك الأمر لا يخص السادات ولكنه يخص كل مواطن فى هذه الأمة.

فات هؤلاء الذين قالوا أننى تناولت لون أنور السادات أننى لست أبيضا، أنا من الصعيد، وعندى أصدقاء من إفريقيا، ولست عنصريا، ولا أتصور أن اللون نقيصة، لكننى حاولت أن أجد فى اللون مفتاحا للنفاذ لأنور السادات، كذلك حاولت استعمال مفاتيح النشأة والبيئة، وهى مشروعة وعلمية، كل واحد فينا هو ذلك الطفل الذى كان.

وفات أيضا الذين قالوا أننى أعيره بفقره أننى لم أولد فى عائلة مليونيرات.

 أنا من الطبقة المتوسطة التى قدمت من الريف إلى المدينة.

لقد تصور البعض أننى أعايره، وهو ما لم يخطر ببالى، أنا حاولت أنا أفهم مكوناته بقدر ما أستطيع.

(9)

" خريف الغضب" لم يكن قصة حياة أنور السادات كشخص، ولم يتعرض من حياته إلا للعوامل التى جعلته يتصرف تلك التصرفات التى انتهت إلى المواجهة الدموية التى حدثت فى 6 أكتوبر 1981.

 موضوع " خريف الغضب" هو على وجه التحديد ما حدث وأدى إلى حادثة المنصة؟

وشخصية السادات هى موضوع الجزء الأول منه، وقد أخذت من مفاتيح شخصيته تلك التى انتهت به إلى حادث المنصة، وقدمت وثائق بنيت عليها تحليلى، ومن حق أى إنسان أن يقول أن تحليلى خطأ وأن يحلل هو الآخر كما يشاء وعلى الذى يقول أن وقائعى خطأ أن يقدم الصواب.

أنا لم أعتمد فيما ذكرته عن السادات إلا على ما هو مكتوب بقلمه، ومنشور أيضا فى الصحف ونقلته عنه بالحروف والفصل الخاص بعوالم الوهم التى هرب إليها بدءا من هوايته للتمثيل ونشره رسالة فى الصحف يرشح فيها نفسه لبطولة فيلم مع الممثلة القديمة " أمينة محمد"، ثم إعجابه بالعسكرية الألمانية وسعيه لتقمص مظاهرها، إلى تورطه فى مغامرة التجسس مع الألمان، ثم انضمامه بعد ذلك إلى الحرس الحديدى الذى كان يقوم باغتيالات لحساب الملك فاروق وتحويله اتجاه مجموعة حسين توفيق من اغتيال الجنود الإنجليز إلى اغتيال خصوم السراى الملكية، ثم اشتراكه فى محاولة اغتيال النحاس الثانية، كل هذه الوقائع لم أستند فيها إلا لكلام أنور السادات نفسه حرفيا.

(10) 

كتب توفيق الحكيم رسالة إلى تعليقا على " خريف الغضب" والهجوم الذى تعرض له، وقدمها لتنشر فى الأهرام، ولكن الأهرام رفض نشرها، فأرسلها الأستاذ توفيق الحكيم إلى جريدة الأهالى لتنشر على صفحاتها.

قال الحكيم فى رسالته:

" أنا معتقد أنك متأكد من عدم موافقتى على كتابتك السياسية، لأنك تتذكر ما كان يقوم بيننا من خلاف عندما كنا نجتمع فى جلسات مجلس الإدارة بالأهرام، حيث كنت أوجه إليك الهجوم العنيف، ثم تنتهى الجلسة فإذا بذراعى فى ذراعك ونذهب نتناول الطعام معا ونحن نبتسم ونضحك، ذلك أن علاقتنا تقوم على أمرين.. الثوابت والمتغيرات.

أما الثوابت فهى المحبة والمودة وأما المتغيرات فهى الآراء من سياسية وغيرها، لا نخلط أحدهما بالآخر، وإنى أكتب إليك اليوم كى أهدئ من أعصابك بدافع هذه المودة والمحبة، وأنا بالذات لسبب واحد هو: إن حالتى تشبه حالتك.

 فأنت كتبت كتاب هو " خريف الغضب" اعتبر هجوما ضد السادات بعد موته.

 وأنا كتبت كتابا هو " عودة الوعى" اعتبر هجوما على عبد الناصر بعد موته.

وقد يفسر الغضب عندك بأنه وضعك فى السجن، أما أنا فلم يضعنى عبد الناصر فى سجن، فلم يبق أمام العالم العربى إلا التفسير الواحد " عدم الوفاء"، وربما النفاق لعهد آخر.

واليوم أيضا تقوم ضدى القيامة لكتابة أخرى قيل أنها ضد الله تعالى.

 فأنا الآن فى  وحدتى التى تعرفها، لا زوجة ولا ولد، أعيش مع الله وأناجيه، فقالوا أن هذه المناجاة ضلال وإخلال وطردونى من جنة الله وانهالت على خطابات الغوغاء وحتى بعض العقلاء تترحم على عقلى الذى ذهب، والتخريف الذى جاء مع الشيخوخة.

 كل الذى يهمنى بالنسبة لك ولى هو عدم احترام الرأى الحر، فاكتب رأيك ولأكتب رأيى، وليس من الضرورى أن يعجبنى رأيك أو يعجبك رأيى، المهم أن يوجد الرأيان، والأهم أن يكون المجتمع خاليا من السلطة الواحدة المسيطرة برأى واحد فى إمكانه اسكات كل صوت غيره.

كان يحكى لنا فى الحكايات والأساطير القديمة أن للمك وزيرين، وزير عن يمينه هووزير الميمنة، ووزير عن يساره أو شماله، هو وزير المشملة كما كنا نسميه ضاحكين، ولم نكن نسأل عن اختصاص كل وزير، اليوم وارد أن يكون وزير الميمنة هو الوزير المؤيد للحاكم، ووزير المشملة هو الوزير المعارض، والحاكم يستمع لكل وزير بعين الاهتمام، ويستخلص رأيه بعد فحص الرأيين بكل دقة ونزاهة.

 ولقد قلت للمشايخ الأفاضل الذين زارونى فى مكتبى بالأهرام ليسألوا عن حقيقة موقفى من الدين والله والحساب، فقلت لهم: ما دام يوجد حساب فى الأخرة فانا مطمئن لأن معنى الحساب أنه محكمة يسمح فيها بإبداء دفاعى، لأن كل اتهام لابد له من دفاع، وفى الدار الآخرة لابد أن الحساب سيكون فى جو من الهدوء والصفاء يجعل الدفاع مسموعا، أما فى الدنيا فإن أصوات الغوغائية مقترنة أحيانا بأصوات جديدة للمفرقعات تجعل صوت الدفاع يخرج مخنوقا يثير الضحك والاستهزاء أكثر مما يثير الرحمة والرثاء، فلنا الصبر، ولك منى الثابت فى حياتنا المودة والمحبة".

(11)

كان مهما أن أوضح للأستاذ الحكيم ما جرى، فكتبت له ردا على رسالته، وجهت كلامى إليه مباشرة بما بيننا من ود قديم ومحبة دائمة.

قلت له: " جاءتنى كلمتك التى بعثت بها إلى عن طريق الأهالى، ذكرتنى بأيامنا الخوالى، أيام كان الحوار بيننا دائرا لا ينقطع، أديب وصحفى كلاهما له رأيه المختلف ورؤيته للناس والظروف والتاريخ، وأحسبك لم تتغير كثيرا، وأتمنى أن لا أكون أنا الآخر تغيرت إلا بمقدار ما أخذت منى وأعطتنى التجارب والأحداث والأيام.

هل تذكر حكايات " زمان" حتى من قبل أن تجمعنا معا تجربة الأهرام؟

تذكر أيام كنت أنا صحفيا شابا، وكنت أنت أديبا كبيرا يشار له بالبنان، وكان بيننا ما أسميته أنت بالثوابت: " المحبة والمودة"، كان كلانا مشدودا إلى الآخر ربما بحكم اختلاف الطبائع والتوجهات، كنت أنت باحثا عن الحقيقة بإلهام الفن، وكنت أنا باحثا عنها فى خضم الحوادث، وقتها كنا نتغدى معا كل يوم، تدعونى مرة وأدعوك مرة ليتوازن الحساب، وأنت دائما دقيق فى الحساب وكانت لك فيه قواعد أثارت وما زالت تثير عجبى، أو هل أقول اعجابى؟

كنت قد وضعت قانونا للحساب بيننا، إذا كانت الدعوة يوما عليك فقد كان شرطك حازما: لو أردت أنا اختيار المطعم الذى نتغدى فيه فأنت الذى تختار الطبق الذى أطلبه، لو كان لى أن أختار الطبق فأنت الذى تختار المطعم، وهكذا تضمن فى كل الظروف أن تتحكم فى الميزان.

ما زلت كما أنت فى حساباتك وقوانينك، ظننت أنك فى كلمتك تريد أن تدعونى معك إلى غداء، فإذا أنت بفرط ذكائك تدعونى إلى أن أدعوك، وتختار أنت المطعم والأطباق، وتنسى كل فواتير الحساب.

على أية حال أهلا بك، أقولها راضيا وسعيدا، فأنت تعرف أن بى ضعفا ازاءك لا أستطيع أن أغالبه وربما لا أريد.

ومع ذلك فلعلك تأذن لى ببعض ملاحظات على كلمتك، مع العلم أننى كنت قد قررت أن لا أشترك فى جدل أعرف مقدما أنه عقيم.

هل تصدق أننى لا أقرأ الكثير مما ينشر عنى هذه الأيام؟

أعرف أهدافه وأعرف أصحابه وألقى نظرة سريعة على الصفحات الصاخبة، واستذكر مرة أخرى قولة" جورج برنارد شو" انهم يقولون... ماذا يقولون؟...  دعهم يقولون !

وأثق أنك تصدق لأنى أثق أنك تعرفنى.

دعنى أضع خطا فاصلا بين " عودة الوعى" الذى كتبته أنت عن جمال عبد الناصر، وبيت كتابى " خريف الغضب" الذى لم يكن عن أنور السادات.

أعتذرت عن عرض لكتاب يكون موضوعه أنور السادات، لأنى أعتقد أن قصته ما زالت قريبة وليس من السهل تناولها بتجرد، هكذا فعلت مع قصة جمال عبد الناصر، لو أنك اطلعت على مقدمة الطبعة العربية من كتابى لوجدت واقعة هذا العرض مفصلة وكاملة.

إنك بالطبع لم تقرأ " خريف الغضب" ولا الآخرون حتى الآن قرأوه، حتى هذه اللحظة نشر منه فى صحف العالم كله أقل من نصفه، والطبعة الانجليزية من الكتاب ظهرت قبل أيام، ولم تصل من نسخ إلى مصر إلا عشر أهديتها كلها لجماعة من الأصدقاء حتى يكونوا فى الصورة – كما يقال أحيانا – ولا أظن أن الفرصة أتيحت لأحد منهم أن يقرأ الكتاب كاملا حتى الآن.

ويبدو لى من كلمتك أنك فهمت " خريف الغضب" على أنه كان غضبى أنا لأنهم أخذونى إلى زنزانة سجن أغلقوا على بابها.

 دعنى بإذنك وسماحك أصحح لك.

 إن ذلك خريف لم يكن غاضبا لأنى غضبت، الطبيعة ببساطة ليست على مزاج فرد أو هواه، لقد كان خريف الغضب فى كتابى هو وقائع ما جرى فى مصر بين سبتمبر وأكتوبر من سنة 1981، حين كان الغضب عاصفة تهب على الوطن من أقصاه إلى أقصاه.

دعنى أشرح لك فكرة كتابى حتى يتضح لك اختلافه عن كتابك.

لقد بدأت برئيس غاضب، نتذكر كيف كان رحمه الله ضيق الصدر ومنفعلا، آلاف فى المعتقل بقرار، مئات يفصلون من الجامعات والصحف، بيوت الله مساجد وكنائس تنقض عليها الصواعق، قرارات وخطابات ومؤتمرات كلها ساخنة إلى درجة الغليان، هجوم متصل على من لا يمكلون حق الرد والدفاع.

 فؤاد سراج الدين هو لويس السادس عشر الجديد.

فتحى رضوان شيخ جليل أضاع وقاره بعد السبعين.

أنا ملحد هكذا اعترفت أمامه غفر الله له.

والشيخ المحلاوى مرمى فى السجن زى الكلب.

كان الرئيس غاضبا، ولكى أشرح أسباب غضبه فقد حاولت أن أقترب من مفاتيح شخصيته، لم أتخذ من التحليل النفسى معيارا واحدا لفهم التاريخ، ولكنى اعتمدته كما يفعلون فى الدنيا كلها أداة ضمن أدوات، وكان هذا هو الجزء الأول من كتابى خمسة فصول.

كانت جماهير الشعب المصرى غاضبة، وفى الحقيقة فإنها كانت غاضبة منذ يناير 1977، وحين اكتشفت بالواقع العملى أن تضحياتها على جسور العبور تحولت إلى أرصدة بنوك للذين لم يكونوا هناك على الجسور.

كانت غاضبة على مجموعة من الأزمات تشابكت وتعقدت: غلاء... اسكان... مواصلات... اعلام يحكى بما لا يدرى... إلى آخره، وكان الانفتاح وما أدى إليه استفزازا مستمرا، ثم أن الخيارات السياسية والاجتماعية الجديدة فى مصر ترتبت عليها انقلابات استراتيجية على مستوى المنطقة وعلى مستوى الصراع العالمى، كلها قضايا تناولتها تحليلا وتفصيلا.

كان ذلك هو الجزء الثانى من كتابى... خمسة فصول أيضا.

وكان الاسلام دين الحرية والعدل والمساواة، وهذا هو الجزء الثالث من كتابى شاهدا على ساحة الغضب.

 تركت نفسى لبحث طويل عن الأصولية الإسلامية، من منابعها الأولى إلى العصر الحديث، من ابن حنبل وابن تيمية إلى حسن البنا وأبى الأعلى الموودى.

وكانت الكنيسة القبطية غاضبة، فلقد تعرضت لما لم يكن هناك داع له، خصوصا عندما لم يرض البابا شنودة أن يجعل كرسى الكرازة المرقصية أداة سياسية فى يد سلطة تحكم.

تناولت قصة الكنيسة الوطنية لمصر، ورويت طرفا من أسباب الصدام الحاد بين الرئيس الغاضب والبابا الذى غضب.

لم أكن أتحدث عن تجربة غضب ذاتى، وإنما كنت أتحدث عن تجربة غضب موضوعى، ليس غضب فرد، وإنما غضب قوى اجتماعية وسياسية، دينية وفكرية، صدام عنيف له دواعيه الحقيقية، أطرافه قوى وتيارات وليس مجرد فرد حبس نفسه فى زنزانة ذاته بالأنانية أو السجن.

عندما جاء ذلك الخريف – سبتمبر وأكتوبر 1981 – كان الغضب فى كل نفس وفى كل مكان، كان الرئيس غاضبا، وكان الشعب غاضبا، وكان المسجد غاضبا، وكانت الكنيسة غاضبة، وتجمعت العواصف المشحونة بالكهرباء، ثم تصادمت فى ذلك الخريف، وكان ذلك الصدام موضوع الجزء الخامس من الكتاب.

وأما الجزء السادس والأخير من الكتاب فقد كان صاعقة البرق الخاطف من تصادم العواصف المشحونة على المنصة، ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وماذا؟ ومن؟ ومتى ؟ ثم إلى أين من هنا؟

إذن فإن خريف الغضب كان شيئا آخر غير ما بدا لك، وهو إذن يختلف عن كتابك.

كان كتابك تقييما من وجهة نظرك لعصر.

وأما كتابى فكان استقصاء من واقع دراستى لحادث.

إنك أصدرت أحكاما على رجل وعلى سياسات، ولم أفعل أنا ذلك، وإنما أخذت من الرجل والسياسات ما كان ضروريا فقط للوصول إلى نقطة معينة فى الزمان والمكان، الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق من بعد ظهر يوم الثلاثاء  أكتوبر 1981.

هذه ملاحظات طالت، لكنها كانت ضرورية.

هناك ملاحظات ثانية، وهى أيضا تجعل " خريف الغضب" مختلفا عن "عودة الوعى" لقد كنا معا، وأنت تعرف التفاصيل.

منذ سنة 1971 اى بعد سنة واحدة من حكم الرئيس السادات، بدأت خلافاتى معه، لكنها جميعا فى ذلك الوقت كانت خلافات اجتهاد، أو هكذا بدت لى، وكان لابد أن يكون الرأى الأخير له باعتباره المسئول عن سلطة القرار.

ومع ذلك فلعلك تتذكر مواقف حادة بينه رحمه الله وبينى.

 تذكر بالطبع أزمة بيان الأدباء فى بداية 1973، ونقل الصحفيون بالجملة إلى مصلحة الاستعلامات، وتذكر أننى اعتذرت عن تنفيذ هذا القرار فى حدود الأهرام، وهو ما كنت مسئولا عنه وقتها، وتذكر أننى بعد مناقشة علت فيها الأصوات قلت له: إن الحل بيننا أن نجئ بورقة بيضاء يكتب عليها قرار اعفائى من الأهرام، أو أكتب أنا عليها خطاب استقالتى، تذكر أنت ذلك، ولا أريد أن أثقل على الناس بتفاصيله تشدقا بما لا يدع هناك داع له.

تذكر أيضا أن الخلاف معه وصل إلى مفترق الطرق بفك الارتباط الأول.

وتذكر بلا شك أنك حدثتنى أكثر من مرة فى النتائج والعواقب، وأشهد أنك أخلصت النصيحة، لكن القضية كانت أكبر من أى شئ آخر، فلقد كنت أعتقد أن مصر والأمة العربية دفعت جهدا هائلا لتحقيق انتصار ليس هناك شك فيه، وأن تعجز السياسة عن الاستفادة بمعجزة السلاح، فإن النتائج تكون مروعة ومخيفة.

هكذا خرجت من الأهرام فى أول فبراير 1974، ولم أعد إليه ولا إلى أى مكان غيره فى الصحافة أو فى الدولة.

ولم أخرج وأسكت لكنى حملت قضيتى معى وتكلمت، وكان كلامى المستمر من فبراير 1974 هو الذى قادنى فيما بعد – سبتمبر 1981- إلى السجن ضمن عواصف خريف الغضب.

هنا يختلف عودة الوعى الذى صدر بعد ثلاث سنوات من رحيل جمال عبد الناصر، عن كتابى "خريف الغضب"، وتختلف بالتالى ولا تتشابه الأحوال.

لم أكتب بعد موت أحد، كتبت فى حياته رأيى، وكتبت بعد موته نتائج دراستى لما حدث.

 إنه رحمه الله لم يمت على فراشه بمرض ولا فى حادثة تصادم على طريق، وإنما عاد إلى ربه فى إطار مشهد مأساوى دموى عنيف رأته الدنيا كلها رأى العين باللون والصورة والصوت، وكان لابد من محاولة للفهم تذهب إلى ما وراء المشهد المأساوى الدامى على المنصة، وتتقصى الأسباب التى أدت إليه.

تتصل بذلك هنا ملاحظة ثالثة أراها دقيقة ولكنها أساسية.

لقد صدر كتابك " عودة الوعى" فى مناخ محاولة عامة فى العالم العربى لاعادة تقييم جمال عبد الناصر والنظر إليه من جديد وليس يهمنى هنا من الذى كان يحاول أو ما هو القصد، كل ذلك خارج الموضوع، ولكن المهم أنه كانت هناك محاولة.

لم يكن كتابى " خريف الغضب" موجها إلى العالم العربى، وإلا لكتبته باللغة العربية، وهى لغتى الأصلية بالطبع، لقد قلت من قبل وكررت القول إننى منذ اللحظة الأولى لتجربة اعتقالى أحسست أننى متفرج على ما يجرى قبل أن أكون ضحية من ضحاياه، وكنت أشعر أننى سوف أكتب يوما عن تجربة الاعتقال والسجن، ولم يكن ذلك خريف الغضب.

عندما تقرأ هذا الكتاب – ولعل ذلك أن يحدث يوما ما – سوف تكتشف أن كل تجربة السجن لم تستغرق فيه أكثر من صفحتين اثنتين بالعدد، بينما الكتاب نفسه أكثر من ستمائة صفحة.

إن فكرة خريف الغضب جائتنى فى السجن حقيقة، ولكنها جاءت وكانت عواصف الخريف قد هبت ومضت، ولقد أدركت كما أدرك غيرى، إن طبائع الأمور سوف تفتح بوابات الحديد، ورحت أفكر فى عملى كصحفى، وخطرت لى فكرة "خريف الغضب" وتحدثت فيها مع بعض رفاق تلك التجربة المشهودة.

كنت أقدر مسبقا – وهذه حاسة الصحفى – إننى حين أخرج فإن مجموعة الناشرين الدوليين التى تحصل على حقوق كتبى سوف تطلب منى كتابا عما جرى، لقد بدا لهم اغتيال أنور السادات على شاشات التليفزيون لغزا غير مفهوم، فكيف يحدث هذا الذى حدث لنجم عملية السلام التى شدت اهتمامهم؟

ما قدرته مسبقا وقع فعلا.

وهكذا كانت محاولة كتابة " خريف الغضب" للعالم الخارجى، وليس للعالم العربى، محاولة لتفسير ماجرى، أريد أن أضع خطا تحت كلمة " تفسير ما جرى"، أقول " تفسير" ما جرى وليس " تبرير" ما جرى، حتى لو نظرنا إلى القضية كلها كجريمة قتل، فإن الجريمة ليست مجرد اطلاق رصاصة، ولكنها ملابسات ومقدمات ودوافع وتحريض وتخطيط وتدبير، وحكايات طويلة عريضة.

كان الكتاب إذن موجها إلى العالم الخارجى وليس إلى العالم العربى، ولم يكن جزءا من محاولة لإعادة تقييم رجل أو إعادة النظر فى دوره.

أظنك تعلم أننى منذ شهر أكتوبر سنة 1979 لم أكتب مقالا واحد لجريدة عربية، وبالتالى لم أتقاض حقوقا من أى ناشر عربى، وقد يدهشك أن تعلم أننى فعلت ذلك استجابة لطلب من الرئيس السادات، ولم يكن الطلب إلى ولكنه كان موجها إلى جميع الذين يكتبون فى العالم العربى، ومع أنى لم أكن المعنى بالأمر فقد آثرت أن ألتزم به دفعا لحساسيات وتأويلات وجدتنى فى غنى عنها مع كل صداقتى الحميمة لكثيرين من الناشرين العرب، لكن رجوتهم جميعا تقدير موقفى وقد فعلوا.

كا واردا على بالى بالطبع أن بعضا منهم سوف يحاول الحصول على حقوق النشر باللغة العربية لكتاب " خريف الغضب"، لكنى لم أتوقف طويلا أمام هذا الاحتمال إلى درجة أن الناشر اللبنانى الذى حصل على حقوق اللغة العربية كان ناشرا آخر غير الذى تصورت أنه سوف يسبق إلى الحصول على هذه الحقوق.

ترى إذن أن " خريف الغضب" كان فى اطار.

 وأما "عودة الوعى" فكان فى اطار آخر.

 أولها كان بالدرجة الأولى للعالم الخارجى، وكان دخوله إلى العالم العربى مجرد أثر جانبى، وأما الثانى فقد كان اطاره عربيا بالظروف والمناخ وإعادة تقييم الناس واعادة النظر فى أدوارهم.

وهكذا فإنى حين قرأتك تقول لى فى كلمتك أن " حالتى تشبه حالتك" تذكرت قوانينك فى الحساب، وتذكرتها بإعجاب.

ملاحظة رابعة وأخيرة تتعلق بحديثى عن " خريف الغضب" و"حديثك مع الله" أو "حديثك إلى الله" أو"حديثك مع نفسك" طبقا للعناوين المتعددة التى ظهرت متغيرة فوقه.

أنت تملك بخيال فنان ملهم ومبدع أن تضع نفسك على أجنحة النسور وتحلق فى السماوات العلى، أما أنا فلم أقترب من هذا الملكوت الواسع، أنا أعرف حدودى.

 الفنان شئ والصحفى شئ آخر.

 أولهما يملك آفاق النجوم تحمله إليها أجنحة النسور، وأما الثانى فمكانه على الأرض وسط تضاريسها وتخومها ودروبها يبحث ويتقصى وينقب ويحلل ويقارن ويستخلص، وهكذا فإن قضيته كلها هنا وليست هناك فى آفاق النجوم، وعلى الذين يناقشونه أو يحاورونه أو حتى يحاكمونه أن يضعوا كل القضية أمام كل الناس.

على ذكر القضايا سمعت عن مسرحية اسمها "شاهد ما شفش حاجة" من سوء حظى أننى لم أستمتع برؤيتها، أظننا أول مرة نسمع فيها عن مسرحية اسمها "قاض ما شفش حاجة" ولا اطلع ولا قرأ، نراها أمامنا الآن، رأينا بعض فصولها، ولا زالت بعض الفصول تجرى.

أقول هذا لأطمئنك على أعصابى، تقول لى أنك تكتب إلى لكى تهدئها، لك أن تطمئن أيها الصديق الكبير والغالى، أعصابى بخير، فكيف أعصابك أنت؟

أنت تعلم – والله فوقنا أعلم – أنه كان يوما من أسعد أيامى حين استطعت أن أقنعك بأن تنضم إلينا فى تجربة الأهرام، كان العصفور خائفا من القفص، وأظنك تشهد أنه لم يكن قفصا، دعنى أذكرك أيها الصديق أنك فى ذلك الوقت كتبت بعضا من أعظم روائعك.

هل تذكر يوم أعطيتنى مخطوطة روايتك " بنك القلق" كانت نقدا مباشرا وعنيفا لتجاوزات السلطة فى عصر عبد الناصر، لم يكن وعيك غائبا.

تذكر يومها أنك أعطيتنى المخطوطة وقلت لى إنك لم تكتبها للنشر وإنما كتبتها كتجربة، تذكر أنت ماذا كان موقفى، قلت لك أن الأهرام سوف ينشرها بغير تردد، فهذا واجبه.

فى ذلك الوقت أيضا كتب صديقنا المشترك  الأصيل نجيب محفوظ قصصه النقدية الشهيرة " السمان والخريف" و" اللص والكلاب" ونشرها الأهرام جميعا كما نشر غير ذلك كثيرا بدون قصص وإنما بالمواجهة مع المشاكل والقضايا والحقوق.

دعنى أسألك وأنت تعلم محبتى لك، أليس غريبا أن عملك الفنى الكبير " بنك القلق" جاء فى الوقت الذى غاب وعيك فيه، كما قلت أنت، وعندما عاد إليك الوعى ظللت صامتا لم نقرأ لك شيئا حتى جاء حديثك مع الله أو إليه أو مع نفسك.

لقد فهمتك أكثر مما فهمك غيرى، لقد أحسست أنه بالدرجة الأولى نداء وتضرع ودعاء ليس أكثر، وكان على الذين ضاقوا بالأسلوب أن يتعمقوا فى الجوهر، لقد كانت صرخة فنان عظيم يريد مرة أخرى أن يركب أجنحة النسور.

لا تقلق على أعصابى، طمئنى على أعصابك أنت، وكذلك صحتك.

 تعلم كم أنت عزيز على وغال، وتعلم كم كانت رفقة العمر بيننا سنوات ممتدة تجربة ممتعة بالنسبة لى وكانت خصبة خضراء.

سلمت لى ولكل الذين يعرفون حقك وفضلك على فكر هذه الأمة وثقافتها، ودمت بخير، ودامت بيننا على حد تعبيرك ثوابت المودة والمحبة، ودامت بيننا على حد تعبيرك أيضا متغيرات اختلافنا فى الرأى على أن يكون دائما بالحوار، وهو الأداة الوحيدة للتنوير فى محاولة الإنسان الأبدية والأزلية، طالبا للمعرفة وباحثا عن الحقيقة حرا بسلطان العقل والضمير وسيدا.

    الاكثر قراءة